الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      مسألة [ دلالة العموم على الأفراد ، هل هي قطعية ؟ ]

                                                      إذا ثبت دلالة العموم على الأفراد ، فاختلفوا : هل هي قطعية أو ظنية ؟ والثاني هو المشهور عند أصحابنا . والأول قول جمهور الحنفية . قال صاحب " اللباب " منهم ، وأبو زيد الدبوسي في " التقويم " : دلالة العام على أفراده قطعية توجب الحكم بعمومه قطعا وإحاطته كالخاص إن كان النص مقطوعا به . وقال الشافعي : " لا توجب العلم " ولهذا قلنا : إن الخاص ينسخ العام ، والعام الخاص ، لاستوائهما رتبة ، وعنده يجوز نسخ العام بالخاص ، ويمتنع نسخ الخاص بالعام ، ولهذا قال أصحابنا فيمن أوصى لزيد بخاتم ، ثم لعمرو بفصه في كلام مفصول : بالحلقة للأول على الخصوص ، والفص بينهما ، لأن الأول استحق الفص بوصية عامة للفص والخاتم ، والثاني استحق الفص بوصية خاصة ، فزاحمه بالمشاركة معه . انتهى . [ ص: 36 ]

                                                      وأطلق الأستاذ أبو منصور النقل عن الشافعي ومالك وأبي حنيفة ، بأن دلالته على أفراده قطعية ، وكذا نقله الغزالي في " المنحول " عن الشافعي أيضا .

                                                      قال إمام الحرمين وابن القشيري : الذي صح عندنا من مذهب الشافعي أن الصيغة إن تجردت عن القرائن فهي نص في الاستغراق ، وإن لم يقطع بانتفاء القرائن : فالتردد باق وجرى عليه الإبياري في " شرح البرهان " وزاد حكايته عن المعتزلة .

                                                      قال : والمأخذ مختلف ، فالمعتزلة تلقوه من استحالة تأخير البيان عن الخطاب ، فلو كان المراد به غير ما هو ظاهر ; لكان تأخير البيان ، وهو محال . والشافعي كأنه يرى أن التخصيص إنما يكون واردا على كلام المتكلم لاقتران اللفظة المختصة به عند الإطلاق .

                                                      قال : وهذا بحث لغوي يفتقر إلى النقل ، وقد رأيت من ينكر على الإبياري هذا النقل عن الشافعي ظنا منه تفرده بهذا . نعم ، قد أنكره الإمام أبو الحسن الطبري المعروف بإلكيا ، فقال في كتابه " التلويح " : نقل عن الشافعي أن الألفاظ إذا تعرت عن القرائن المخصصة كانت نصا في الاستغراق ، لا يتطرق إليها احتمال ، وهذا لم يصح عنه ، وإن صح عنه فالحق غيره ، فإن المسميات النادرة يجوز أن لا تراد بلفظ العام ، ويجب منه أن التخصيص إذا ورد في موضع آخر كان نسخا ، وذلك خلاف رأي الشافعي . انتهى .

                                                      ولعل إمام الحرمين في نقله عن الشافعي كونها قطعية أخذه من قوله : إنها نص ، وفيه نظر ، فإن الشافعي يسمي الظواهر نصوصا كما نقله الإمام في " البرهان " عنه في موضع آخر ، وهذا هو الحق ، وإليه يشير كلام [ ص: 37 ] ابن السمعاني في " القواطع " فإنه قال : وعن بعض الحنفية أن العموم نص فيما تناوله من المسميات ، وقد سمى الشافعي الظواهر نصوصا في مجاري كلامه ، والأولى أن لا يسمي العموم نصا لأنه يحتمل الخصوص ، ولأن العموم فيما يدخل فيه من المسميات ليس بأرفع وجوه البيان ، ولكن العموم ظاهر في الاستيعاب ، لأنه يبتدر إلى الفهم ، ذلك مع أنه يحتمل غيره ، وهو الخصوص . انتهى .

                                                      وقال ابن برهان . في الكلام على أن السبب لا يخصص : يجوز أن يكون العام نصا في بعض المسميات دون بعض ، ولهذا المعنى قال أصحابنا : يجوز أن يكون اللفظ الواحد نصا في بعض المسميات ، وهي الظاهرة التي يقطع بكونها مقصودة صاحب الشرع ، ولا يجوز تخصيصها واستخرجها عن مقتضى العام ، ويكون ظاهرا في البعض ، فيحتمل أن يكون مقصود الشرع ، ويحتمل أن لا يقصده ، فحينئذ تقول : شمله العام ويدخله التخصيص . وفرق إمام الحرمين بين أدوات الشرط وغيرها ، فرأى أن أدوات الشرط تدل دلالة قطعية وإنما نقل التخصيص بناء على القرائن ، ورأى أن جمع الكثرة يدل ظاهرا لا قطعيا . واختار الغزالي في " المنخول " أنه نص في أقل الجمع ظاهر فيما وراءه ; وخص المازري الخلاف بما زاد على أقل الجمع ، أما ما دونه فدلالته عليه قطعية . والمختار الذي عليه أكثر أصحابنا أن دلالته عليه بطريق الظهور ، وإلا لما جاز تأكيد الصيغ العامة إذ لا فائدة فيه ، وقد قال تعالى : { فسجد [ ص: 38 ] الملائكة كلهم أجمعون } .

                                                      ويبنى على هذا الأصل مسائل

                                                      منها : وجوب اعتقاد عمومه قبل البحث عن المخصص ومنها : تخصيص العموم بالقياس وخبر الواحد الظنيين ابتداء ، والعام بالخاص وأن الخاص لا يصير منسوخا بالعام ، خلافا لأبي حنيفة ، ومن ثم رجح الشافعي خبر العرايا على خبر التمر كيلا بكيل . تنبيه

                                                      قولهم العام ظني الدلالة ، والخاص مقطوع الدلالة ، لا يريدون به أن دلالة اللفظ فيه قطعية ، بل إن العام يحتمل التخصيص ، والخاص لا يحتمله . فرع

                                                      لو قال في الإقرار : له عندي خاتم ، ثم قال : ما أردت الفص ، ففي قوله وجهان : أصحهما لا ; لأن الفص متناول لاسم الخاتم ، فهو رجوع عن بعض ما أقر به فلا يقبل . وهذا يقتضي أن دلالة العام على أفراده قطعية عندنا ، وقد قال اللغويون : الخاتم في اللغة : اسم للحلقة مع الفص ، وإلا فهو حلقة . وقيل فتخ .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية