الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 490 ]

                والشرعي : ما نقله الشرع فوضعه إزاء معنى شرعي ، كالصلاة ، والصيام .

                وقيل : لا شرعية ، بل اللغوية باقية ، وزيدت شروطا .

                لنا : حكمة الشرع تقتضي تخصيص بعض مسمياته بأسام مستقلة ، وذلك بالنقل أسهل منه بالتبقية مع الزيادة .

                التالي السابق


                قوله : " والشرعي : ما نقله الشرع ، فوضعه إزاء معنى شرعي ، كالصلاة والصيام ، وقيل : لا شرعية ، بل اللغوية باقية وزيدت شروطا " .

                أقول : اعلم أن هذه المسألة تعرف بمسألة الحقيقة ، أو الحقائق الشرعية .

                وتلخيص محل النزاع فيها يحتاج إلى كشف ، فإن أكثر الفقهاء يتسلمه تقليدا ، ولو سئل عن تحقيقه لم يفصح به .

                فنقول : أما إمكان وضع الشارع ألفاظا من ألفاظ أهل اللغة أو غيرها على المعاني الشرعية تعرف بها ، فلا خلاف فيه - أعني الإمكان - إذ لا يلزم من تقدير وقوعه محال لذاته ، وإنما النزاع في أن هذه الألفاظ التي استفيدت منها المعاني الشرعية : هل خرج بها الشارع عن وضع أهل اللغة باستعمالها في غير موضوعهم ؟

                مثاله : أن الصلاة في اللغة : الدعاء ، والزكاة : الطهارة أو النماء ، والحج : القصد . وفي الشرع : الصلاة والحج : أفعال مخصوصة ذات شروط وأركان ، والزكاة : إخراج جزء مقدر من مقدار خاص ونوع خاص من المال ، إلى قوم مخصوصين على وجه القربة . فهل خرج الشارع باستعمال هذه الألفاظ في هذه المعاني عن وضع اللغة ، بمعنى أنه أعرض فيها عن الموضوع اللغوي ، فلم يلاحظه أصلا ، بل خطف مثلا لفظ الصلاة فوضعه على الأفعال المعروفة شرعا ، وأعرض عن الموضوع اللغوي الذي هو الدعاء ، وهذا معنى قولنا : ما نقله الشرع ، [ ص: 491 ] أي : معرضا عن موضوعه في اللغة . أم لم يخرج بذلك عن موضوعهم ، بل لاحظ في كل لفظ موضوعه اللغوي ، لكنه زاد فيه شروطا شرعية ؟

                مثلا : إن موضوع الصلاة لغة - وهو الدعاء - مراد للشرع ، وملاحظ في نظره ، لكن ضم إليه اشتراط الوضوء ، والوقت ، والسترة ، والاستقبال ، والنية ، والتحريمة ، والركوع ، والسجود ، والطمأنينة ، والتشهد ، والتسليم . وهذا معنى قولنا : وقيل : لا شرعية ، أي : مستقلة مع الإعراض عن اللغوية ، بل اللغوية باقية ، وزيدت شروطا ، فهذا تلخيص محل النزاع في المسألة .

                وعلى القول الأول : تكون الألفاظ الواردة ، كالصلاة ، والزكاة ، والحج ، ونحوها ، بالنسبة إلى الشرع واللغة : من باب المشترك ، كالعين والقرء ، لأن المدلول مختلف مطلقا بأصل الوضع .

                وعلى القول الثاني : يكون من باب المتواطئ كالحيوان ، إذ بين الصلاة لغة وشرعا قدر مشترك ، وهو الدعاء ، كما أن بين أنواع جنس الحيوان ، كالفرس ، والبعير ، والشاة ، ونحوها قدرا مشتركا ، وهو الحيوانية .

                وإذا عرفت ذلك ، فالقول الأول - وهو إثبات الحقيقة الشرعية - هو مذهب الفقهاء ، والخوارج ، والمعتزلة ، ثم قالت المعتزلة : هذه الأسماء الواردة في الشرع : إما جارية على الأفعال ، كالصلاة ، والزكاة ، والصوم ، ونحوها ، فهي شرعية ، أو جارية على الفاعلين ، كالمؤمن ، والفاسق ، والكافر ، فهي دينية ، تفرقة بين القسمين ، وإن استويا في أن الجميع عرف شرعي . كذا حكي عنهم في " المحصول " . [ ص: 492 ]

                ويلزم عليه أن يسموا المصلي والصائم والمزكي أسماء دينية ، لجريانها على الفاعل ، والإيمان والفسق والكفر أسماء شرعية ، لجريانها على الفعل .

                والصواب في ذلك أن يقال : إنها عملي ، وهي الشرعية ، أو اعتقادي ، وهي الدينية . وهذه القسمة ، وإن لم تخل عما يقال فيها ، أولى وأطرد من الأولى .

                والقول الثاني : وهو نفي الحقيقة الشرعية ، هو قول القاضي أبي بكر بن الطيب .

                قوله : " لنا : حكمة الشرع تقتضي " ، إلى آخره ، هذا حين الشروع في الاستدلال ، والاعتراض على المسألة المذكورة .

