الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 185 ] ( ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون )

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنه تعالى بين في الآية الأولى أن الكفار عند نزول الشدائد يرجعون إلى الله تعالى ، ثم بين في هذه الآية أنهم لا يرجعون إلى الله عند كل ما كان من جنس الشدائد ، بل قد يبقون مصرين على الكفر منجمدين عليه غير راجعين إلى الله تعالى ، وذلك يدل على مذهبنا من أن الله تعالى إذا لم يهده لم يهتد ، سواء شاهد الآيات الهائلة ، أو لم يشاهدها ، وفي الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : في الآية محذوف والتقدير : ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلا فخالفوهم فأخذناهم بالبأساء والضراء ، وحسن الحذف لكونه مفهوما من الكلام المذكور . وقال الحسن " البأساء " شدة الفقر من البؤس " والضراء " الأمراض والأوجاع .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( لعلهم يتضرعون ) والمعنى : إنما أرسلنا الرسل إليهم وإنما سلطنا البأساء والضراء عليهم لأجل أن يتضرعوا . ومعنى التضرع التخشع وهو عبارة عن الانقياد وترك التمرد ، وأصله من الضراعة وهي الذلة ، يقال ضرع الرجل يضرع ضراعة فهو ضارع أي ذليل ضعيف ، والمعنى أنه تعالى أعلم نبيه أنه قد أرسل قبله إلى أقوام بلغوا في القسوة إلى أن أخذوا بالشدة في أنفسهم وأموالهم فلم يخضعوا ولم يتضرعوا ، والمقصود منه التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : أليس قوله : ( بل إياه تدعون ) يدل على أنهم تضرعوا ؟ وههنا يقول : قست قلوبهم ولم يتضرعوا .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : أولئك أقوام ، وهؤلاء أقوام آخرون . أو نقول أولئك تضرعوا لطلب إزالة البلية ولم يتضرعوا على سبيل الإخلاص لله تعالى فلهذا الفرق حسن النفي والإثبات .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ) معناه نفي التضرع . والتقدير فلم يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا . وذكر كلمة " لولا " يفيد أنه ما كان لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم وقسوتهم وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : احتج الجبائي بقوله : ( لعلهم يتضرعون ) فقال : هذا يدل على أنه تعالى إنما أرسل الرسل إليهم ، وإنما سلط البأساء والضراء عليهم ، لإرادة أن يتضرعوا ويؤمنوا ، وذلك يدل على أنه تعالى أراد الإيمان والطاعة من الكل .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : أن كلمة " لعل " تفيد الترجي والتمني ؛ وذلك في حق الله تعالى محال وأنتم حملتموه على [ ص: 186 ] إرادة هذا المطلوب ، ونحن نحمله على أنه تعالى عاملهم معاملة لو صدرت عن غير الله تعالى لكان المقصود منه هذا المعنى ، فأما تعليل حكم الله تعالى ومشيئته فذلك محال على ما ثبت بالدليل . ثم نقول إن دلت هذه الآية على قولكم من هذا الوجه فإنها تدل على ضد قولكم من وجه آخر ، وذلك لأنها تدل على أنهم لم يتضرعوا لقسوة قلوبهم ولأجل أن الشيطان زين لهم أعمالهم .

                                                                                                                                                                                                                                            فنقول : تلك القسوة إن حصلت بفعلهم احتاجوا في إيجادها إلى سبب آخر ولزم التسلسل ، وإن حصلت بفعل الله فالقول قولنا ، وأيضا هب أن الكفار إنما أقدموا على هذا الفعل القبيح بسبب تزيين الشيطان ، إلا أن نقول : ولم بقي الشيطان مصرا على هذا الفعل القبيح ؟ فإن كان ذلك لأجل شيطان آخر تسلسل إلى غير النهاية ، وإن بطلت هذه المقادير انتهت بالآخرة إلى أن كل أحد إنما يقدم تارة على الخير وأخرى على الشر ، لأجل الدواعي التي تحصل في قلبه ، ثم ثبت أن تلك الدواعي لا تحصل إلا بإيجاد الله تعالى فحينئذ يصح قولنا ويفسد بالكلية قولهم ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية