الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم [ ص: 435 ] الحساب وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب

الظاهر من أمر فرعون أنه لما بهرت آيات موسى عليه السلام انهد ركنه، واضطربت معتقدات أصحابه، ولم يفقد منهم من يجاذبه الخلاف في أمره، وذلك بين من غير ما موضع من قصتهما، وفي هذه الآية على ذلك دليلان: أحدهما قوله: ذروني أقتل موسى ، فليست هذه من ألفاظ الجبابرة المتمكنين من إنفاذ أوامرهم، والدليل الثاني: مقالة المؤمن وما صدع به، وأن مكاشفته لفرعون أكبر من مسايرته، وحكمه بنبوة موسى عليه السلام أظهر من توريته في أمره، وأما فرعون فإنما لجأ إلى المخرقة والاضطراب والتعاطي، ومن ذلك قوله: ذروني أقتل موسى وليدع ربه ، أي: إني لا أبالي عن رب موسى، ثم رجع إلى قومه يريهم النصيحة والحماية لهم فقال: إني أخاف أن يبدل دينكم ، والدين: السلطان، ومنه قول زهير :


لئن حللت بجو من بني أسد ... في دين عمرو وحالت بيننا فدك



وقرأ ابن عامر ، وابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : "وأن"، وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : "أو أن"، ورجحها أبو عبيد بزيادة الحرف، فعلى الأولى خاف أمرين، وعلى الثانية خاف أحد أمرين. وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم ، والحسن ، وقتادة ، والجحدري، وأبو رجاء ، ومجاهد ، وسعيد بن المسيب ، ومالك بن أنس : "يظهر" بضم الياء وكسر الهاء "الفساد" نصبا، وقرأ ابن كثير ، وابن عامر : [ ص: 436 ] "يظهر" بفتح الياء والهاء [الفساد] بالرفع على إسناد الفعل إليه، وهي قراءة حمزة ، والكسائي ، وأبي بكر عن عاصم ، والأعرج ، وعيسى ، والأعمش ، وابن وثاب ، وروي عن الأعمش أنه قرأ: "ويظهر" برفع الراء، وفي مصحف ابن مسعود رضي الله عنه: "ويظهر" بفتح الياء.

ولما سمع موسى عليه السلام مقالة فرعون- لأنه كان معه في مجلس واحد- دعا ربه تعالى وقال: إني عذت بربي وربكم الآية، وقرأ ابن كثير ، وعاصم ، وابن عامر : "عذت" ببيان الذال، وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : "عذت" بالإدغام، واختلف عن نافع ، وفي مصحف أبي بن كعب : "عت" على الإدغام في الخط.

ثم حكى الله تعالى مقالة رجل مؤمن من آل فرعون، وشرفه بالذكر، وخلد ثناءه في الأمم، سمعت أبي رحمه الله تعالى يقول: سمعت أبا الفضل الجوهري على المنبر يقول - وقد سئل أن يتكلم في شيء من فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم - فأطرق قليلا ثم رفع رأسه وقال:


عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ...     فكل قرين بالمقارن يقتدي



ماذا تريدون من قوم قرنهم الله تعالى بنبيه صلى الله عليه وسلم، وخصهم بمشاهدته وتلقي الوحي منه؟ وقد أثنى الله على رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه، فجعله الله تعالى في كتابه وأثبت ذكره في المصاحف لكلام قاله في مجلس من مجالس الكفر، وأين هو من عمر بن الخطاب رضي الله عنه جرد سيفه بمكة وقال: والله لا أعبد الله سرا بعد اليوم؟

وقرأت فرقة: "رجل" بسكون الجيم، كعضد وعضد، وسبع وسبع، وقراءة الجمهور: "رجل" بضم الجيم.

واختلف الناس في هذا الرجل، فقال السدي وغيره: كان من آل فرعون، وكان يكتم إيمانه، فـ"يكتم" - على هذا - في موضع الصفة دون تقديم وتأخير، وقال [ ص: 437 ] مقاتل : كان ابن عم فرعون، وقالت فرقة: لم يكن من أهل فرعون بل من بني إسرائيل، وإنما المعنى: وقال رجل يكتم إيمانه من آل فرعون، ففي الكلام تقديم وتأخير. والأول أصح، ولم يكن لأحد من بني إسرائيل أن يتكلم بمثل هذا عند فرعون، ويحتمل أن يكون من غير القبط ويقال فيه: من آل فرعون إذ كان في الظاهر على دين فرعون ومن أتباعه، وهذا كما قال أراكة الثقفي يرثي أخاه ويتعزى برسول الله صلى الله عليه وسلم:


فلا تبك ميتا بعد ميت أجنه ...     علي وعباس وآل أبي بكر



يعني المسلمين إذ كانوا في طاعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وقوله تعالى: "أن يقول" مفعول من أجله، أي لأجل أن يقول، وجلح معهم هذا المؤمن في هذه المقالات، ثم غالطهم بعد في أن جعله في احتمال الصدق والكذب، وأراهم أنها نصيحة. وحذفت النون من "يك" تخفيفا على ما قال سيبويه ، وتشبيها بالنون في "يفعلون ويفعلان" على مذهب المبرد ، وتشبيها بحرف العلة - الياء والواو - على مذهب أبي علي الفارسي ، وقال: كأن الجازم دخل على "يكن" وهي مجزومة بعد فأشبهت النون الياء من "يقضي" والواو من "يدعو" لأن خفتها على اللسان سواء.

واختلف المتأولون في قوله: يصبكم بعض الذي يعدكم فقال أبو عبيدة وغيره: "بعض" بمعنى "كل"، وأنشدوا قول القطامي عمير بن شييم:


قد يدرك المتأني بعض حاجته ...     وقد يكون مع المستعجل الزلل



[ ص: 438 ] وقال الزجاج : هو إلزام الحجة بأيسر ما في الأمر، وليس فيه نفي إصابة الكل، وقالت فرقة، أراد: يصبكم بعض العذاب الذي يذكر، وذلك كاف في هلاككم، ويظهر لي أن المعنى: يصبكم القسم الواحد مما يعد به، وذلك هو بعض ما يعد; لأنه عليه السلام وعدهم إن آمنوا بالنعيم، وإن كفروا بالعذاب، فإن كان صادقا فالعذاب بعض ما وعد به، وقالت فرقة: أراد ببعض ما يعدكم: عذاب الدنيا، لأنه بعض عذاب الآخرة، أي: وتصيرون بعد ذلك إلى الباقي، وفي البعض كفاية في الإهلاك.

ثم وعظهم هذا المؤمن بقوله: إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب ، قال السدي : مسرف بالقتل، وقال قتادة : مسرف بالكفر.

التالي السابق


الخدمات العلمية