الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير

هذه آية تنبيه على الصنعة الدالة على الصانع، وذلك أن تسخير هذه الأمور العظام كالشمس والقمر والنجوم والسحاب والرياح والحيوان والنبات إنما هو بمسخر ومالك . وقرأ يحيى بن عمارة، وابن عباس : "وأصبغ" بالصاد على بدلها من السين; لأن حروف الاستعلاء تجتذب السين من سفلها إلى علوها فتردها صادا، والجمهور قراءتهم بالسين. وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم ، والحسن ، والأعرج ، وأبو جعفر ، وابن نصاح، وغيرهم: "نعمه"، جمع نعمة كسدرة وسدر بفتح الدال، و"الظاهرة" هي الصحة وحسن الخلقة والمال وغير ذلك، و"الباطنة" المعتقدات من الإيمان ونحوه، والعقل. قال ابن عباس رضي الله عنهما: الظاهرة: الإسلام وحسن الخلقة، والباطنة: ما ستر من سيئ العمل، وفي الحديث: "قيل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد عرفنا الظاهرة، فما الباطنة؟ قال: ستر ما لو رآك الناس عليه لمقتوك".

[ ص: 55 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ومن الباطنة التنفس والهضم والتغذي وما لا يحصى كثرة، ومن الظاهرة عمل الجوارح بالطاعة، قال المحاسبي: الظاهرة: نعم الدنيا، والباطنة: نعم العقبى. وقرأ جمهور الناس: "نعمة" على الإفراد، فقال مجاهد : المراد "لا إله إلا الله"، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أراد الإسلام، والظاهر عندي أنه اسم جنس، كقوله تبارك وتعالى: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها .

ثم عارض بالكفرة منها على فساد حالهم، وهم المشار إليهم بقوله تعالى: ومن الناس ، وقال النقاش : الإشارة إلى النضر بن الحارث ونظرائه; لأنهم كانوا ينكرون الله ويشركون الأصنام في الألوهية، فذلك جدالهم، و بغير علم أي: لم يعلمهم من يقبل قوله، ولا عندهم هدى قلب ولا نور بصيرة يقيمون بها حجة، ولا يبتعون بذلك كتابا بأمر الله يبشر بأنه وحي، بل ذلك دعوى منهم وتخرص، وإذا دعوا إلى اتباع وحي الله رجعوا إلى التقليد المحض بغير حجة، فسلكوا طريق الآباء. ثم وقف الله تعالى - وهم المراد بالتوقيف - على اتباعهم دين آبائهم، أيكون وهم بحال من يصير إلى عذاب السعير؟ فكأن القائل منهم يقول: هم يتبعون دين آبائهم ولو كان مصيرهم إلى السعير، فدخلت ألف التوقيف على حرف العطف كما كان اتساق الكلام، فتأمله.

التالي السابق


الخدمات العلمية