                وتقرير هذا الدليل على إثبات الحقيقة الشرعية ، أن حكمة الشرع تقتضي تخصيص مسمياته بأسام مستقلة ، " وذلك " ، أي : وتخصيص مسمياته بأسام مستقلة يحصل بالنقل ، أي : بنقل الألفاظ اللغوية مع الإعراض عن موضوعاتها لغة إلى الشرع أسهل من حصوله بتبقية الموضوعات اللغوية ، مع زيادة الشروط الشرعية .

                أما أن حكمة الشرع تقتضي تخصيص مسمياته بأسام مستقلة فذلك لوجهين :

                أحدهما : أن ذلك أشرف له ، وأنبل لقدره ، من جهة أنه بذلك يكون مستقلا بنفسه في ألفاظه ومعانيه ، وبتقدير عدم ذلك يكون تبعا للغة في ألفاظه ، ولا شك أن الاستقلال أشرف من التبعية ، ولهذا قال الشاعر الحكيم : [ ص: 493 ]


                ليت هندا أنجزتنا ما تعد وشفت أنفسنا مما نجد واستبدت مرة واحدة
                إنما العاجز من لا يستبد

                والاستبداد : الاستقلال .

                الوجه الثاني : أن تخصيص مسمياته بأسام مستقلة هو أبين للمكلفين ، وأجدر بزوال الاشتباه عنهم ، لأن بتقدير ذلك يكون لفظ الصلاة مثلا مشتركا بين الدعاء لغة ، والصلاة شرعا ، وصدور اللفظ عن الشارع قرينة في إرادة المسمى الشرعي ، والمشترك إذا انضمت إليه القرينة صار في غاية البيان ، وهو أبين من المتواطئ ، بتقدير عدم تخصيص الشرع مسمياته بأسام مستقلة .

                وإنما قلنا : إن المشترك مع القرينة أبين من المتواطئ ، لأن القرينة تعين أحد محملي اللفظ المشترك فيتبادر الفهم إليه قاطعا بأنه المراد ، والمتواطئ يبقي الذهن - لأجل القدر المشترك بين أفراده - مترددا ، لا يدري على ما يحمل لفظه منها ، وإن كان حمله على جميعها ، أو على القدر المشترك بينها ممكنا ، غير أن حمل اللفظ المشترك على غير أحد محمليه أدخل في الاختصاص ، والبيان أولى ، فكان أولى .

                مثال ذلك : لو قال السيد لعبده : خذ عينا ، واذهب فاشتر لنا خبزا ، أو أحضر لنا عينا نشرب منها ماء ، علمنا أنه أراد في الصورة الأولى عين الذهب ، بقرينة الشراء ، [ ص: 494 ] لأنه أصل في الأثمان ، وفي الصورة الثانية : أنه أراد عين الماء بقرينة الشرب ، فكان ذلك بيانا قاطعا .

                ولو قال له : اذهب ، فاشتر لنا حيوانا ، بقي في بادئ الرأي مترددا ، بين أن يشتري عبدا ، أو فرسا ، أو شاة ، أو ثورا . ومجرد هذا التردد يكفينا في ترجيح الاشتراك مع القرينة ، لمبادرته إلى فهم المراد .

                فلو قدرنا أن العبد استشار أو نظر ، فقال : إني أمرت بشراء حيوان ، وبشراء القدر المشترك - وهو ما يسمى حيوانا - أخرج عن العهدة ، لكان هذا طريقا إلى السلامة من الملامة ، لكنه بعد بطء ، وهو مع ذلك على غير يقين من البراءة ، بخلاف ما إذا قيل له : احفر لنا عينا نشرب منها ، فإنه يبادر إلى أخذ المسحاة ، قاطعا بأن المراد عين الماء ، والمقابلة في هذا الوجه بين المتواطئ والمشترك مع القرينة المعينة للمراد ، فلا يرد قول الخصم : الحمل على التواطؤ أولى من الحمل على الاشتراك ، لأن ذلك إنما يكون في المشترك المجرد عن قرينة ، لا في المقترن بها .

                وأما أن تخصيص الشرع مسمياته بأسام مستقلة ، يكون بالنقل أسهل منه بالتبقية مع الزيادة ، فلوجهين أيضا :

                أحدهما : أن النقل فعل واحد ، والتبقية مع الزيادة فعلان ، وفعل واحد أسهل [ ص: 495 ] من فعلين بالضرورة .

                الوجه الثاني : ما سبق تقريره من لزوم الإبهام بالتواطؤ ، وذلك لأنه إذا أبقى لفظ الصلاة مثلا على مسمى الدعاء لغة ، ثم ضم إليه شروط الصلاة وأركانها ، وقع التردد عند إطلاق اللفظ بين المراد اللغوي أو الشرعي ، فحصل الإبهام ، بخلاف إطلاق اللفظ من الشرع ، على تقدير النقل مع الإعراض عن المعنى اللغوي ، فإنه يكون قاطعا في المراد الشرعي كما سبق .




                الخدمات العلمية