الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      [ ص: 247 ] العقبة الثانية

                                                                                      قال يحيى بن سليم الطائفي ، وداود العطار - وهذا لفظه - : حدثنا ابن خثيم ، عن أبي الزبير المكي ، عن جابر بن عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث عشر سنين يتبع الحاج في منازلهم في المواسم : مجنة ، وعكاظ ، ومنى ، يقول : من يئويني وينصرني حتى أبلغ رسالات ربي وله الجنة ؟ فلا يجد ، حتى إن الرجل يرحل صاحبه من مضر أو اليمن ، فيأتيه قومه أو ذو رحمه يقولون : احذر فتى قريش لا يفتنك ، يمشي بين رحالهم يدعوهم إلى الله عز وجل ، يشيرون إليه بأصابعهم ، حتى بعثنا الله له من يثرب ، فيأتيه الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن ، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه ، حتى لم يبق دار من يثرب إلا وفيها رهط يظهرون الإسلام . ثم ائتمرنا واجتمعنا سبعين رجلا منا ، فقلنا : حتى متى نذر رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف في جبال مكة ويخاف . فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم ، فواعدنا شعب العقبة ، فاجتمعنا فيه من رجل ورجلين ، حتى توافينا عنده ، فقلنا : يا رسول الله علام نبايعك ؟ قال : " على السمع والطاعة في النشاط والكسل ، وعلى النفقة في العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعلى أن تقولوا في الله ، لا تأخذكم فيه لومة لائم ، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم يثرب ، تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ، ولكم الجنة " . فقمنا نبايعه ، فأخذ بيده أسعد بن زرارة ، وهو أصغر السبعين ، [ ص: 248 ] إلا أنا ، فقال : رويدا يا أهل يثرب ، إنا لم نضرب إليه أكباد المطي إلا ونحن نعلم أنه رسول الله ، إن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة ، وقتل خياركم ، وأن تعضكم السيوف ، فإما أنتم قوم تصبرون على عض السيوف إذا مستكم ، وعلى قتل خياركم ، وعلى مفارقة العرب كافة ، فخذوه وأجركم على الله ، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة ، فذروه فهو أعذر لكم عند الله عز وجل . فقلنا : أمط يدك يا أسعد ، فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها ، فقمنا إليه نبايعه رجلا رجلا ، يأخذ علينا شرطه ، ويعطينا على ذلك الجنة .

                                                                                      زاد في وسطه يحيى بن سليم : فقال له عمه العباس : يا ابن أخي لا أدري ما هذا القوم الذين جاءوك ، إني ذو معرفة بأهل يثرب . قال : فاجتمعا عنده من رجل ورجلين ، فلما نظر العباس في وجوهنا ، قال : هؤلاء قوم لا أعرفهم أحداث ، فقلنا : علام نبايعك .

                                                                                      وقال أبو نعيم : حدثنا زكريا ، عن الشعبي ، قال : انطلق النبي صلى الله عليه وسلم معه عمه العباس ، إلى السبعين من الأنصار ، عند العقبة تحت الشجرة ، قال : ليتكلم متكلمكم ولا يطيل الخطبة ، فإن عليكم من المشركين عينا . فقال أسعد : سل يا محمد لربك ما شئت ، ثم سل لنفسك ، ثم أخبرنا ما لنا على الله . قال : أسألكم لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأسألكم لنفسي ولأصحابي أن تئوونا وتنصرونا وتمنعونا مما منعتم منه أنفسكم . قالوا : فما لنا إذا فعلنا ذلك ؟ قال : لكم الجنة . قالوا : فلك ذلك .

                                                                                      ورواه أحمد بن حنبل ، عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، قال : أخبرنا مجالد ، عن الشعبي ، عن أبي مسعود الأنصاري بنحوه ، قال :

                                                                                      [ ص: 249 ] وكان أبو مسعود أصغرهم سنا .

                                                                                      وقال ابن بكير ، عن ابن إسحاق : حدثني عاصم بن عمر ، وعبد الله بن أبي بكر ، أن العباس بن عبادة بن نضلة أخا بني سالم قال : يا معشر الخزرج هل تدرون على ما تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود ، فإن كنتم ترون أنها إذا أنهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتل ، تركتموه وأسلمتموه ، فمن الآن ، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة ، وإن كنتم ترون أنكم مستضلعون به وافون له ، فهو والله خير الدنيا والآخرة . قال عاصم : فوالله ما قال العباس هذه المقالة إلا ليشد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بها العقد .

                                                                                      وقال ابن أبي بكر : ما قالها إلا ليؤخر بها أمر القوم تلك الليلة ، ليشهد أمرهم عبد الله بن أبي ، فيكون أقوى . قالوا : فما لنا بذلك يا رسول الله ؟ قال : الجنة . قالوا : ابسط يدك . وبايعوه ، فقال عباس بن عبادة : إن شئت لنميلن عليهم غدا بأسيافنا ، فقال : لم أؤمر بذلك .

