الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ذكر مقتل المنصور لاجين وعود

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الملك إلى محمد بن قلاوون

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لما كان يوم السبت التاسع عشر ربيع الآخر وصل جماعة من البريدية ، وأخبروا بمقتل السلطان الملك المنصور لاجين ونائبه سيف الدين منكوتمر ، وأن ذلك كان ليلة الجمعة حادي عشرة ، على يد الأمير سيف الدين كرجي الأشرفي ومن وافقه ، وذلك بحضور القاضي حسام الدين الحنفي وهو جالس في خدمته يتحدثان ، وقيل : كانا يلعبان بالشطرنج . فلم يشعرا إلا وقد دخل عليهما ، فبادروا إلى السلطان بسرعة جهرة ليلة الجمعة ، فقتلوه وقتل نائبه صبرا صبيحة يوم الجمعة ، وألقي على مزبلة ، واتفق الأمراء على إعادة ابن أستاذهم الملك الناصر محمد بن قلاوون ، فأرسلوا وراءه ، وكان بالكرك ونادوا له بالقاهرة ، وخطب له على المنابر قبل قدومه ، وجاءت الكتب إلى نائب الشام سيف الدين قبجق ، فوجدوه قد فر خوفا من غائلة لاجين ، فسارت البريدية [ ص: 710 ] وراءه ، فلم يدركوه إلا وقد لحق بالمغول عند رأس العين ، من أعمال ماردين ، وتفارط الحال ، ولا قوة إلا بالله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان الذي شمر العزم وراءهم ، وساق ليردهم الأمير سيف الدين بلبان ، وقام بأعباء البلد نائب القلعة علم الدين أرجواش والأمير سيف الدين جاغان ، واحتاطوا على ما كان له اختصاص بتلك الدولة ، فكان منهم جمال الدين يوسف الرومي محتسب البلد وناظر المارستان ، ثم أطلق بعد مدة ، وأعيد إلى وظائفه ، واحتيط أيضا على سيف الدين جاغان وحسام الدين لاجين والي البر ، وأدخلا القلعة ، وقتل بمصر الأميران سيف الدين طغجي - وكان قد ناب عن الناصر أربعة أيام - وكرجي الذي تولى قتل لاجين ، فقتلا وألقيا على المزابل ، وجعل الناس من العامة وغيرهم يتأملون صورة طغجي ، وكان جميل الصورة جدا ، ثم بعد الدلال والمال والملك وارتهم هناك قبور ، فدفن السلطان لاجين ، وعند رجليه نائبه ومملوكه سيف الدين منكوتمر ، ودفن الباقون في مضاجعهم هنالك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وجاءت البشائر بدخول الملك السلطان الناصر إلى مصر يوم السبت رابع جمادى الأولى ، وكان يوما مشهودا وضربت البشائر ، ودخل القضاة وأكابر الدولة إلى القلعة ، وبويع بحضرة علم الدين أرجواش ، وخطب له على المنابر بدمشق وغيرها بحضرة أكابر العلماء والقضاة والأمراء ، ثم جاء الخبر بأنه قد ركب وشق القاهرة ، وعليه خلعة الخليفة ، والجيش معه مشاة بين يديه ، وكان يوما مشهودا وضربت البشائر أيضا . وجاءت مراسيمه ، فقرئت على السدة ، [ ص: 711 ] وفيها الرفق بالرعايا والأمر بالإحسان إليهم ، فدعوا له ، وقدم الأمير جمال الدين آقوش الأفرم نائبا على دمشق ، فدخلها يوم الأربعاء قبل العصر ثاني عشرين من جمادى الأولى ، فنزل بدار السعادة على العادة ، وفرح الناس بقدومه ، وأشعلوا له الشموع ، وكذلك يوم الجمعة أشعلوا له لما جاء إلى صلاة الجمعة بالمقصورة ، وبعد أيام أفرج عن جاغان ولاجين والي البر من القلعة ، وعادا إلى ما كانا عليه ، واستقر الأمير حسام الدين الأستادار أتابكا للعساكر المصرية ، والأمير سيف الدين سلار نائبا بمصر ، وأخرج الأعسر في رمضان من الحبس ، وولي الوزارة بمصر ، وأخرج قراسنقر المنصوري من الحبس أيضا ، وأعطي نيابة الصبيبة ، ثم لما مات صاحب حماة الملك المظفر نقل قراسنقر إليها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان قد وقع في أواخر دولة لاجين بعد خروج قبجق من البلد محنة للشيخ تقي الدين ابن تيمية ; قام عليه جماعة من الفقهاء وأرادوا إحضاره إلى مجلس القاضي جلال الدين الحنفي فلم يحضر ، فنودي في البلد في العقيدة التي كان قد سأله عنها أهل حماة المسماة " بالحموية " ، فانتصر له الأمير سيف الدين جاغان ، وأرسل يطلب الذين قاموا عليه ، فاختفى كثير منهم ، وضرب جماعة ممن نادى على العقيدة ، فسكت الباقون ، فلما كان يوم الجمعة عمل الشيخ تقي الدين الميعاد بالجامع على عادته ، وفسر في قوله تعالى : وإنك لعلى خلق عظيم [ القلم : 4 ] ثم اجتمع بالقاضي إمام الدين القزويني صبيحة يوم السبت ، واجتمع عنده جماعة من الفضلاء ، وبحثوا في " الحموية " وناقشوه [ ص: 712 ] في أماكن منها ، فأجاب عنها بما أسكتهم بعد كلام كثير ، ثم قام الشيخ تقي الدين ، وقد تمهدت الأمور وسكنت الأحوال ، وكان القاضي إمام الدين معتقده حسن ومقصده صالح .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها وقف علم الدين سنجر الدوادار رواقه داخل باب الفرج مدرسة ودار حديث ، وولى مشيخته الشيخ علاء الدين بن العطار ، وحضر عنده القضاة والأعيان وعمل لهم ضيافة ، وأفرج عن قراسنقر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي يوم السبت حادي عشر شوال فتح مشهد عثمان الذي جدده ناصر الدين بن عبد السلام ناظر الجامع ، وأضاف إليه مقصورة الخدم من شماليه ، وجعل له إماما راتبا ، وحاكى به مشهد علي بن الحسين زين العابدين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي العشر الأول من ذي الحجة عاد القاضي حسام الدين الرازي الحنفي إلى قضاء الشام ، وعزل عن قضاء مصر ، وعزل ولده عن قضاء الشام . وكثرت الأراجيف في ذي الحجة بقصد التتار بلاد الشام وبالله المستعان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية