الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 501 ]

                وهذه الألفاظ عند إطلاقها تصرف إلى معناها الشرعي ، لأن الشارع يبين الشرع ، لا اللغة ، وكذا في كلام الفقهاء وحكي عن القاضي أنها تكون مجملة ، وهو قول بعض الشافعية لترددها بين معنييها ، والأول أولى ، واللفظ لحقيقته حتى يقوم دليل على المجاز ، وإلا لاختل مقصود الوضع ، وهو التفاهم .

                التالي السابق


                قوله : " وهذه الألفاظ عند إطلاقها تصرف إلى معناها الشرعي " ، إلى آخره اعلم أنه لما أثبت الحقائق الشرعية بالدليل ، أخذ يبين كيفية التصرف فيها ، ولا شك أن هذه الألفاظ الشرعية ، كالصلاة ونحوها ، إذا صدرت عن الشارع ، أو عن الفقهاء في تخاطبهم وتصانيفهم ، فإما أن يعلم بنص أو قرينة أن المراد بها الموضوع اللغوي ، أو أن المراد بها الموضوع الشرعي ، ولا إشكال في هذين القسمين ، لأن القرائن كالنصوص ، أو لا يعلم شيء من ذلك ، فهو حال الإطلاق ، وهو محل النزاع هنا .

                فالأكثرون على أنها لا تكون مجملة ، ويجب صرفها إلى معناها الشرعي دون اللغوي ، لأن شأن الشارع أن يبين أحكام الشرع ، لا أحكام اللغة ، فلو صرفنا هذه الألفاظ الصادرة منه إلى موضوعها اللغوي ، لكنا قد اعتقدنا فيه أنه ترك ما يعنيه ، وعدل إلى بيان ما لا يعنيه ، مع أن ما تركه لا يخلفه فيه غيره ، وما عدل إليه قد يكفيه غيره ، وهم أهل اللغة ، وذلك تسفيه لا يليق أن يعتقد بعامة الناس ، فضلا عن واضع الشرع الحكيم .

                " وحكى عن القاضي " أبي يعلى - وهو قول بعض الشافعية - : " أنها تكون مجملة ، لترددها بين معنييها " يعني : اللغوي والشرعي " والأول أولى " يعني : حملها على معناها الشرعي ، لما قررناه . [ ص: 502 ]

                وترددها بين معنييها إن أرادوا به مطلق التردد ، مع رجحان إرادة المعنى الشرعي ، فقد يسلم لهم ، لكن لا يلزم منه الإجمال مع الظهور في أحد المعنيين ، وإن أرادوا به التردد بينهما على السواء من غير رجحان ، فهو ممنوع لما بيناه .

                ومثال المسألة : قوله عليه السلام : إذا دعي أحدكم إلى الطعام ، فليجب ، فإن كان مفطرا فليطعم ، وإن كان صائما فليصل حمل بعضهم الصلاة هاهنا على الصلاة الشرعية ، أي : ليتشاغل بالصلاة ، تنبيها لهم على أنه صائم ، لئلا يحتاج إلى تعريفهم ذلك خطابا ، وفيه ما فيه من جهة رياء أو عجب ، وليس الحاصل من ذلك بالتنبيه بالصلاة كالحاصل منه بالتصريح بالقول ، والشارع دأبه تقليل المفاسد ، والتزام أيسرها بدفع أعظمها إذا لم يجد إلى دفع الجميع سبيلا .

                وحمله آخرون على مسماه اللغوي ، أي : ليدع لهم ولا يأكل .

                وكذلك قوله عليه السلام : توضئوا مما مست النار و توضئوا من لحوم الجزور حمله بعضهم على الوضوء الشرعي : وهو غسل الأعضاء الأربعة مع النية ، وبعضهم على الوضوء اللغوي : وهو غسل اليدين . [ ص: 503 ]

                والأولى في ذلك ما قدمناه من حمله على المعنى الشرعي ، ما لم يوجد دليل يصرفه إلى المعنى اللغوي ، كما يروى في بعض الألفاظ في الحديث الأول : " وإن كان صائما فليدع لهم " وفي الحديث الثاني : حديث عكراش بن ذؤيب أنه أكل مع النبي صلى الله عليه وسلم ثريدا ، ثم بعده رطبا ، قال : ثم أتينا بماء ، فغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ، ومسح ببلل يديه وجهه وذراعيه ورأسه ، وقال : يا عكراش ! هذا الوضوء مما غيرت النار رواه ابن ماجه ، والترمذي ، قال : هو غريب .

                أما الوضوء من لحم الجزور ، فلم يرد ما يصرفه عن معناه الشرعي ، فلا جرم جزم المحققون من الفقهاء أنه ينقض الوضوء ، ثم يوجبه ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

                قوله : " واللفظ لحقيقته حتى يقوم دليل المجاز " ، إلى آخره . هذه المسألة التي يترجمها بعض الأصوليين بأن الأصل في الإطلاق الحقيقة .

                ومعناه : أن اللفظ متى ورد وجب حمله على الحقيقة في بابه ، لغة أو شرعا أو عرفا ، ولا يحمل على المجاز إلا بدليل يمنع حمله على الحقيقة ، من معارض قاطع ، أو عرف مشهور ، كمن قال : رأيت راوية ، فإن إرادة المزادة منه ظاهر بالعرف المشهور ، وإنما قلنا : إن اللفظ لحقيقته ، لأنا لو لم نقل ذلك لكنا إما أن نعين حمله [ ص: 504 ] على مجازه ، أو نجعله مجملا ، لتردده بين احتمال الحقيقة والمجاز ، والأول : باطل باتفاق ، لم يقل به أحد ، والثاني : يوجب اختلال مقصود الوضع - وهو التفاهم - وذلك لأن الحكمة في وضع الألفاظ إنما هو معانيها ، ودلالتها عليها ، فلو جعلت مترددة بين حقائقها ومجازاتها لكانت مجملة ، والمجمل شأنه أن يبقى معطلا ، موقوفا على ما يبينه ، ولو عطلت جميع الألفاظ ، ووقفت على ما يبينها ويعين المراد منها ، لاختل مقصود الإفهام منها ، وهو عكس مقصود حكمة الوضع . وأيضا : لو لم يكن الأصل في الإطلاق الحقيقة ، لما فهم أحد المراد بلفظ عند إطلاقه ، حتى ينظر في الدليل الخارج المبين ، لكن ذلك باطل قطعا ، فإن أهل اللغة والشرع تتبادر أفهامهم عند إطلاق غالب الألفاظ إلى معانيها ، وليست تلك المعاني مجازا باتفاق ، فتعين أنها حقيقة ، وهو المطلوب .




                الخدمات العلمية