الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " ولا بأس أن يشترط في الاعتكاف الذي أوجبه بأن يقول إن عرض لي عارض خرجت " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح .

                                                                                                                                            [ ص: 489 ] وجملة الاعتكاف ضربان : واجب وتطوع .

                                                                                                                                            فأما التطوع فلا يفتقر إلى شرط الخيار إليه في المقام على اعتكافه والخروج منه ، وأما الواجب فهو النذر وهو على ضربين :

                                                                                                                                            مطلق بغير شرط .

                                                                                                                                            ومقيد بشرط ، فأما المطلق بغير شرط فهو ممنوع فيه من الخروج إلا لحاجة الإنسان فإن خرج لغيرها بطل اعتكافه على ما سنذكره ، وأما المقيد بشرط فهو على ضربين : أحدهما : أن يشترط قطع اعتكافه .

                                                                                                                                            والثاني : أن يشترط الخروج منه فإن اشترط قطع اعتكافه ، فصورته أن يقول : لله علي اعتكاف عشرة أيام متتابعات إلا أن يعرض لي كذا وكذا ، فأقطع فهذا نذر صحيح ، وشرط جائز ، فإذا عرض له ما شرط وخرج لأجله لم يلزمه العود إلى اعتكافه ، وتكون المدة التي اعتكفها هي القدر الذي نذره ؛ لأن الاعتكاف يتبعض حكمه ويصح في قليل الزمان وكثيره ، فإذا شرط في نذره قطع اعتكافه بحدوث عارض ، فكان نذره إنما انعقد على هذه معلقة ويكون ما بقي من العشر خارجا عن النذر ، وإن اشترط الخروج من اعتكافه ، فصورته أن يقول : لله علي اعتكاف عشرة أيام متتابعات إلا أن يعرض لي كذا وكذا ، فأخرج فهذا كالأول في صحة نذره وجواز اشتراطه على ما نفصله ، وإنما يفترقان من وجه وهو أنه إذا شرط القطع لم يلزمه العود إليه ، وإذا شرط الخروج لزمه العود إليه ؛ لأن قطع الاعتكاف يوجب رفعه ، والخروج منه لا يوجب رفعه وإنما يقتضي جواز خروجه منه كما يخرج لحاجة نفسه ، فإن قيل : فهلا جاز مثل هذا الشرط في الصلاة والصيام والحج ، قيل : هما شرطان :

                                                                                                                                            أحدهما : قطع الاعتكاف .

                                                                                                                                            والثاني : الخروج منه ، فأما شرط القطع فيجوز مثله في الصلاة والصيام ، وفي جواز مثله في الحج قولان ، وهو أن يقول لله علي صلاة ركعتين أو صيام يوم أو حج البيت إلا أن يعرض لي كذا فأقطع ، فإن عرض له ذلك الشيء الذي شرطه جاز له قطع صومه وصلاته ، وهل يجوز له قطع حجه والإحلال منه قبل كماله أم لا ؟ على قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : يجوز أيضا .

                                                                                                                                            والثاني : لا يجوز .

                                                                                                                                            والفرق بينه وبين سائر العبادات هو أن الحج يلزم المضي فيه بالفعل ، فإذا سقط موجب النذر بالاستثناء والشرط عاد إلى موجب الفعل فلزمه المضي فيه ، وما يسن في [ ص: 490 ] الحج والعبادات كلها ، إذا سقط موجب النذر فيها بالاستثناء والشرط ، وعادت إلى موجب الفعل لم يلزمه المضي فيها ، فوضح الفرق بينهما .

                                                                                                                                            وأما شرط الخروج فلا يجوز مثله في الصلاة والصيام والحج ، ويجوز في الاعتكاف والفرق بينهما من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الخروج لا ينافي الاعتكاف لأنه قد يخرج لحاجة نفسه ويعود إلى اعتكافه ، وينافي الصلاة والصيام والحج ؛ لأنه لا يجوز له الخروج منه والعود إليه لحاجة ولا لغيرها .

                                                                                                                                            والثاني : أن الاعتكاف لا يتقدر بزمان ولا يرتبط بعضه ببعض والصلاة قد ارتبط بعضها ببعض وتقدرت بعمل لا يجوز الاقتصار على بعضه ، وكذلك الصيام مقدر بزمان لا يصح إيقاعه في بعضه ، فلذلك ما افترق حكم الشرط في ذلك ، فإذا تقرر جواز اشتراط الخروج من الاعتكاف دون ما سواه من العبادات ، لم يخل حال ما اشترطه وخرج له من أحد أمرين : إما أن يكون محظورا ، أو مباحا فإن كان مباحا كاستقبال قادم ، أو اقتضاء غريم ولقاء سلطان ، أو كان مستحبا كعيادة مريض وتشييع جنازة ، أو كان واجبا كحضور الجمعة جاز ، ولزمه العود إلى اعتكافه والبناء عليه ، وتكون مدة خروجه مستثناة من نذره بالشرط كما أن أوقات الحاجة مستثناة بالشرع ، وإن كان محظورا فعلى ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه ينافي الاعتكاف كالوطء فإذا خرج من اعتكافه ووطئ بطل اعتكافه ، ولزمه استئنافه ولأن الوطء يمنع من البناء ، وينقض حكم ما مضى فصار بمثابة الوطء في صومه .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أنه لا ينافي الاعتكاف ولكنه ينقضه كالسرقة وقتل النفس المحرمة ، ففي بطلان اعتكافه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : قد بطل ؛ لأن اشتراط المعصية كلا اشتراط فصار بمثابة من خرج بغير شرط . والوجه الثاني : لا يبطل وله البناء عليه ؛ لأن نذره إنما ينعقد على ما سوى مدة الشرط ، فلم يكن نذر المدة مقصودة بالعمل والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية