الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      [ ص: 364 ] قصة النجاشي

                                                                                      " من السيرة "

                                                                                      ثم إن قريشا قالوا : إن ثأرنا بأرض الحبشة ، فانتدب إليها عمرو بن العاص ، وابن أبي ربيعة .

                                                                                      قال الزهري : بلغني أن مخرجها كان بعد وقعة بدر .

                                                                                      فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم مخرجهما ، بعث عمرو بن أمية الضمري بكتابه إلى النجاشي
                                                                                      .

                                                                                      وقال سعيد بن المسيب وغيره : فبعث الكفار مع عمرو بن العاص ، وعبد الله بن أبي ربيعة للنجاشي ، ولعظماء الحبشة هدايا . فلما قدما على النجاشي قبل الهدايا ، وأجلس عمرو بن العاص على سريره . فكلم النجاشي فقال : إن بأرضكم رجالا منا ليسوا على دينك ولا على ديننا ، فادفعهم إلينا . فقال عظماء الحبشة للنجاشي : صدق ، فادفعهم إليه . فقال : حتى أكلمهم .

                                                                                      قال الزهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن أم سلمة ، قالت : نزلنا الحبشة ، فجاورنا بها خير جار ، النجاشي ، أمنا على ديننا وعبدنا الله عز وجل ، لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه . فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي مع رجلين بما يستطرف من مكة . وكان من أعجب ما يأتيه منها : الأدم . فجمعوا له أدما كثيرا ، ولم يتركوا بطريقا عنده إلا أهدوا له . وبعثوا عبد الله بن أبي ربيعة ، وعمرو بن العاص وقالوا : ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي .

                                                                                      [ ص: 365 ] فقدما ، وقالا لكل بطريق : إنه قد ضوى إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء ، خالفوا دين قومهم ، ولم يدخلوا في دينكم . وقد بعثنا أشرافنا إلى الملك ليردهم ، فإذا كلمناه فأشيروا عليه أن يسلمهم إلينا . فقالوا : نعم .

                                                                                      ثم قربا هداياهما إلى النجاشي فقبلها ، فكلماه . فقالت بطارقته : صدقا أيها الملك ، قومهم أعلى بهم عينا ، وأعلم بما عابوا عليهم . فغضب النجاشي ، ثم قال : لاها الله أبدا ، لا أرسلهم إليهم . قوم جاوروني ونزلوا بلادي ، واختاروني على سواي ، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقولون .

                                                                                      ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما جاء رسوله اجتمعوا ، وقال بعضهم لبعض : ما تقولون إذا جئتموه ؟ قالوا : نقول والله ما علمنا الله ، وأمرنا به نبينا ، كائن في ذلك ما كان . فلما جاءوه وقد دعا النجاشي أساقفته ، ونشروا مصاحفهم حوله ، سألهم : ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ، ولم تدخلوا به في ديني ولا في دين أحد من الملل . قالت : فكلمه جعفر بن أبي طالب ، فقال : أيها الملك : كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء إلى الجار ويأكل القوي منا الضعيف . كنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعا إلى الله لنعبده وحده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا ، [ ص: 366 ] وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام . وعد أمور الإسلام . قال : فصدقناه واتبعناه ، فلما قهرونا وظلمونا وحالوا بيننا وبين ديننا ، خرجنا إلى بلدك ، وآثرناك على من سواك فرغبنا في جوارك ، ورجونا أن لا نظلم عندك .

                                                                                      قال : فهل معك شيء مما جاء به عن الله ؟ قال جعفر : نعم . فقرأ : ( كهيعص ( 1 ) ) [ مريم ] .

                                                                                      قالت : فبكى النجاشي وأساقفته حتى أخضلوا لحاهم ، حين سمعوا القرآن .

                                                                                      فقال النجاشي : إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة . انطلقا ، فوالله لا أسلمهم إليكما أبدا .

                                                                                      قالت : فلما خرجنا من عنده ، قال عمرو بن العاص : والله لآتينه غدا بما أستأصل به خضراءهم . فقال له ابن أبي ربيعة ; وكان أتقى الرجلين فينا : لا تفعل ، فإن لهم أرحاما ، وإن كانوا قد خالفونا . قال : فوالله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى عبد .

                                                                                      قالت : ثم غدا عليه ، فقال : أيها الملك ، إنهم يقولون في عيسى قولا عظيما . فأرسل إلينا ليسألنا . قالت : ولم ينزل بنا مثلها .

                                                                                      فقال : ما تقولون في عيسى ؟ فقال جعفر : نقول فيه الذي جاء به نبينا : عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول .

                                                                                      فضرب النجاشي بيده إلى الأرض ، وأخذ منها عودا ، وقال : ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا المقدار .

                                                                                      قال : فتناخرت بطارقته حين قال ما قال ، فقال : وإن نخرتم [ ص: 367 ] والله . ثم قال لجعفر وأصحابه : اذهبوا آمنين . ما أحب أن لي دبر ذهب ، وإني آذيت واحدا منكم والدبر بلسان الحبشة : الجبل ردوا عليهما هديتهما ، فلا حاجة لنا فيها ، فوالله ما أخذ الله في الرشوة فآخذ الرشوة فيه ، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه . فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به .

                                                                                      قالت : فوالله إنا لعلى ذلك ، إذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه في ملكه ، فوالله ما علمنا حزنا قط أشد من حزن حزناه عند ذلك ، تخوفا أن يظهر عليه من لا يعرف حقنا . فسار إليه النجاشي ، وبينهما عرض النيل .

                                                                                      فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : من يخرج حتى يحضر الوقعة ويخبرنا ؟ فقال الزبير بن العوام : أنا أخرج . وكان من أحدث القوم سنا . فنفخوا له قربة فجعلها في صدره ، وسبح عليها إلى الناحية التي فيها الوقعة ، ودعونا الله للنجاشي ، فوالله إنا لعلى ذلك ، متوقعون لما هو كائن ، إذ طلع علينا الزبير يسعى ويلوح بثوبه : ألا أبشروا ، فقد ظهر النجاشي ، وأهلك الله عدوه . فوالله ما علمنا فرحة مثلها قط .

                                                                                      ورجع النجاشي سالما ، واستوسق له أمر الحبشة . فكنا عنده في خير منزل ، حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة .

                                                                                      أخرجه أبو داود من حديث ابن إسحاق عن الزهري .

                                                                                      وهؤلاء قدموا مكة ، ثم هاجروا إلى المدينة ، وبقي جعفر وطائفة بالحبشة إلى عام خيبر .

                                                                                      وقد قيل إن إرسال قريش إلى النجاشي كان مرتين ، وأن المرة الثانية كان مع عمرو : عمارة بن الوليد المخزومي أخو خالد . ذكر ذلك [ ص: 368 ] ابن إسحاق أيضا . وذكر ما دار لعمرو بن العاص مع عمارة بن الوليد من رميه إياه في البحر ، وسعي عمرو به إلى النجاشي في وصوله إلى بعض حرمه أو خدمه ، وأنه ظهر ذلك في ظهور طيب الملك عليه ، وأن الملك دعا بسحرة فسحروه ونفخوا في إحليله . فتبرر ولزم البرية ، وهام ، حتى وصل إلى موضع رام أهله أخذه فيه ، فلما قربوا منه فاضت نفسه فمات .

                                                                                      وقال ابن إسحاق ، قال الزهري : حدثت عروة بن الزبير حديث أبي بكر عن أم سلمة ، فقال : هل تدري ما قوله : ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه ، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه ؟ قلت : لا . قال : فإن عائشة حدثتني أن أباه كان ملك قومه ، لم يكن له ولد إلا النجاشي . وكان للنجاشي عم ، له من صلبه اثنا عشر رجلا ، وكانوا أهل بيت مملكة الحبشة . فقالت الحبشة : لو أنا قتلنا أبا النجاشي وملكنا أخاه لتوارث بنوه ملكه بعده ، ولبقيت الحبشة دهرا . قالت : فقتلوه وملكوا أخاه . فنشأ النجاشي مع عمه . وكان لبيبا حازما . فغلب على أمر عمه . فلما رأت الحبشة ذلك قالت : إنا نتخوف أن يملكه بعده ، ولئن ملك ليقتلنا بأبيه . فمشوا إلى عمه فقالوا : إما أن تقتل هذا الفتى ، وإما أن تخرجه من بين أظهرنا . فقال : ويلكم ! قتلت أباه بالأمس ، وأقتله اليوم ؟ بل أخرجه . قال : فخرجوا به فباعوه من تاجر من سحائب الخريف ، فخرج عمه يستمطر تحتها فأصابته صاعقة فقتلته . ففزعت الحبشة إلى ولده ، فإذا هو محمق ليس في ولده خير . فمرج [ ص: 369 ] على الحبشة أمرهم وضاق عليهم ما هم فيه . فقال بعضهم لبعض : تعلموا ، والله ، إن ملككم الذي لا يقيم أمركم غيره للذي بعتم . قال : فخرجوا في طلبه وطلب الذي باعوه منه ، حتى أدركوه فأخذوه منه . ثم جاءوا به فعقدوا عليه التاج وأجلسوه على سرير الملك . فجاء التاجر فقال : إما أن تعطوني مالي وإما أن أكلمه في ذلك . فقالوا : لا نعطيك شيئا . قال : إذن والله أكلمه . قالوا : فدونك . فجاءه فجلس بين يديه ، فقال : أيها الملك ، ابتعت غلاما من قوم بالسوق بستمائة درهم ، حتى إذا سرت به أدركوني ، فأخذوه ومنعوني دراهمي . فقال النجاشي : لتعطنه غلامه أو دراهمه . قالوا : بل نعطيه دراهمه .

                                                                                      قالت : فلذلك يقول : ما أخذ الله مني رشوة حين رد علي ملكي ، فآخذ الرشوة فيه . وكان ذلك أول ما خبر من صلابته في دينه وعدله .

                                                                                      قال ابن إسحاق : وحدثني يزيد بن رومان ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : لما مات النجاشي كان يتحدث أنه لا يزال على قبره نور .

                                                                                      قال : وحدثني جعفر بن محمد ، عن أبيه ، قال : اجتمعت الحبشة فقالوا للنجاشي : إنك فارقت ديننا ، وخرجوا عليه . فأرسل إلى جعفر وأصحابه ، فهيأ لهم سفنا ، وقال : اركبوا فيها ، وكونوا كما أنتم ، فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم ، وإن ظفرت فاثبتوا . ثم عمد إلى كتاب فكتب : هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، ويشهد أن عيسى عبده ورسوله وروحه وكلمته .

                                                                                      ثم جعله في قبائه وخرج إلى الحبشة ، وصفوا له ، فقال : يا [ ص: 370 ] معشر الحبشة ، ألست أحق الناس بكم ؟ قالوا : بلى . قال : فكيف رأيتم سيرتي فيكم ؟ قالوا : خير سيرة . قال : فما بالكم ؟ قالوا : فارقت ديننا وزعمت أن عيسى عبد . قال : فما تقولون أنتم ؟ قالوا : هو ابن الله . فوضع يده على صدره ، على قبائه ، وقال : هو يشهد أن عيسى بن مريم . لم يزد على هذا شيئا ، وإنما يعني على ما كتب . فرضوا وانصرفوا .

                                                                                      فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما مات صلى عليه واستغفر له ، رضي الله عنه ، وإنما ذكرنا هذا بعد بدر استطرادا ، والله أعلم .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية