الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                        باب السلم :

                                                                                                        عقد مشروع بالكتاب ، وهو آية المداينة ، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : أشهد أن الله تعالى أحل السلف المضمون ، وأنزل فيها أطول آية في كتابه وتلا قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه }الآية . [ ص: 528 ] وبالسنة وهو ما روي " { أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم }" والقياس وإن كان يأباه ولكنا تركناه بما رويناه . ووجه القياس أنه بيع المعدوم إذ المبيع هو المسلم فيه . [ ص: 529 ] قال : ( وهو جائز في المكيلات والموزونات ) لقوله عليه الصلاة والسلام : " { من أسلم منكم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم }" والمراد بالموزونات غير الدراهم والدنانير لأنهما أثمان والمسلم فيه لا بد أن يكون مثمنا فلا يصح السلم فيهما ; ثم قيل يكون باطلا ، وقيل ينعقد بيعا بثمن مؤجل تحصيلا لمقصود المتعاقدين بحسب الإمكان والعبرة في العقود للمعاني ، والأول أصح لأن التصحيح إنما يجب في محل أوجبا العقد فيه ولا يمكن ذلك .

                                                                                                        قال : ( وكذا في المذروعات ) لأنه يمكن ضبطها بذكر الذرع والصفة والصنعة ، ولا بد منها لترتفع الجهالة فيتحقق شرط صحة السلم ، وكذا في المعدودات التي لا تتفاوت كالجوز والبيض لأن العددي المتقارب معلوم القدر مضبوط الوصف مقدور التسليم فيجوز السلم فيه والصغير والكبير فيه سواء باصطلاح الناس على إهدار التفاوت ، بخلاف البطيخ والرمان ، لأنه يتفاوت آحاده تفاوتا فاحشا وبتفاوت الآحاد في المالية يعرف العددي المتقارب . وعن أبي حنيفة رحمه الله : أنه لا يجوز في بيض النعامة لأنه يتفاوت آحاده في المالية ، ثم كما يجوز السلم فيها عددا يجوز كيلا . وقال زفر رحمه الله : لا يجوز كيلا لأنه عددي وليس بمكيل . وعنه أنه لا يجوز عددا أيضا للتفاوت ، ولنا أن المقدار مرة يعرف بالعدد وتارة بالكيل وإنما صار معدودا بالاصطلاح فصير مكيلا باصطلاحهما ; وكذا في الفلوس عددا . وقيل هذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. [ ص: 530 ] وعند محمد رحمه الله لا يجوز لأنهما أثمان ، ولهما أن الثمنية في حقهما باصطلاحهما فتبطل باصطلاحهما ولا تعود وزنيا ، وقد ذكرناه من قبل .

                                                                                                        [ ص: 526 - 527 ]

                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                        [ ص: 526 - 527 ] باب السلم

                                                                                                        قوله : روي عن ابن عباس أنه قال : أشهد أن الله تعالى أحل السلف المضمون إلى أجل ، وأنزل فيه أطول آية في كتابه ، وتلا قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه }; قلت : رواه الحاكم في " المستدرك في تفسير سورة البقرة " عن أيوب عن قتادة عن أبي حسان الأعرج عن ابن عباس ، قال : أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في الكتاب ، وأذن فيه ، قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه }الآية انتهى . وقال : حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه ، انتهى .

                                                                                                        وكذلك رواه الشافعي في " مسنده " ، ومن طريق الشافعي رواه البيهقي في " المعرفة " ، ورواه عبد الرزاق في " مصنفه " أخبرنا معمر عن قتادة به ، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه " حدثنا وكيع عن هشام عن قتادة به ، ورواه الطبراني في " معجمه " من حديث همام عن قتادة به ، ورأيت بعض مصنفي زماننا عزا هذا الحديث للبخاري ، وهو غلط ، ولم يخرج البخاري في " صحيحه " لأبي حسان الأعرج شيئا ، واسمه مسلم . [ ص: 528 ]

                                                                                                        الحديث الأول : روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ، ورخص في السلم }; قلت : غريب بهذا اللفظ ، وقوله : ورخص في السلم هو من تمام الحديث ، لا من كلام المصنف ، صرح بذلك في كلامه ، وسيأتي في " الحديث الخامس " ، ولكن رأيت في " شرح مسلم " للقرطبي ما يدل على أنه عثر على هذا الحديث بهذا اللفظ ، فقال : ومما يدل على اشتراط الأجل في السلم الحديث الذي قال فيه : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عندك ، ورخص في السلم }.

                                                                                                        قال : لأن السلم لما كان بيع معلوم في الذمة كان بيع غائب ، فإن لم يكن فيه أجل كان هو البيع المنهي عنه ، وإنما استثنى الشرع السلم من بيع ما ليس عندك ، لأنه بيع تدعو الضرورة إليه لكل واحد من المتبايعين ، فإن صاحب رأس المال محتاج إلى أن يشتري التمر ، وصاحب التمر يحتاج إلى ثمنه لينفقه عليه ، فظهر أن صفقة السلم من المصالح الحاجية ، وقد سماه الفقهاء : " بيع المحاويج " ، فإذا كان حالا بطلت هذه الحكمة ، وارتفعت هذه المصلحة ، ولم يكن لاستثنائه من بيع ما ليس عندك فائدة ، انتهى كلامه . والذي يظهر أن هذا حديث مركب ، فحديث النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان أخرجه أصحاب السنن الأربعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " { لا يحل سلف وبيع ، ولا شرطان في بيع ، ولا ربح ما لم يضمن ، ولا بيع ما ليس عندك }" انتهى .

                                                                                                        قال الترمذي : حديث حسن صحيح ، وأخرجوه أيضا عن { حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : لا تبع ما ليس عندك }" ، وحسنه الترمذي ، وقد تقدما في " خيار العيب " ، وأما الرخصة في السلم ، فأخرج الأئمة الستة في " كتبهم " عن أبي المنهال عن ابن عباس ، قال : { قدم النبي صلى الله عليه وسلم والناس يستلفون في الثمر السنتين والثلاث ، فقال : من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ، ووزن معلوم ، إلى أجل معلوم }; وأخرج البخاري عن { عبد الله بن أبي أوفى ، قال : إن كنا لنسلف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم } ، وأبي بكر ، وعمر في الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، وسألت ابن أبي أبزى فقال مثل ذلك ، انتهى . [ ص: 529 ]

                                                                                                        الحديث الثاني : قال عليه السلام : " { من أسلف منكم فليسلف في كيل معلوم ، ووزن معلوم ، إلى أجل معلوم }" ; قلت : أخرجه الأئمة الستة في " كتبهم " عن أبي المنهال ، قال : سمعت ابن عباس يقول : { قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وهم يسلفون في الثمار السنة ، والسنتين ، والثلاث ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ، ووزن معلوم ، إلى أجل معلوم }" انتهى . ورواه أحمد في " مسنده بلفظ : { فلا يسلف إلا في كيل معلوم } ، قال البيهقي : قال الشافعي : معناه إذا أسلف أحدكم في كيل ، فليسلف في كيل معلوم ، وإن أسلف في وزن ، فليسلف في وزن [ ص: 530 ]

                                                                                                        معلوم ، وإذا سمى أجلا ، فليسم أجلا معلوما ، انتهى .




                                                                                                        الخدمات العلمية