                                                                                      وقال الزهري ورواه ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة وقاله موسى ابن عقبة ، وهذا لفظه : ثم إن العام المقبل حج من الأنصار سبعون رجلا ، أربعون من ذوي أسنانهم وثلاثون من شبانهم ، أصغرهم أبو مسعود عقبة بن عمرو ، وجابر بن عبد الله ، فلقوه بالعقبة ، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه العباس ، فلما أخبرهم بما خصه الله من النبوة والكرامة ، ودعاهم إلى الإسلام وإلى البيعة أجابوه ، وقالوا : اشترط علينا لربك ولنفسك ما شئت . فقال : أشترط لربي أن لا تشركوا به شيئا ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم . فلما طابت بذلك [ ص: 250 ] أنفسهم من الشرط أخذ عليهم العباس المواثيق لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالوفاء ، وعظم العباس الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر أن أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو بن زيد بن عدي بن النجار . وذكر الحديث بطوله .

                                                                                      قال عروة : فجميع من شهد العقبة من الأنصار سبعون رجلا وامرأة . وقال ابن إسحاق : سبعون رجلا وامرأتان ، إحداهما أم عمارة وزوجها وابناهما .

                                                                                      وقال يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق : فحدثني معبد بن كعب بن مالك بن القين ، عن أخيه عبيد الله ، عن أبيه كعب رضي الله عنه ، قال : خرجنا في الحجة التي بايعنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة مع مشركي قومنا ، ومعنا البراء بن معرور كبيرنا وسيدنا ، حتى إذا كنا بظاهر البيداء ، قال : يا هؤلاء تعلمون أني قد رأيت رأيا ، والله ما أدري توافقوني عليه أم لا ؟ فقلنا : وما هو يا أبا بشر ؟ قال : إني قد أردت أن أصلي إلى هذه البنية ولا أجعلها مني بظهر . فقلنا : لا والله لا تفعل ، والله ما بلغنا أن نبينا صلى الله عليه وسلم يصلي إلا إلى الشام . قال : فإني والله لمصل إليها . فكان إذا حضرت الصلاة توجه إلى الكعبة ، وتوجهنا إلى الشام ، حتى قدمنا مكة ، فقال لي البراء : يا ابن أخي انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى أسأله عما صنعت ، فلقد وجدت في نفسي بخلافكم إياي . قال : فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلقينا رجلا بالأبطح ، فقلنا : هل تدلنا على محمد ؟ قال : وهل تعرفانه إن رأيتماه ؟ قلنا : لا والله . قال : فهل تعرفان العباس ؟ فقلنا : نعم ، وقد كنا نعرفه ، كان يختلف إلينا بالتجارة ، فقال : إذا دخلتما المسجد فانظرا العباس ، فهو الرجل الذي معه . قال : فدخلنا [ ص: 251 ] المسجد ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم والعباس ناحية المسجد جالسين ، فسلمنا ، ثم جلسنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تعرف هذين يا أبا الفضل ؟ قال : نعم ، هذا البراء بن معرور سيد قومه ، وهذا كعب بن مالك ، فوالله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الشاعر ) ؟ قال : نعم ، فقال له البراء : يا رسول الله إني قد كنت رأيت في سفري هذا رأيا ، وقد أحببت أن أسألك عنه . قال : وما ذاك ؟ قال : رأيت أن لا أجعل هذه البنية مني بظهر فصليت إليها . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد كنت على قبلة لو صبرت عليها . فرجع إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأهله يقولون : قد مات عليها ، ونحن أعلم به ، قد رجع إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى معنا إلى الشام .

                                                                                      ثم واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة ، أوسط أيام التشريق ، ونحن سبعون رجلا للبيعة ، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر ، وإنه لعلى شركه ، فأخذناه فقلنا : يا أبا جابر والله إنا لنرغب أن بك أن تموت على ما أنت عليه ، فتكون لهذه النار غدا حطبا ، وإن الله قد بعث رسولا يأمر بتوحيده وعبادته ، وقد أسلم رجال من قومك ، وقد واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم للبيعة . فأسلم وطهر ثيابه ، وحضرها معنا فكان نقيبا ، فلما كانت الليلة التي وعدنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى أول الليل مع قومنا ، فلما استثقل الناس من النوم تسللنا من فرشنا تسلل القطا ، حتى اجتمعنا بالعقبة ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمه العباس ، ليس معه غيره ، أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ، فكان أول متكلم ، فقال : يا معشر الخزرج إن محمدا منا حيث قد علمتم ، وهو في منعة من قومه وبلاده ، قد منعناه ممن هو على مثل رأينا منه ، وقد أبى إلا الانقطاع إليكم ، وإلى ما دعوتموه إليه ، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما وعدتموه ، فأنتم وما تحملتم ، وإن كنتم تخشون من أنفسكم خذلانا فاتركوه في قومه ، فإنه في منعة من عشيرته وقومه . فقلنا : قد سمعنا ما قلت ، تكلم يا رسول الله .

