الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ( تتمة : ) ) ألحق علماؤنا في آخر هذا الباب ذكر الملكين الموكلين بالعبد يكتبان أفعاله ، وكأنهم نظروا لمناسبة ذلك للأحكام وكونه مما يجب الإيمان به وإلا فكان الأنسب ذكر ذلك في الباب الآتي في السمعيات ; لأنه منها فلهذا قال :


( ( ووكل الله من الكرام اثنين حافظين للأنام ) )      ( ( فيكتبان كل أفعال الورى
كما أتى في النص من غير امترا ) )

( ( ووكل الله ) ) - سبحانه وتعالى - ( ( من ) ) الملائكة ( ( الكرام ) ) وصفهم بالكرم لما جاء في الكتاب والسنة كما سيأتي ، والحق أن الملائكة - عليهم السلام - ذوات قائمة بأنفسها قادرة على التشكل ؛ بالقدرة الإلهية ، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال العلامة ابن حمدان في نهاية المبتدئين : وتغير صور الملائكة ، والجن ، والشياطين إلى الله [ ص: 447 ] - تعالى - لا إليهم . وقد حكى غير واحد من محققي العلماء الاتفاق على أن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون ، يسبحون الليل والنهار لا يفترون ( ( اثنين ) ) مفعول " وكل " ( ( حافظين للأنام ) ) كسحاب ، وبالمد ، والأنيم كأمير الخلق من الجن ، والإنس ، وجميع ما على وجه الأرض ، والمراد هنا الإنس ( ( فيكتبان ) ) يعني الملكين الحافظين ( ( كل أفعال الورى ) ) كفتى : الخلق ( ( كما أتى في النص ) ) القرآني كما في قوله - تعالى - : وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون وقال - تعالى - : عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ( ( من غير امترا ) ) أي من غير شك وهو مشتق من المماراة ، والمرية بالضم والكسر : الشك والجدل ، يقال ماراه مماراة ومراء ، وامترى فيه وتمارى شك كما في القاموس وامتراه حقه جحده . وفي نهاية ابن الأثير في الحديث ( ( لا تماروا في القرآن فإن مراء فيه كفر ) ) قال : المراء الجدال ، والتماري والمماراة المجادلة على مذهب الشك والريبة ، ويقال للمناظرة مماراة ؛ لأن كل واحد منهما يستخرج ما عند صاحبه ويمتريه ، كما يمتري الحالب اللبن من الضرع . قال أبو عبيد في توجيه الحديث المذكور : ليس وجه الحديث عندنا على الاختلاف في التأويل ولكنه على الاختلاف في اللفظ ، وهو أن يقرأ الرجل على حرف فيقول الرجل ليس هو كذا ولكنه على خلافه ، وكلاهما منزل مقروءة فيهما ، فإذا جحد كل منهما قراءة صاحبه لم يؤمن أن يكون ذلك يخرجه إلى الكفر لأنه نفى حرفا أنزله الله على نبيه .

والتنكير في المراء في الحديث إيذانا بأن شيئا منه كفر فضلا عما زاد عليه . وقيل إنما أراد الجدال والمراء في الآيات التي فيها ذكر القدر ونحوه من المعاني على مذاهب أهل الكلام وأصحاب الأهواء والآراء دون ما تضمنته من الأحكام ، وأبواب الحلال ، والحرام فإن ذلك قد جرى بين الصحابة فمن بعدهم من العلماء ، وذلك فيما يكون الغرض منه ، والباعث عليه ظهور الحق ليتبع دون الغلبة ، والتعجيز ، والله أعلم .

قال علماؤنا - منهم ابن حمدان في نهاية المبتدئين : الرقيب والعتيد ملكان موكلان بالعبد يجب أن نؤمن بهما ونصدق بأنهما يكتبان أفعاله كما قال [ ص: 448 ] - تعالى - : عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد وقوله : وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون ولا يفارقان العبد بحال وقيل بل عند الخلاء ، وقال الحسن : إن الملائكة يجتنبون الإنسان على حالين عند غائطه وعند جماعه ، ومفارقتهما للمكلف حينئذ لا تمنع من كتبهما ما يصدر منه في تلك الحال كالاعتقاد القلبي ، يجعل الله لهما أمارة على ذلك ، قال سيدنا الإمام أحمد - رضي الله عنه - : للعبد ملائكة يحفظونه بأمر الله تعالى - يشير إلى قوله تعالى - : له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله قال العلامة الشيخ عبد الرحمن العليمي العمري الحنبلي في تفسيره للقرآن العظيم المسمى بفتح الرحمن في تفسير القرآن : التعقيب العود بعد البدء وإنما ذكر بلفظ التأنيث ; لأن المراد الجماعات التي يعقب بعضها بعضا . وقوله : يحفظونه من أمر الله من المضار ويراقبون أحواله من أجل أمر الله ، فإذا جاء القدر خلوا عنه . وقال البيضاوي : يحفظونه من أمر الله من بأسه متى أذنب بالإمهال ، والاستغفار ، أو يحفظونه من المضار ، أو يراقبون أحواله من أجل أمر الله ، وقد قرئ به ، وقيل : " من " بمعنى الباء . وقال في قوله " معقبات " : التاء للمبالغة ، أو لأن المراد بالمعقبات جماعات وقرئ " معاقيب " جمع معقب أو معقبة على تعويض الياء من أحد القافين . انتهى .

