الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        مما تستأجر له الأرض ، البناء والغراس والزراعة . فإذا قال : أجرتك هذه الأرض ، ولم يذكر البناء ولا غيره ، وكانت صالحة للجميع ، لم يصح العقد ، لأن منافع هذه الجهات مختلفة ، وضررها مختلف ، فوجب التعيين ، كما لو أجر بهيمة ، لا يجوز الإطلاق ، هكذا ذكره الأصحاب ، وجعلوه متفقا عليه ، حتى احتجوا به لأحد الوجهين في إعارة الأرض مطلقا ، لكن قدمنا في مسألة إجارة الأرض التي لا ماء لها ، تصريحهم بجواز الإجارة مطلقا ، ويشبه أن تكون إجارتها مطلقا ، على وجهين ، [ ص: 199 ] كإعارتها . والأصح : المنع فيهما . وما ذكروه في إجارة الأرض التي لا ماء لها ، مفرع على الوجه الآخر أو مئول .

                                                                                                                                                                        قلت : المذهب ، ما نص عليه الأصحاب في المسائل الثلاث ، فلا تصح الإجارة هنا مطلقا ، وتصح العارية على وجه ، لأن أمرها على التوسعة والإرفاق ، فاحتمل فيها هذا النوع من الجهالة كإباحة الطعام ، بخلاف الإجارة ، فإنها عقد مغابنة ، فهذا عمدة الأصحاب . وأما مسألة إجارة الأرض التي لا ماء لها ، [ فمئولة ] . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        أجر بيتا أو دارا ، لا يحتاج إلى ذكر السكنى ، لأن الدار لا تستأجر إلا للسكنى ووضع المتاع فيها ، وليس ضررهما بمختلف ، كذا ذكروه ، ويجوز أن يمنع فيقال : قد تستأجر أيضا ليتخذها مسجدا ، ولعمل الحدادين والقصارين ، ولطرح الزبل فيها ، وهي أكثر ضررا ، فما جعلوه مبطلا في الأرض موجود هنا . فإن قيل : ينزل في الدار على أدنى وجوه الانتفاع وهو السكنى ووضع المتاع ، لزم أن يقال في الأرض مثله وينزل على الزراعة ، ومقتضى هذا الأشكال ، أنه يشترط في استئجار الدار بيان أنه يستأجر للسكنى أو غيرها ، وقد قال به بعض شارحي " المفتاح " .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        قال : أجرتك هذه الأرض لتنتفع بها بما شئت ، صحت الإجارة ، وله أن [ ص: 200 ] يصنع ما شاء ، لرضاه ، وهذا هو الأصح ، وبه قطع الإمام ، والغزالي . وحكى البغوي وجها بالمنع ، كبيع عبد من عبيده . ولو قال : أجرتكها للزراعة ، ولم يذكر ما يزرع ، أو للبناء أو للغراس وأطلق ، صح على الأصح عند الجمهور ، وبالمنع قال ابن سريج ، ونقله ابن كج عن النص في " الجامع الكبير " . ومن جوز قال : يزرع ما شاء ، للإطلاق . وكان يحتمل التنزيل على الأقل . ولو قال : أجرتكها لتزرع ما شئت ، صحت الإجارة ، ويزرع ما شاء ، نص عليه . وعن ابن القطان وجه : أنها فاسدة كبيع عبد من عبيده . ولو قال : أجرتكها لتزرع أو تغرس ، لم يصح . ولو قال : إن شئت فازرعها ، وإن شئت فاغرسها ، صح على الأصح ، ويخير المستأجر . ولو قال : أجرتكها فازرعها واغرسها ، أو لتزرعها وتغرسها ، ولم يبين القدر ، فوجهان . أحدهما وبه قال ابن سلمة : يصح وينزل على النصف . وعلى هذا ، فله أن يزرع الجميع ، لجواز العدول من الغراس إلى الزرع ، ولا يجوز أن يغرس الجميع . وأصحهما : لا يصح ، وبه قال المزني ، وابن سريج ، وأبو إسحاق ، لعدم البيان ، بل قال القفال : لو قال : ازرع النصف واغرس النصف ، لم يصح ، لأنه لم يبين المغروس والمزروع ، فصار كقوله : بعتك أحد هذين العبدين بألف والآخر بخمسمائة .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        يشترط في استئجار الأرض للبناء ، بيان موضعه وطوله وعرضه ، وفي بيان قدر ارتفاعه ، وجهان سبقا في كتاب الصلح . أصحهما : لا يشترط ، بخلاف ما إذا استأجر سقفا للبناء . النوع الثالث : الدواب ، وتستأجر لأغراض . منها : الركوب ، وفيه مسائل . إحداها : يشترط أن يعرف المؤجر الراكب ، وطريق معرفته المشاهدة ، كذا [ ص: 201 ] قاله الجمهور . والأصح : أن الوصف التام يكفي عنها . ثم قيل : يصفه بالوزن . وقيل : بالضخامة والنحافة ليعرف وزنه تخمينا . الثانية : إن كان الراكب مجردا ليس معه ما يركب عليه ، فلا حاجة إلى ذكر ما يركب عليه ، لكن المؤجر يركبه على ما شاء من سرج وإكاف وزاملة على ما يليق بالدابة .

