الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الإعلان الإسلامي

الـدواعـي.. المـاهـيـة

تمهيد

إن الإعلان -كعملية هندسية اتصالية فنية مجردة- يتلون ويتأثر تبعا لمرجعية ومحددات الجهة المعلنة، وينطبع بنمطية البنى الدينية والفكرية والتصورية والثقافية للمنتج، والمعلن، والمجتمع الذي يوجه إليه الإعلان، ويمارس فيه ذلك النشاط الإشهاري.

والآن نتساءل عن إمكانية وجود رؤية إسلامية تأصيلية للإعلان، من خلال استقراء النصوص والأدلة الشرعية، بحيث يمكن تشكيل قاعدة شرعية مؤصلة للإعلان الإسلامي؟

في الحقيقة ثمة رؤية شرعية إسلامية للإعلان تستند إلى الخصائص العامة للدين، وهو ما نحاول إثباته في هذه المحاولة التنظيرية إن شاء الله.

فالمتمعن في الكثير من نصوص السيرة النبوية المطـهرة يتلمس من خلالها وضوح الرؤية الإسلامية لمفهوم الإعلان. فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أبو هريرة رضي الله عنه، ( أنه عليه الصلاة والسلام مر على صبرة طعام في سوق المدينة، فأدخل يده الشريفة فيها فنالت أصابعه بللا.. فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس، من غش فليس مني ) . [ ص: 63 ] وفي رواية أخرى: ( من غشنا فليس منا ) . [1]

نبصر -بجلاء- من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرجل البائع للطعام في سوق المدينة أنه استنكر عليه طريقته في عرض سلعته، وكيفية الإعلان عنها، بحيث أنه قد وضع الجافة عاليا والمبتلة في الأسفل بغرض بيعها بسهولة ويسر، وعندما أدخل عليه الصلاة والسلام يده الشريفة في أعماقها وأحس البلل أنكر على الرجل فعلته في عرض السلعة، وأمره -بعد المساءلة عن سبب إخفائه عيوبها- أن يظهر عيبها، ويعلن عن سلعته بطريقة واضحة بينة لا خداع فيها ولا تمويه، وأن يبدي للناس فاسدها وجيدها، بحيث يراها جمهور المستهلكين كما هي واضحة فلا يخدعوا بمنظرها البراق، ولا يخلبوا بتمويه صاحبها وتزيينه لها فيقبلوا على شرائها، ثم يكتشفوا بعد ذلك أنهم قد خدعوا، وسبب خداعهم كان طريقة عرضها مموهة وتقديمها مزينة، وذلك هو طريقة الإعلان عنها.

وهكذا يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صحح لهذا التاجر المسلم مفهوم العرض، والإعلان عن السلعة وفق منهج الإسلام الصحيح.

كما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يثني التاجر على سلعته بالمدح [ ص: 64 ] والإطراء والشكر فوق ما تستحق من الوصف، وعلى غير ما هي عليه في الواقع. كما نهى أن يزين التاجر ظاهر سلعته بالجيد ويخفي سيئها في باطنها، ويربك المشترين بكثرة الحلف والأيمان قصد إنفاق سلعته وبيعها، حيث قال عليه الصلاة والسلام: ( إياكم وكثرة الحلف في البيع، فإنه ينفق ثم يمحق ) . [2]

إن الحلف بالله والإكثار من الأيمان، كان أحد وسائل الإعلان عن السلع التي يستخدمها التجار آنذاك، وأحد طرق تبيان جودتها وخصائصها المتميزة. ولما تطورت الحياة وتوسعت سبلها وتشعبت ميادينها وتداخلت وتشابكت علاقاتها وتطورت آلياتها وأساليبها ووسائلها، قام الإعلان بدور أساس في عملية تصريف السلعة وبيعها بسرعة وسهولة، وذلك بما يضفيه عليها من أساليب المدح وسبل الإطراء وفنيات الإغراء وأشكال الزينة، وغيرها من تقنياته الإخراجية الساحرة، فيحمل جمهور المستهلكين الذين وجه إليهم على الإقبال عليها واقتنائها.

ولم يؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حرم أو نهى التجار عن الإعلان على سلعهم مع توفر عنصر الصدق في خصائصها ومميزاتها ووضعيتـها. كما أنه لم يؤثـر عنه عليه الصـلاة والسلام أنه قد حرم أو نهى عن الإعلان على السلع والترويج لها بحقيقتها المطابقة [ ص: 65 ] لمكوناتها الأساسية كما هي في الواقع، بل ما أثر عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يتلون الإعلان بالخديعة وإخفاء الحقيقة عن أعين الناس، مما يحملهم خداعه وتزيينه للإقبال عليها واقتنـائها وهي مغشوشة، وهذا عـين ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم .

هذا من ناحية مرجعية جواز الإعلان عن الأشياء، أما من ناحية مرجعية تحديد حدود وضوابط العلانية والمكاشفة، فإن الأدلة القرآنية تشهد على وضوح هذا المبدأ القرآني الذي يشكل أحد الخصائص والمميزات العامة للدين الإسلامي.

فإن الدين الإسلامي يرتكز أساسا على مبدأ الوضوح والمكاشفة سواء في القضايا العقدية الأصولية الكبرى، أو في الأحكام الفروعية الثابتة، أو في الأحكام الفروعية المتجددة،

يقول الله تعالى: ( قد تبين الرشد من الغي ) (البقرة:256) .

ويقول سبحانه وتعالى على لسان المؤمنين المجاهرين المكاشفين بحقيقة إيمانهم: ( قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين ) (غافر:84) ،

ويقول تعالى مباهلة على لسان المؤمنين: ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) (آل عمران:64) ،

ويقول مبينا حقيقة دينه: ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ) (يوسف:108) [ ص: 66 ] والآيات من هذا القبيل كثيرة..

وعليه فإن مبدأ المكاشفة والوضوح تراه بارزا في مختلف كليات الدين وأصوله، وفي مختلف فروعياته: الاجتماعية، والمالية، الاقتصادية.. فهو واضح في البيوع، والرهان، والقراض، والمكاتبة، والخطبة، والزواج، والطلاق.... [3]

وهو بارز أيضا وبكثرة في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من ذلك قوله لمعاذ بن جبل رضي الله عنه لما أرسله داعيا إلى اليمن: ( يا معاذ إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئـتهم فـادعهم إلى أن يشهـدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأخبرهم أن الله.. ) ، وفي رواية أخرى ( فأعلمهم ) ، وفي رواية ثالثة: ( فأفهمهم ) . [4]

لقد ورد في الحديث الشريف -بمختلف رواياته- أربعة ألفاظ تدل دلالة صريحة على مفهوم العلانية والمكاشفة، وهي: (ادعهم. أخبرهم. أفهمهم. أعلمهم) .

فالدعوة هنا هي: الإعلام، والإخبار، والإعلان، والإشهار. وأعلمهم وأخـبرهم دلالـة على مـبدأ العـلانـية والوضوح، وعلى شرعية المكاشفة. [ ص: 67 ]

ولنا أن نتساءل هنا عن حدود وضوابط العلانية والمكاشفة في الإسلام ا هل هي علانية مطلقة غير مقيدة بحدود وضوابط ؟

هل هي علانية ومكاشفة إباحية، كما هو الحال لدى الغربيين وغيرهم من الوثنيين، الذين استباحوا -بتهتك وغرور- مفهوم العلانية والمكاشفة، ليتعدى عندهم -في سائر نشاطاتهم- كل الضوابط والحدود الدينية، والاجتماعية، والأخلاقية، والعقلية ا هل العلانية مقيدة بحدود شرعية ضابطة ؟

الحقيقة أن مفهوم مبدأ العلانية والمكاشفة في الإسلام -بالرغم من كونه أحد المبـادئ الرئيـسة فيـه- مقيد بحدود سنها الشارع الحكيم لا يجوز تجاوزها مطلقا لا سيما ما له علاقة وطيدة بالمحرمات والممنوعات، وخاصة تلك التي نهى عنها المولى تبارك وتعالى سواء أكانت في الكليات الأصولية، أم في الفروعيات الثابتة، أم في الفروعيات المتجددة المستندة إلى القواعد الأصولية.

فالعـلانية -إذن- مرتبـطة ارتبـاطا عضويا بالضوابط الشرعية، فلا يسوغ لنا بأية حال أن نتمادى في التـوسع في العـلانية. كما أنه لا يجوز لنا أن نتطاول في إطلاق مبدأ المكاشفة من حدوده الشرعية، بحيث يتعدى إلى دائرة المحرمات والمنهيات بدعاوى الحرية والانطلاق من القيود المانعة، والقيم الكابحة للحرية، فنجيز للإعلان مثلا مخالفة معلوم من الدين بالضرورة، أو نجيز له أن يعلن عن شيء حرمه الشرع [ ص: 68 ] أو نهى عنه من: سلع، أو خدمات، أو تسهيلات، أو منشآت...

وتأصيلا لهذا المبدأ الإسلامي الخالد، سوف نتطرق في هذا الفصل إلى الأسس والمبادئ الشرعية الضابطة لمفهوم العلانية في الإسلام، وضوابط الإعلان الإسلامي.

ومن هذا المنطلق المبدئي الإسلامي، نتساءل عن الدوافع والمبررات الداعية لوجود إعلان إسلامي في العصر الراهن والمستقبلي، واعتباره ضرورة من ضروريات الحضور الإسلامي في القرن القادم؟

التالي السابق


الخدمات العلمية