وفي صحيح البخاري : معقبات ملائكة حفظة تعقب الأولى منهما الأخرى ، ومنه قيل المعقب أي عقيب في أثره . قال أبو عبيدة : أي ملائكة تعقب بعد ملائكة ، حفظة بالليل تعقب بعد حفظة النهار ، وحفظة النهار تعقب بعد حفظة الليل . وروى الطبري بإسناد حسن عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله - تعالى - : له معقبات من بين يديه ومن خلفه قال : ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، فإذا جاء قدره خلوا عنه . وأخرج من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : من أمر الله أي بإذن الله . فالمعقبات هي من أمر الله وهي الملائكة . ومن طريق سعيد بن جبير عنه قال : حفظهم إياه بأمر الله . ومن طريق إبراهيم النخعي قال : يحفظونه من الجن . ومن طريق كعب الأحبار قال : لولا أن الله وكل بكم ملائكة [ ص: 449 ] يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطفتم . وأخرج الطبراني من طريق كنانة العدوي أن عثمان سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عدد الملائكة الموكلة بالآدمي فقال : لكل آدمي عشرة بالليل وعشرة بالنهار واحد عن يمينه وآخر عن شماله واثنان من بين يديه ومن خلفه ، واثنان على جنبه وآخر قابض على ناصيته فإن تواضع رفعه وإن تكبر وضعه ، واثنان على شفتيه ليس يحفظان عليه إلا الصلاة على محمد ، والعاشر يحرسه من الحية أن تدخل فاه - يعني إذا نام . قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري : وجاء في تأويل ذلك قول آخر رجحه ابن جرير فأخرج بإسناد صحيح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله - تعالى - : له معقبات قال : ذكر ملكا من ملوك الدنيا له حرس ومن دونه حرس . ومن طريق عكرمة في قوله : له معقبات ، قال : المواكب . وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " يتعاقبون فيكم : ملائكة بالليل وملائكة بالنهار " . وفي بعض التفاسير في قوله - تعالى - : إن كل نفس لما عليها حافظ وكل بالمؤمن مائة وستون ملكا يذبون عنه ما لم يقدر عليه ، للبصر من ذلك سبعة أملاك يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل الذباب ، ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين ، وذكره في كنز الأسرار من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - مرفوعا . قال العلامة الشيخ مرعي في بهجته : وأما الملائكة الكاتبون فقيل أربعة اثنان بالليل واثنان بالنهار ، وقيل خمسة واحد لا يفارق في ليل ولا نهار . انتهى ، والمشهور أنهما اثنان لكل واحد ، قال الضحاك : مجلس الملكين تحت الشعر على الحنك . ومثله عن الحسن . وكان الحسن يعجبه أن ينظف عنفقته . وعنه - عليه السلام - " مقعد ملكيك على شفتيك ، ولسانك قلمهما ، وريقك مدادهما وأنت تجري فيما لا يعنيك ولا تستحي من الله ولا منهما " . وعنه - عليه الصلاة والسلام - " كاتب الحسنات عن يمين الرجل - يعني الشخص - وكاتب السيئات عن يساره ، وكاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات ، فإذا عمل الشخص حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا ، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : دعه سبع ساعات لعله يسبح ، أو يستغفر " . ونقل الحافظ ابن رجب في شرح الأربعين النووية عن شويس [ ص: 450 ] العدوي وكان من قدماء التابعين أن صاحب اليمين أمير - ، أو قال : أمين - على صاحب الشمال ، فإذا عمل ابن آدم سيئة ، قال له صاحب اليمين : لا تعجل لعله يعمل حسنة ، فإن عمل حسنة ألقى واحدة بواحدة وكتب له تسع حسنات فيقول الشيطان يا ويله من يدرك تضعيف ابن آدم . وقال واحد وهو المشهور : إن أحد الملكين على عاتق الإنسان الأيمن ، وهو كاتب الحسنات ، والآخر على عاتقه الأيسر ، وإن كاتب الحسنات له إمارة على كاتب السيئات ، فلا يمكنه من كتبها إلا بعد مضي ست ساعات من غير توبة من المكلف أو استغفار ، أو فعل مكفر لها ، مع مبادرته بكتب الحسنات فورا ، والذي رواه البغوي من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " كاتب الحسنات على يمين الرجل ، وكاتب السيئات على يسار الرجل ، وكاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات : دعه سبع ساعات لعله يسبح لله ، أو يستغفر .

التالي السابق


الخدمات العلمية