                                                                                      [ ص: 252 ] فتكلم ودعا إلى الله ، وتلا القرآن ، ورغب في الإسلام ، فأجبناه بالإيمان والتصديق له ، وقلنا له : خذ لربك ولنفسك . فقال : إني أبايعكم على أن تمنعوني مما منعتم منه أبناءكم ونساءكم . فأجابه البراء بن معرور فقال : نعم والذي بعثك بالحق نمنعك مما نمنع منه أزرنا ، فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أهل الحروب وأهل الحلقة ، ورثناها كابرا عن كابر . فعرض في الحديث أبو الهيثم بن التيهان ، فقال : يا رسول الله إن بيننا وبين أقوام حبالا ، وإنا قاطعوها ، فهل عسيت إن الله أظهرك أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟ فقال : بل الدم الدم والهدم الهدم ، أنا منكم وأنتم مني ، أسالم من سالمتم وأحارب من حاربتم . فقال له البراء بن معرور : ابسط يدك يا رسول الله نبايعك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا ، فأخرجوهم له ، فكان نقيب بني النجار : أسعد بن زرارة ونقيب بني سلمة : البراء بن معرور ، وعبد الله بن عمرو بن حرام ، ونقيب بني ساعدة : سعد بن عبادة ، والمنذر بن عمرو ، ونقيب بني زريق : رافع بن مالك ، ونقيب بني الحارث بن الخزرج : عبد الله بن رواحة ، وسعد بن الربيع ، ونقيب بني عوف بن الخزرج : عبادة بن الصامت وبعضهم جعل بدل عبادة بن الصامت خارجة بن زيد - ونقيب بني عمرو بن عوف : سعد بن خيثمة ، ونقيب بني عبد الأشهل - وهم من الأوس - أسيد بن حضير ، وأبو الهيثم بن التيهان ، قال : فأخذ البراء بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب عليها ، وكان أول من بايع ، وتتابع الناس فبايعوا ، فصرخ الشيطان على العقبة بأنفذ ، - والله - صوت سمعته قط ، فقال : يا أهل [ ص: 253 ] الجباجب هل لكم في مذمم والصباة معه قد اجتمعوا على حربكم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا أزب العقبة ، هذا ابن أزيب ، أما والله لأفرغن لك ، ارفضوا إلى رحالكم . فقال العباس بن عبادة أخو بني سالم : يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا . فقال : إنا لم نؤمر بذلك . فرحنا إلى رحالنا فاضطجعنا ، فلما أصبحنا ، أقبلت جلة من قريش فيهم الحارث بن هشام ، فتى شاب وعليه نعلان له جديدتان ، فقالوا : يا معشر الخزرج إنه قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا لتستخرجوه من بين أظهرنا ، وإنه والله ما من العرب أحد أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم . فانبعث من هناك من قومنا من المشركين يحلفون لهم بالله ، ما كان من هذا من شيء ، وما فعلناه . فلما تثور القوم لينطلقوا قلت كلمة كأني أشركهم في الكلام : يا أبا جابر - يريد عبد الله بن عمرو أنت سيد من سادتنا وكهل من كهولنا ، لا تستطيع أن تتخذ مثل نعلي هذا الفتى من قريش . فسمعه الحارث ، فرمى بهما إلي وقال : والله لتلبسنهما . فقال أبو جابر : مهلا أحفظت - لعمر الله - الرجل يقول : أخجلته اردد عليه نعليه . فقلت : لا والله لا أردهما ، فأل صالح إني لأرجو أن أسلبه .

                                                                                      قال ابن إسحاق : وحدثني عبد الله بن أبي بكر ، قال : ثم انصرفوا عنهم فأتوا عبد الله بن أبي يعني ابن سلول فسألوه ، فقال : إن هذا الأمر جسيم وما كان قومي ليتفوتوا علي بمثله . فانصرفوا عنه .

                                                                                      وقال ابن إدريس ، عن ابن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي بكر [ ص: 254 ] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : ابعثوا منكم اثني عشر نقيبا كفلاء على قومهم ، ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم ، فقال أسعد بن زرارة : نعم يا رسول الله ، قال : فأنت نقيب على قومك ، ثم سمى النقباء كرواية معبد بن مالك .

                                                                                      وقال ابن وهب : حدثني مالك ، قال : حدثني شيخ من الأنصار أن جبريل عليه السلام كان يشير للنبي صلى الله عليه وسلم إلى من يجعله نقيبا . قال مالك : كنت أعجب كيف جاء من قبيلة رجل ، ومن قبيلة رجلان ، حتى حدثني هذا الشيخ أن جبريل كان يشير إليهم يوم البيعة ، قال مالك : وهم تسعة نقباء من الخزرج ، وثلاثة من الأوس .

                                                                                      وقال ابن إسحاق :

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية