الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 503 ] فصل في إيراد حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وهو وحده منسك مستقل ، رأينا أن إيراده هاهنا أنسب ; لتضمنه التلبية وغيرها مما سلف وما سيأتي ، فنورد طرقه وألفاظه ، ثم نتبعه بشواهده من الأحاديث الواردة في معناه ، وبالله المستعان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، ثنا جعفر بن محمد ، حدثني أبي قال : أتينا جابر بن عبد الله وهو في بني سلمة ، فسألناه عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث فيالمدينة تسع سنين لم يحج ، ثم أذن في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج هذا العام . قال : فنزل المدينة بشر كثير ، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويفعل ما يفعل ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لعشر بقين من ذي القعدة وخرجنا معه ، حتى إذا أتى ذا الحليفة نفست أسماء بنت عميس بمحمد بن أبي بكر ، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف أصنع ؟ قال : " اغتسلي ثم استثفري بثوب ، ثم أهلي " . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا استوت به ناقته على البيداء ، أهل بالتوحيد : " لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك " . ولبى الناس ، والناس [ ص: 504 ] يزيدون : ذا المعارج . ونحوه من الكلام والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ، فلم يقل لهم شيئا ، فنظرت مد بصري بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم من راكب وماش ، ومن خلفه مثل ذلك ، وعن يمينه مثل ذلك ، وعن شماله مثل ذلك . قال جابر : ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ، عليه ينزل القرآن ، وهو يعرف تأويله ، وما عمل به من شيء عملناه ، فخرجنا لا ننوي إلا الحج ، حتى إذا أتينا الكعبة ، فاستلم نبي الله صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود ، ثم رمل ثلاثة ، ومشى أربعة ، حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم ، فصلى خلفه ركعتين ، ثم قرأ : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ( البقرة : 125 ) قال أحمد : وقال أبو عبد الله - يعني جعفرا - : فقرأ فيهما بالتوحيد وقل يا أيها الكافرون . ثم استلم الحجر ، وخرج إلى الصفا ، ثم قرأ : إن الصفا والمروة من شعائر الله ( البقرة : 158 ) . ثم قال : " نبدأ بما بدأ الله به " . فرقي على الصفا ، حتى إذا نظر إلى البيت كبر ، ثم قال : " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله وحده ، أنجز وعده ، وصدق عبده ، وهزم - أو غلب - الأحزاب وحده " . ثم دعا ، ثم رجع إلى هذا الكلام ثم نزل ، حتى إذا انصبت قدماه في الوادي رمل ، حتى إذا صعد مشى حتى أتى المروة ، فرقي عليها حتى نظر إلى البيت ، فقال عليها كما قال على الصفا ، فلما كان السابع عند المروة قال : " يا أيها الناس ، إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت ، لم أسق الهدي ، ولجعلتها عمرة ، فمن لم يكن معه هدي فليحل ، وليجعلها عمرة " . فحل الناس كلهم ، فقال سراقة بن مالك بن جعشم وهو في أسفل الوادي : يا رسول الله ، ألعامنا هذا أم [ ص: 505 ] للأبد ؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه ، فقال : " للأبد " . ثلاث مرات . ثم قال : " دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة " . قال : وقدم علي من اليمن بهدي ، وساق رسول الله صلى الله عليه وسلم معه من هدي المدينة هديا ، فإذا فاطمة قد حلت ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت ، فأنكر ذلك علي عليها ، فقالت : أمرني به أبي . قال : قال علي بالكوفة - قال جعفر : قال أبي : هذا الحرف لم يذكره جابر - : فذهبت محرشا أستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذي ذكرت فاطمة ، قلت : إن فاطمة لبست ثيابا صبيغا واكتحلت ، وقالت : أمرني به أبي . قال : " صدقت صدقت صدقت ، أنا أمرتها به " . وقال جابر : وقال لعلي : " بم أهللت ؟ " قال : قلت : اللهم إني أهل بما أهل به رسولك . قال : ومعي الهدي . قال : " فلا تحل " . قال : وكان جماعة الهدي الذي أتى به علي من اليمن ، والذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة ، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثا وستين ، ثم أعطى عليا فنحر ما غبر ، وأشركه في هديه ، ثم أمر من كل بدنة ببضعة ، فجعلت في قدر فأكلا من لحمها ، وشربا من مرقها ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قد نحرت هاهنا ، ومنى كلها منحر " . ووقف بعرفة فقال : " وقفت هاهنا ، وعرفة كلها موقف " . ووقف بالمزدلفة وقال : " وقفت هاهنا ، والمزدلفة كلها موقف " . هكذا أورد الإمام أحمد هذا الحديث ، وقد اختصر آخره جدا . ورواه الإمام مسلم بن الحجاج في المناسك من " صحيحه " ، عن أبي بكر بن [ ص: 506 ] أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم ، كلاهما عن حاتم بن إسماعيل ، عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله ، فذكره .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد أعلمنا على الزيادات المتفاوتة من سياق أحمد ومسلم إلى قوله ، عليه الصلاة والسلام ، لعلي : " صدقت صدقت ، ماذا قلت حين فرضت الحج ؟ " قال : قلت : اللهم إني أهل بما أهل به رسولك صلى الله عليه وسلم . قال : " فإن معي الهدي فلا تحل " . قال : فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة . قال : فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي ، فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج ، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس ، وأمر بقبة له من شعر ، فضربت له بنمرة ، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام ، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية ، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة ، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها ، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له ، فأتى بطن الوادي ، فخطب الناس وقال : " إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم ، هذا في بلدكم هذا ، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ، ودماء الجاهلية موضوعة ، وإن أول دم أضع من دمائنا دم [ ص: 507 ] ابن ربيعة بن الحارث ، كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل ، وربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضعه ربانا ; ربا العباس بن عبد المطلب ، فإنه موضوع كله ، واتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به ; كتاب الله ، وأنتم تسألون عني ; فما أنتم قائلون ؟ " قالوا : نشهد أنك قد بلغت ونصحت وأديت . فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء ، وينكتها إلى الناس : " اللهم اشهد ، اللهم اشهد " . ثلاث مرات ، ثم أذن ، ثم أقام فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، ولم يصل بينهما شيئا ، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف ، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات ، وجعل جبل المشاة بين يديه ، واستقبل القبلة ، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس ، وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص ، وأردف أسامة بن زيد خلفه ، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام ، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ، ويقول بيده اليمنى : [ ص: 508 ] " أيها الناس ، السكينة السكينة " . كلما أتى جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى تصعد ، حتى أتى المزدلفة ، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان وإقامتين ، ولم يسبح بينهما شيئا ، ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر ، فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام ، فاستقبل القبلة ، فدعاه وكبره وهلله ووحده ، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا ، ودفع قبل أن تطلع الشمس ، وأردف الفضل بن العباس ، وكان رجلا حسن الشعر ، أبيض وسيما ، فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت ظعن يجرين ، فطفق الفضل ينظر إليهن ، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل ، فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر ، فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل ، فصرف وجهه من الشق الآخر ينظر ، حتى إذا أتى بطن محسر ، فحرك قليلا ، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى ، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة ، فرماها بسبع حصيات - يكبر مع كل حصاة منها - حصى الخذف ، رمى من بطن الوادي ، ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بيده ، ثم أعطى عليا فنحر ما غبر ، وأشركه في هديه ، ثم أمر من كل بدنة ببضعة ، فجعلت في قدر فطبخت ، فأكلا من لحمها وشربا من [ ص: 509 ] مرقها ، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأفاض إلى البيت ، فصلى بمكة الظهر ، فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم ، فقال : " انزعوا بني عبد المطلب ، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم ، لنزعت معكم " . فناولوه دلوا فشرب منه . ثم رواه مسلم ، عن عمر بن حفص ، عن أبيه ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر ، فذكره بنحوه ، وذكر قصة أبي سيارة ، وأنه كان يدفع بأهل الجاهلية على حمار عري ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " نحرت هاهنا ومنى كلها منحر ، فانحروا في رحالكم ، ووقفت هاهنا ، وعرفة كلها موقف ، ووقفت هاهنا ، وجمع كلها موقف " . وقد رواه أبو داود بطوله عن النفيلي وعثمان بن أبي شيبة وهشام بن عمار وسليمان بن عبد الرحمن - وربما زاد بعضهم على بعض الكلمة والشيء - أربعتهم عن حاتم بن إسماعيل ، عن جعفر ، بنحو من رواية مسلم ، وقد رمزنا لبعض زياداته عليه . ورواه أبو داود أيضا والنسائي ، عن يعقوب بن إبراهيم ، عن يحيى بن سعيد القطان ، عن جعفر به . ورواه النسائي أيضا عن محمد بن المثنى ، عن يحيى بن سعيد ببعضه ، وعن إبراهيم بن هارون البلخي ، عن حاتم بن إسماعيل ببعضه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية