الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فصل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما حل الركاب النبوي بالمدينة ، كان أول نزوله بها في دار بني عمرو بن عوف ، وهي قباء كما تقدم فأقام بها ، أكثر ما قيل ، ثنتين وعشرين ليلة . وقيل : ثماني عشرة ليلة . وقيل : بضع عشرة ليلة . وقال موسى بن عقبة ثلاث ليال . والأشهر ما ذكره ابن إسحاق وغيره ، أنه عليه الصلاة والسلام أقام فيهم بقباء من يوم الاثنين إلى يوم الجمعة . وقد أسس في هذه المدة المختلف في مقدارها - على ما ذكرناه - مسجد قباء . وقد ادعى السهيلي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسسه في أول يوم قدم إلى قباء ، وحمل على ذلك قوله تعالى : [ ص: 517 ] لمسجد أسس على التقوى من أول يوم ورد قول من أعربها : من تأسيس أول يوم . وهو مسجد شريف فاضل نزل فيه قوله تعالى لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين [ التوبة : 108 ] كما تكلمنا على تقرير ذلك في " التفسير " ، وذكرنا الحديث الذي في " صحيح مسلم " أنه مسجد المدينة والجواب عنه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكرنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا حسين بن محمد ، ثنا أبو أويس ، ثنا شرحبيل ، عن عويم بن ساعدة ، أنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء ، فقال : " إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم ، فما هذا الطهور الذي تطهرون به ؟ " قالوا : والله يا رسول الله ، ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود ، فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط ، فغسلنا كما غسلوا . وأخرجه ابن خزيمة في " صحيحه " وله شواهد أخر . وروي عن خزيمة بن ثابت ، ومحمد بن [ ص: 518 ] عبد الله بن سلام ، وابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد روى أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، من حديث يونس بن الحارث ، عن إبراهيم بن أبي ميمونة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : نزلت هذه الآية في أهل قباء فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين قال : كانوا يستنجون بالماء ، فنزلت فيهم هذه الآية ثم قال الترمذي : غريب من هذا الوجه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قلت : ويونس بن الحارث هذا ضعيف . والله أعلم . وممن قال بأنه المسجد الذي أسس على التقوى; ما رواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة بن الزبير ، ورواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وحكي عن الشعبي ، والحسن البصري ، وقتادة ، وسعيد بن جبير ، وعطية العوفي ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهم . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يزوره فيما بعد ويصلي فيه ، وكان يأتي قباء كل سبت ، تارة راكبا وتارة ماشيا . وفي الحديث " صلاة في مسجد قباء كعمرة وقد ورد في حديث " أن [ ص: 519 ] جبريل عليه السلام ، هو الذي أشار للنبي صلى الله عليه وسلم إلى موضع قبلة مسجد قباء . فكان هذا المسجد أول مسجد بني في الإسلام بالمدينة ، بل أول مسجد جعل لعموم الناس في هذه الملة . واحترزنا بهذا عن المسجد الذي بناه الصديق بمكة عند باب داره ، يتعبد فيه ويصلي; لأن ذاك كان لخاصة نفسه ، لم يكن للناس عامة . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقدم إسلام سلمان في البشارات أن سلمان الفارسي لما سمع بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ذهب إليه ، وأخذ معه شيئا ، فوضعه بين يديه وهو بقباء ، قال : هذا صدقة . فكف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يأكله ، وأمر أصحابه فأكلوا منه ، ثم جاء مرة أخرى ومعه شيء ، فوضعه وقال : هذه هدية . فأكل منه ، وأمر أصحابه فأكلوا تقدم الحديث بطوله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية