الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون

هذه آية عبرة في جريان السفينة في البحر، وذلك أن الله تعالى سخر هذا المخلوق [ ص: 593 ] العظيم لهذا المخلوق الحقير الضعيف، وقوله تعالى: "بأمره"، أناب القدرة والإذن مناب أن يأمر البحر والناس بذلك، و"الابتغاء من فضل الله": هو بالتجارة في الأغلب، وكذلك مقاصد البر من حج وجهاد هي أيضا ابتغاء فضل، والتصيد فيه أيضا هو ابتغاء فضل.

و"تسخير ما في السماوات": هو تسخير الشمس والقمر والنجوم والسحاب والرياح والهواء والملائكة الموكلة بهذا كله، ويروى أن بعض الأخيار نزل به ضيف، فقدم إليه رغيفا، فكأن الضيف احتقره، فقال له المضيف: لا تحتقره فإنه لم يستدر حتى تسخر فيه من المخلوقات والملائكة ثلاثمائة وستون بين ما ذكرنا من مخلوقات السماء وبين الملائكة وبين صناع بني آدم الموصلين إلى استدارة الرغيف، و"تسخير ما في الأرض" هو تسخير البهائم والمياه والأودية والجبال وغير ذلك.

ومعنى قوله تعالى: "جميعا منه" قال ابن عباس رضي الله عنهما: كل إنعام فهو من الله تعالى، وقرأ جمهور الناس: "منه" وهو وقف جيد، وقرأ مسلمة بن محارب: "منه" بفتح الميم وشد النون المضمومة، بتقدير: هو منه، وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما: "منة" بكسر الميم وفتح النون المشددة ونصب التاء على المصدر، وقال أبو حاتم : سند هذه القراءة إلى ابن عباس رضي الله عنهما مظلم، وحكاها أبو الفتح عن ابن عباس ، وعبد الله بن عمر ، والجحدري، وعبد الله بن عبيد بن عمير ، وقرأ مسلمة بن محارب أيضا: "منة" بكسر الميم وبالرفع في التاء.

وقوله تعالى: قل للذين آمنوا الآية، آية نزلت في صدر الإسلام، أمر الله تعالى المؤمنين فيها أن يتجاوزوا عن الكفار، وألا يعاقبوهم بذنب، بل يأخذون أنفسهم [ ص: 594 ] بالصبر، قاله محمد بن كعب القرظي ، والسدي . قال أكثر الناس: وهذه آية منسوخة بآية القتال، وقالت فرقة: الآية محكمة.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

والآية تتضمن الغفران عموما، فينبغي أن يقال: إن الأمور العظام كالقتل والكفر مجاهرة ونحو ذلك قد نسخ غفرانه آية السيف والجزية وما أحكمه الشرع لا محالة، وإن الأمور المحقرة كالجفاء في القول ونحو ذلك يحتمل أن يتقى محكمة، وأن يكون العفو عنها أقرب إلى التقوى.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما لما نزلت: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا قال فنحاص اليهودي: احتاج رب محمد، تعالى الله عز وجل عن قوله، فأخذ عمر رضي الله عنه سيفه ومر ليقتله، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن ربك يقول: قل للذين آمنوا يغفروا الآية.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

فهذا احتجاج بها مع قدم نزولها، وقد ذكر مكي وغيره أنها نزلت بمكة في عمر رضي الله عنه لما أراد أن يبطش بمشرك شتمه، وأما الجزم في قوله تعالى: "يغفروا" فهو جواب شرط مقدر، وتقديره: قل اغفروا، فإن يجيبوا يغفروا، وأخصر من هذا عندي أن "قل" هي بمثابة: أندب المؤمنين إلى الغفر.

وقوله تعالى: أيام الله قالت فرقة: معناه: أيام إنعامه ونصره وتنعيمه في الجنة وغير ذلك، فـ "يرجون" -على هذا- هو من بابه، وقال مجاهد : أيام الله تعالى هي أيام نعمه وعذابه، فـ "يرجون" -على هذا- هي التي تتنزل منزلة "يخافون"، وإنما تنزلت منزلتها من حيث الرجاء والخوف متلازمان لا نجد أحدهما إلا والآخر معه مقترن، وقد تقدم شرح هذا غير مرة.

وقرأ جمهور القراء "ليجزي" بالياء على معنى: ليجزي الله. وقرأ ابن عامر ، [ ص: 595 ] وحمزة ، والكسائي ، والأعمش ، وأبو عبد الرحمن ، وابن وثاب : "لنجزي" بالنون، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع -بخلاف عنه- "ليجزى" على بناء الفعل للمجهول "قوما"، وهذا على أن يكون التقدير: ليجزي الجزاء قوما، وباقي الآية وعيد.

التالي السابق


الخدمات العلمية