الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 338 ]

                فإن قيل : الخطاب استدعاء المشروط ، فأين دليل وجوب الشرط ؟ قلنا : الشرط لازم للمشروط ، والأمر باللازم من لوازم الأمر بالملزوم ، وإلا كان تكليفا بالمحال ، والأصل عدمه . وإن لم يكن شرطا ، لم يجب ، خلافا للأكثرين .

                قالوا : لابد منه فيه .

                قلنا : لا يدل على الوجوب ، وإلا لوجبت نيته ، ولزم تعقل الموجب له ، وعصي بتركه بتقدير إمكان انفكاكه .

                التالي السابق


                قوله : " فإن قيل " إلى آخره ، هذا اعتراض على القول بإيجاب الشرط .

                وتقريره : أن الخطاب إنما استدعى المشروط - وهو الصلاة مثلا - في قوله : صل ، ولم يصرح بإيجاب الشرط ، وهو الوضوء ، والسترة ، والاستقبال ، وغيرها ، ومع عدم التصريح بإيجابه لا دليل على وجوبه ، فأين دليله ؟

                قوله : " قلنا : الشرط لازم للمشروط " إلى آخره ، هذا جواب الاعتراض المذكور .

                وتقريره : أن الشرط لازم للمشروط ، أي : لا ينفك عنه ، كما لا ينفك الجدار عن السقف ، حيث كان لازما له ، " والأمر من لوازم الأمر بالملزوم " أي : يلزم من الأمر بالملزوم - وهو الصلاة هاهنا - الأمر باللازم ، وهو الوضوء ، كما يلزم من الأمر ببناء السقف الأمر ببناء الحائط عقلا " وإلا " أي : وإن لم يكن الأمر باللازم من لوازم الأمر بالملزوم ، لكان تكليفا بالمحال ، إذ يصير التقدير : صل صلاة شرعية ، من [ ص: 339 ] شرط صحتها الوضوء ، ولست مأمورا به ، أو بغير وضوء . ووجود صلاة شرعية بدون وضوء محال ، كما أن وجود سقف لا جدار تحته يلزمه محال .

                قوله : " والأصل عدمه " ، أي : عدم التكليف بالمحال ، لا أنا نمنع جوازه ، إذ قد قررناه فيما سبق ، فلا يسعنا هاهنا منعه ، بل هو جائز ، لكن الأصل عدمه . ولأن التكاليف الشرعية الفرعية لم يقع فيها شيء من المحال ، فجعل هذا الحكم منها أولى من إخراجه عنها . وقد سبق أن تكليف المحال لم يقع إلا في خلق الأفعال .

                وتلخيص هذا الجواب : أنه بالمنع ، لقولهم : مع عدم التصريح بإيجاب الشرط لا دليل على وجوبه .

                ومعناه : لا نسلم انحصار طريق الإيجاب في التصريح ، بل قد يكون الإيجاب تصريحا ومطابقة ، وقد يكون إيماء والتزاما ، وهو ما ذكرناه من أن الشرط لازم للمشروط ، والأمر بالملزوم أمر باللازم .

                قوله : " وإن لم يكن شرطا " إلى آخره ، أي : وإن لم يكن ما لا يتم الواجب إلا به شرطا ، كمسح جزء من الرأس في غسل الوجه في الوضوء ، وإمساك جزء من الليل مع النهار في الصوم ، فإن الأول ليس شرطا في الوضوء ، والثاني ليس شرطا في الصوم ، بخلاف النية فيهما ، والوضوء في الصلاة ، فهذا لا يجب ، خلافا للأكثرين ، حيث قالوا بوجوبه .

                قوله : " قالوا : لابد منه فيه " . هذا دليل الأكثرين على وجوبه . [ ص: 340 ]

                وتقريره : أن ما لا يتم الواجب إلا به لابد منه في الواجب ، وما لابد منه في الواجب يكون واجبا .

                أما الأولى : فباتفاق . إذ لابد في الوضوء من غسل جزء من الرأس .

                وأما الثانية : فلأن الواجب هو اللازم ، وما لابد منه لازم ، فما لابد منه واجب ، فما لا يتم الواجب إلا به واجب .

                قوله : " قلنا : لا يدل على الوجوب " أي : كون ما لا يتم الواجب إلا به لابد منه في الواجب لا يدل على الوجوب ، فلا يكون واجبا . أما أنه لا يدل على الوجوب ، فلأن معنى قولنا : لابد من الشيء أن فعله لازم ، لكن اللزوم تارة شرعي ، وتارة عقلي ، والشرعي منتف ، لانتفاء الخطاب المقتضي ، إذ الكلام فيما إذا كان الأمر بالواجب مطلقا ، لمن يتعرض لما لم يتم إلا به نفيا ولا إثباتا . والعقلي أيضا . منتف ، لأن الكلام فيما توقف عليه الواجب وليس بشرط ، وفي هذا نظر ، ولو سلم أن اللزوم العقلي موجود ، لكن ليس الكلام فيه ، إذ موضوع النظر في هذه المسألة هو اللزوم الشرعي . أعني ما لا يتم الواجب الشرعي شرعا إلا به ، وليس شرطا فيه .

                والتقدير : أن الخطاب الشرعي منتف فينتفي الوجوب .

                قلت : وبعد هذا كله يلزم نافي الوجوب هنا ما لزم نافيه في القسم الذي قبله ، وهو أن ما لابد منه في الواجب هو من لوازمه ، والأمر بالملزوم أمر باللازم . وقد سبق تقريره ، ومدار حجة المثبتين هاهنا عليه . [ ص: 341 ]

                قوله : " وإلا لوجبت نيته إلى آخره " هذه إلزامات ثلاثة ، تلزم من قال بالوجوب هنا . وتقريرها :

                أما الإلزام الأول ، فيقال : لو كان ما لا يتم الواجب إلا به - وهو غير شرط - واجبا ، لوجبت نيته ، أي : النية لفعله ، كالنية لغسل جزء من الرأس ، وإمساك جزء من الليل ، لكن لا تجب نيته باتفاق ، فلا يكون واجبا . أما الملازمة ، فلأن كل واجب تجب له النية ، لأن كل واجب عبادة ، وكل عبادة تجب لها النية ، فكل واجب تجب له النية . وأما أنه إذا لم تجب نيته لا يكون واجبا ، فلأن النية من لوازم الواجب ، وإذا انتفى اللازم انتفى ملزومه .

                فإن قيل : لا نسلم أن النية من لوازم الواجب ، إذ بعض الواجبات لا تجب فيها النية ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى عند الفراغ من مسائل الواجب ، وحينئذ لا يلزم من وجوب ما لا يتم الواجب إلا به وجوب نيته .

                قلنا : النية إنما تسقط في بعض الواجبات بالنسبة إلى الخروج عن عهدة حقوق الآدميين ، أما بالنسبة إلى كونه عبادة يترتب عليه الثواب والعقاب فعلا وتركا ، فلا ، ونحن من هذه الجهة نعتبره ، ونشترط فيه النية .

                وأما الإلزام الثاني ، فيقال : لو كان هذا الذي لا يتم الواجب إلا به واجبا ، لزم تعقل الموجب له ، أي : لزم أن يتعقل المكلف من أوجبه عليه ، لكن لا يجب تعقل الموجب له ، فلا يكون واجبا .

                واعلم أن هذه الملازمة صحيحة ، إذ لابد في الواجب من موجب له ، يلزم من تعقل الواجب تعقله ، كما يلزم من تعقل الفعل تعقل فاعله ، ومن تعقل الأثر تعقل [ ص: 342 ] مؤثره ، لكن انتفاء اللازم - وهو أنه لا يلزم تعقل الموجب لما لا يتم الواجب إلا به - ممنوع ، فإن للخصم أن يقول : لما دل الدليل الالتزامي على وجوب غسل جزء من الرأس مع الوجه تحقيقا لغسل الوجه ، كان الموجب لغسل جزء من الرأس هو الموجب لغسل الوجه ، فالموجب المتعقل في غسل الوجه هو بعينه متعقل في غسل جزء من الرأس .

                وأما الإلزام الثالث ، فيقال : لو كان ما لا يتم الواجب إلا به واجبا ، لكان بتقدير انفكاكه عن الواجب يعصي المكلف بتركه ، لكنه لا يعصي بتركه ، لأنه لو قدر إمكان استيعاب غسل الوجه بدون غسل شيء من الرأس واستيعاب اليوم بدون إمساك جزء من الليل ، لما عصى بترك الجزء منهما ، وإذا لم يعص بتركه لا يكون واجبا ، لأن العصيان بالترك من خواص الواجب ، وإذا انتفت خاصة الشيء انتفى ذلك الشيء .

                والاعتراض على هذا الإلزام أن يقال : الانفكاك الذي قدرتموه محال في العادة ، لأن الفصل بين حد الرأس والوجه ، والليل والنهار تحقيقا ، بحيث يمكن استيعاب كل واحد منها بحكمه دون جزء من مجاوره مما لا قوة للبشر على تحقيقه ، وإذا كان محالا في العادة جاز أن يلزمه محال عادي ، وهو عدم التعصية بتركه ، فيكون عدم تعصيته بتركه محالا لازما لمحال ، والمحال يلزمه المحال .

                أو يقال : الواجب شرعا على وزان الواجب عقلا ، وكما أن الواجب عقلا تارة يكون وجوبه لذاته ، وتارة لغيره . فكذلك الواجب شرعا ، تارة يجب قصدا بالنظر إلى [ ص: 343 ] نفسه ، وتارة يجب تبعا بالنظر إلى غيره ، وما لا يتم الواجب إلا به من هذا القبيل ، فإن غسل جزء من الرأس ونحوه ليس واجبا بالقصد ، بل تبعا لغسل الوجه ، ما لم يتحقق غسله إلا به ، فإذا أمكن استيعاب غسل الوجه بدونه انتفت الجهة التي من أجلها وجب ، وعاد إلى جهته الأصلية وهي عدم الوجوب ، وحينئذ يكون عدم وجوبه بتقدير الانفكاك محل وفاق ، خارجا عن محل النزاع ، لأنه حينئذ غير واجب ، وإنما الكلام فيما لا يتم الواجب إلا به مادام كذلك .

                واعلم أن ما لا يتم الواجب إلا به قد يتعارض من جهتين ، فيرجح أهمهما ، أو يتوقف إن استويا ، وذلك كالمحرمة يجب عليها كشف وجهها ، وستر رأسها ، ولابد في استيعاب كشف الوجه من كشف جزء من الرأس ، ولابد في استيعاب تغطية الرأس ، من تغطية جزء من الوجه ، فيحتمل أن تغطي جزءا من وجهها تبعا لرأسها ، محافظة على ستر العورة ، إذ أمرها في الإحرام مبني على التخفيف لذلك ، ويحتمل أن تكشف جزءا من رأسها تبعا لوجهها ، محافظة على وظيفة الإحرام لأنه العبادة الحاضرة النادرة .

                تنبيه : قال الشيخ أبو محمد : قولنا : ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب أولى من قولنا : يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب ، إذ قولنا : يجب ما ليس [ ص: 344 ] بواجب متناقض .

                قلت : ولا تناقض فيه ، وإنما تابع فيه أبا حامد رضي الله عنهما .

                وبيان عدم التناقض فيه : هو أن موضوع إثبات الوجوب ونفيه في العبارة ليس متحدا ، بل متعددا ، وإنما يلزم التناقض لو كان متحدا ، كقولنا : يجب ما ليس بواجب ، أو يجب التوصل وليس بواجب ، وبيان تعدد موضوع الإثبات والنفي قولنا : يجب موضوعه ، أي : التوصل ، فهو مسند إليه على أنه فاعل له .

                وقولنا بما ليس بواجب موضوعه الذي سلب عنه هو " ما " التي بمعنى الذي .

                وتقديره بالمثال : يجب التوصل إلى غسل الوجه الواجب بغسل جزء من الرأس ، فما صار قوله يجب التوصل بما ليس بواجب ، كقوله : يجب ما ليس بواجب حتى يكون متناقضا ، ولو سلم أن العبارتين سواء ، لكن قولنا : يجب ما ليس بواجب في هذا الباب ليس متناقضا ، لأن شرط التناقض اتحاد الجهة ، وهي هاهنا غير متحدة ، لأن المراد به : يجب من حيث توقف الواجب عليه ، وليس بواجب بالنظر إلى نفسه كما شرحناه .

                وثبت بهذا ، أن قولنا : ما لا يتم الواجب إلا به واجب ، وقولنا : التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب ، سواء ، لا فرق بينهما في مقصود هذا الباب . وإنما في هذه العبارة تناقض لفظي ، لكونها اشتملت على إثبات لفظ الوجوب ونفيه ، مع اختلاف محله ، فظناه تناقضا معنويا ، أو لعلهما كرها التناقض اللفظي فعدلا عنه إلى غيره ، والله تعالى أعلم .




                الخدمات العلمية