                                                                                                                                                                        وإن كان يركب على رحل له ، أو فوق زاملة ، أو في محمل ، أو في عمارية ، أو أراد في غير الإبل الركوب على سرج أو إكاف ، وجب ذكره . وينبغي أن يعرف المؤجر هذه الآلات . فإن شاهدها ، كفى ، وإلا ، فإن كانت سروجهم ومحاملهم وما في معناها على قدر وتقطيع : لا يتفاحش فيه التفاوت ، كفى الإطلاق ، وحمل على معهودهم . وإن لم يكن معهودا مطردا ، اشترط ذكر وزن السرج والإكاف والزاملة ووصفها . هذا هو الصحيح المعروف . وقال الإمام : لم يتعرض أحد من الأصحاب لاشتراط ذكر الوزن في السرج والإكاف ، لأنه لا يكثر فيهما التفاوت . وأما المحمل أو العمارية ، ففيهما أوجه . أصحها : أن المعتبر فيهما المشاهدة ، أو الوصف مع الوزن لإفادتهما التخمين . والثاني : يكفي الوزن . أو الصفة والثالث : لا بد من المشاهدة . والرابع : إن كانت محامل خفافا كالبغدادية ، كفى الوصف ، لتقاربها ، وإن كانت ثقالا كالخرسانية ، اشترطت المشاهدة ، وقال البغوي : تمتحن الزاملة باليد لتعرف خفتها وثقلها ، بخلاف الراكب لا يمتحن بعد المشاهدة .

                                                                                                                                                                        وينبغي أن يكون المحمل والعمارية في ذلك كالزاملة .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لا بد في المحمل ونحوه من الوطاء ، وهو الذي يفرش فيه ليجلس عليه ، وينبغي أن يعرف بالرؤية أو الوصف ، والغطاء الذي يستظل به ويتوقى من المطر ، قد يكون [ ص: 202 ] وقد لا يكون ، فيحتاج إلى شرطه . وإذا شرطه ، قال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ : يكفي إطلاقه ، لتقارب تفاوته ، ويغطيه بجلد أو كساء أو لبد .

                                                                                                                                                                        وقال ابن كج والمتولي : يشترط رؤيته أو وصفه ، وهو ظاهر النص كالوطاء . لكن إن كان فيه عرف مطرد ، كفى الإطلاق ، وقد يكون للمحمل ظرف من لبود ، أو أدم ، فهو كالغطاء .

                                                                                                                                                                        الثالثة : إذا استأجر للركوب ، وشرط حمل المعاليق وهي السفرة ، والإداوة ، والقدور ، والقمقمة ، فإن أراها المؤجر ، أو وضعها له وذكر وزنها ، صح ، وإلا ، فلا تصح الإجارة على المذهب والمنصوص ، ومن صحح ، حمله على الوسط المعتاد .

                                                                                                                                                                        وإن لم يشرط المعاليق ، لم يستحق حملها على الأصح . وقيل : هو كشرطها مطلقا . وهذا المذكور في السفرة والإداوة الخاليتين ، فإن كان فيهما طعام وماء ، فسيأتي بيانهما في الباب الثاني إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                        الرابعة : إن كانت الإجارة على عين الدابة ، اشترط تعيينها ، وفي اشتراط رؤيتها الخلاف في شراء الغائب . وإن كانت في الذمة ، اشترط ذكر جنسها ، أهي من الإبل ، أم الخيل ، أم الحمير والبغال ؟ ونوعها ، كالبخاتي والعراب .

                                                                                                                                                                        ويشترط بيان الذكورة والأنوثة على الأصح ، لاختلاف الغرض بذلك ، فإن الأنثى أسهل سيرا ، والذكر أقوى . ويشترط أن يقول : مهملج أو بحر أو قطوف ، على الأصح ، لأن معظم الغرض يتعلق بكيفية السير .

                                                                                                                                                                        الخامسة : إذا استأجر دابة للركوب ، فليبينا قدر السير كل يوم ، فإذا بينا ، حملا على المشروط ، فإن زادا في يوم أو نقصا ، فلا جبران ، بل يسيران بعده على الشرط . ولو أراد أحدهما مجاوزة المشروط ، أو النزول دونه لخوف أو غصب ، لم يكن له ذلك ، إلا أن يوافقه صاحبه ، ذكره البغوي . وكان يجوز أن يجعل الخوف عذرا لمن يحتاط ، ويلزم الآخر موافقته .

                                                                                                                                                                        [ ص: 203 ] قلت : هذا الذي قاله البغوي ، ضعيف ، وينبغي أن يقال : إن غلب على الظن حصول ضرر بسبب الخوف ، كان عذرا ، وإلا ، فلا . ولا يتجه غير هذا التفصيل . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فإن لم يبينا قدر السير ، وأطلقا العقد ، نظر ، إن كان في ذلك الطريق منازل مضبوطة ، صح العقد وحمل عليها ، وإن لم يكن منازل ، أو كانت والعادة مختلفة ، لم يصح العقد حتى يبينا أو يقدر بالزمان . هذا هو الصحيح المعروف الذي اشتملت عليه طرق الأصحاب . وقال أبو إسحاق : إذا اكترى إلى مكة في زماننا ، اشترط ذكر المنازل ، لأن السير في هذه الأزمان شديد . وقال القاضي أبو الطيب : إن كان الطريق مخوفا ، لم يجز تقدير السير فيه ، لأنه لا يتعلق بالاختيار ، وتابعه الروياني على هذا . ومقتضاه ، امتناع التقدير بالزمان أيضا ، وحينئذ يتعذر الاستئجار في الطريق الذي ليس له منازل مضبوطة إذا كان مخوفا .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        القول في وقت السير ، أهو الليل ، أم النهار ؟ وفي موضع النزول في المرحلة ، أهو نفس القرية ، أم الصحراء ؟ وفي الطريق الذي يسلكه إذا كان للمقصد طريقان على ما ذكرناه في قدر السير في أنه يحمل على المشروط أو المعهود . وقد يختلف المعهود في فصلي الشتاء والصيف ، وحالتي الأمن والخوف ، فكل عادة تراعى في وقتها ، ومتى شرطا خلاف المعهود ، فهو المتبع ، لا المعهود .

                                                                                                                                                                        [ ص: 204 ]

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية