الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 63 ]

                تنزهت في حكمتك عن لحوق الندم ، وتفردت في إلهيتك بخواص القدم ، وتعاليت في أزليتك عن سوابق العدم ، وتقدست عن لواحق الإمكان .

                التالي السابق


                قوله : " تنزهت في حكمتك عن لحوق الندم ، وتفردت في إلهيتك بخواص القدم ، وتعاليت في أزليتك عن سوابق العدم ، وتقدست عن لواحق الإمكان " .

                تنزهت ، أي : تباعدت عن لحوق الندم ، ومادة ن ز هـ ترجع إلى معنى البعد على ما أشار إليه في " الصحاح " وفهم من فروع المادة التي ذكرها هناك . والحكمة : معنى قام بالذات ، يتحقق به وقوع الأفعال وسطا بين طرفي الإفراط والتفريط ، خالية عن التفريط والتبسيط ، آمنة من لحوق الاختلال في الحال والمآل ، ولما كان الله سبحانه وتعالى كامل الحكمة ، لم يلحقه فيما يفعله ندم ، لأنه سبحانه وتعالى مع كمال حكمته تام العلم بما كان وسيكون ، فلا يتطرق عليه الندم ، مع كمال الحكمة والعلم ، خلافا لليهود - لعنهم الله - فإنهم يزعمون أن البارئ سبحانه وتعالى غضب على العالم في زمن نوح عليه السلام ، فأهلكهم بالطوفان ، ثم ندم على إهلاكهم وبكى حتى رمدت عيناه ، فعادته الملائكة في الرمد ، وفي التوراة : أن الشر لما كثر في زمن نوح عليه السلام أسف الرب وحزن قلبه على خلقه لآدم في الأرض ، وعزم على إهلاك من فيها من كل ذي روح إلا نوحا عليه السلام ، فإنه وجد رحمة بين يدي الرب ، وأن الله تعالى لما أهلك العالم بالطوفان قال في قلبه : لا أعود أبيد أهل الأرض لموضع أن ضمير قلب الإنسان إلى الشر مذ حداثته [ ص: 64 ] ولا أعود أهلك كل حي كالذي فعلت وهذا عين الندم ، وهو من تحريف اليهود عليهم اللعنة .

                وتفردت ، أي : توحدت واختصصت ، والإلهية هي كونه إلها ، كما أن العالمية والقادرية عند مثبتي الأحوال كونه عالما قادرا .

                والخواص : جمع خاصة ، وهو معنى كلي ، يلزم الشيء ولا يوجد في غيره ، كالضحك للإنسان ونحوه ، وللمنطقيين في تعريف الخاصة وغيرها من الكليات الخمس رسوم مشهورة ، وما ذكرناه في تعريف الخاصة أعم مما يذكرونه ، لأنه المراد هاهنا .

                والقدم : يمكن أن يستعمل فيه التعريف العدمي ، وهو عدم الأولية أو عدم السبق بالعدم ، ويمكن أن يستعمل فيه التعريف الوجودي ، وهو استغراق الأزمنة التحقيقية والتقديرية بالوجود ، وإنما قلنا الأزمنة التحقيقية والتقديرية ، لأن الزمان عندنا على ضربين : تحقيقي : وهو الصادر عن حركات الأفلاك ، وتقديري : وهو ما قبل خلق الأفلاك ، يعني أن إيجادها قبل أن يخلقها البارئ سبحانه وتعالى كان ممكنا ، وكانت حينئذ الأزمنة التحقيقية تصدر عنها ، وهذا يحتاج إليه ، ولا بد في الجواب عما رواه مسلم وغيره من الأئمة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : خلق الله التربة يوم السبت ، وخلق الجبال فيها يوم [ ص: 65 ] الأحد الحديث ، على ما بينته في باب صلاة الجمعة من مختصر الترمذي ، وهذا على رأينا ، أما على رأي الفلاسفة في قدم الزمان التحقيقي ، فلا يحتاج إلى قولنا : والتقديرية ، وخواص القدم على ما ذكره المتكلمون وغيرهم : أن القديم لا يكون إلا واحدا ، ولا يكون جوهرا ولا عرضا ، ولا يكون له بداية ولا نهاية ، بل هو أزلي سرمدي . واشترط بعضهم : أن لا يكون وجوده زائدا على ذاته ، وكذلك صفاته ، وفي بعض ذلك تحقيق ونظر .

                والخواص : جمع خاصة ، وهي ما يلازم الشيء ولا يفارقه ، ولا يوجد في غيره ، كانتصاب القامة للإنسان ونحو ذلك . وقد سبق ذكر معنى الخاصة عن قرب .

                وتعاليت : تفاعلت من العلو والرفعة ، وهو تعالى معنوي لا حقيقي بمعنى الجهة ، كما يقال : ترفع زيد عن لحوق العار ونحوه .

                والأزلية : لفظة منسوبة إلى الأزل ، وهي في عرف المتكلمين والفلاسفة عبارة [ ص: 66 ] عما يدل عليه القدم من نفي الأولية والمسبوقة بالعدم ، ويقابلونه بالأبد ، وهو عدم التناهي في استمرار الوجود . يقولون مثلا : ذات الله وصفاته الذاتية موجودة أزلا وأبدا ، وفي الأزل والأبد ، فما لا يزال عبارة عن الأبد أيضا . وهذا يدل على أن الأزل عندهم عبارة عن مفهوم لم يزل ، لأنهم يقولون فيما لم يزل ولا يزال . لا لنفي المستقبل ، وقد استعملوا النفي بها بمعنى الأبد ، و " لم " لنفي الماضي ، وهم يستعملون النفي بها بمعنى الأزل ، فدل على ما قلناه من أن الأزل هو عبارة عما لم يزل .

                وذهب بعض أهل اللغة إلى أن لفظ الأزل ليس من لغة العرب ، ولا يعرفونه ، وإنما هو من توليد الفلاسفة والمتكلمين ، فكأنهم اختصروا ما لم يزل في لفظ الأزل . وقال الجوهري : الأزل بالتحريك : القدم ، يقال : أزلي ، ذكر بعض أهل العلم : أن أصل هذه الكلمة قولهم للقديم : لم يزل ، ثم نسبت إلى هذا فلم تستقم إلا باختصار فقالوا : يزلي ثم أبدلت الياء ألفا لأنها أخف ، كما قالوا في الرمح المنسوب إلى ذي يزن : أزني .

                أما الأبد : فهو في لغة العرب : الدهر ، والجمع آباد ، والأبد أيضا : الدائم ، وكأنه الأصل ، والسرمد : الدائم أيضا ، وكأنه من السرد ، وهو المتابعة ، فكأن [ ص: 67 ] السرمد الدائم المتتابع وفي التنزيل : قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة [ القصص : 72 ] الآية ، أي دائما لا يتخلله ليل .

                وسوابق العدم : جمع سابقة ، أي لم يتقدم وجودك عدمات سابقة ، أو أزمنة سابقة ، لأن أزليتك أبت ذلك ، وقد كان الإتيان بلفظ الواحد في سابق ولاحق ، أو سابقة ولاحقة أبلغ في التبرئة والتنزيه فكان يقال : تنزهت عن سابق العدم ، وتقدست عن لاحق الإمكان ، أو عن سابقة العدم ، ولاحقة الإمكان ، لأن نفي الفرد يستلزم نفي الجمع ، ونفي الجمع لا يستلزم نفي الفرد على ما عرف ، لكن كان لفظ الجمع أولى باعتدال الكلام واتزانه فآثرناه ، مع أن الخطب في هذا يسير .

                وتقدست : أي تطهرت ، وجميع مادة " ق د س " أو غالبها ترجع إلى معنى الطهارة والتطهير .

                ولواحق الإمكان : ما يلحق الممكن لكونه ممكنا ، كالحدوث ، والافتقار إلى المؤثر ، والتركيب إن كان جسما ، وشغل الحيز إن كان جوهرا ، والافتقار إلى ما يقوم به ، وعدم التقاء زمانين ، أو تعقب عدم وجوده إن كان عرضا ، وبالجملة أضداد خواص القديم السابقة هي من لواحق الممكن ، والإمكان استواء نسبة المعلوم إلى العدم والوجود أو قابليته للتأثير عن المؤثر .




                الخدمات العلمية