الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      [ ص: 179 ] ذكر شعب أبي طالب والصحيفة قال موسى بن عقبة ، عن الزهري ، قال : ثم إنهم اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا ، حتى بلغ المسلمين الجهد ، واشتد عليهم البلاء ، واجتمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية . فلما رأى أبو طالب عملهم جمع بني أبيه وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم ويمنعوه ممن أراد قتله ، فاجتمعوا على ذلك مسلمهم وكافرهم ، فمنهم من فعله حمية ، ومنهم من فعله إيمانا ، فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوه أجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم ، حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل ، وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهودا ومواثيق ، لا يقبلوا من بني هاشم أبدا صلحا ، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل .

                                                                                      فلبث بنو هاشم في شعبهم ، يعني ثلاث سنين ، واشتد عليهم البلاء ، وقطعوا عنهم الأسواق ، وكان أبو طالب إذا نام الناس أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضطجع على فراشه ، حتى يرى ذلك من أراد مكرا به واغتياله ، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوته فاضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم . ويأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فراش ذلك فينام عليه . فلما كان رأس ثلاث سنين ، تلاوم رجال من بني عبد مناف ، ومن بني قصي ، ورجال أمهاتهم [ ص: 180 ] من نساء بني هاشم ، ورأوا أنهم قد قطعوا الرحم واستخفوا بالحق ، واجتمع أمرهم من ليلتهم على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر والبراءة منه .

                                                                                      وبعث الله على صحيفتهم الأرضة ، فلحست كل ما كان فيها من عهد وميثاق ، ويقال : كانت معلقة في سقف البيت ، فلم تترك اسما لله إلا لحسته ، وبقي ما كان فيها من شرك أو ظلم ، فأطلع الله رسوله على ذلك ، فأخبر به أبا طالب ، فقال أبو طالب : لا والثواقب ما كذبني . فانطلق يمشي بعصابة من بني عبد المطلب ، حتى أتى المسجد وهو حافل من قريش ، فأنكروا ذلك ، فقال أبو طالب : قد حدثت أمور بينكم لم نذكرها لكم ، فأتوا بصحيفتكم التي تعاهدتم عليها ، فلعله أن يكون بيننا وبينكم صلح . فأتوا بها وقالوا : قد آن لكم أن تقبلوا وترجعوا إلى أمر يجمع قومكم ، فإنما قطع بيننا وبينكم رجل واحد ، جعلتموه خطرا للهلكة . قال أبو طالب : إنما أتيتكم لأعطيكم أمرا لكم فيه نصف ، إن ابن أخي قد أخبرني ولم يكذبني ، أن الله بريء من هذه الصحيفة ، ومحا كل اسم هو له فيها ، وترك فيها غدركم وقطيعتكم ، فإن كان كما قال : فأفيقوا ، فوالله لا نسلمه أبدا حتى نموت من عند آخرنا ، وإن كان الذي قال باطلا ، دفعناه إليكم ، فرضوا وفتحوا الصحيفة ، فلما رأتها قريش كالذي قال أبو طالب ، قالوا : والله إن كان هذا قط إلا سحرا من صاحبكم ، فارتكسوا وعادوا لكفرهم ، فقال بنو عبد المطلب : إن أولى بالكذب والسحر غيرنا ، فكيف ترون ، وإنا نعلم أن الذي اجتمعتم عليه من قطيعتنا أقرب إلى الجبت والسحر من أمرنا ، ولولا أنكم اجتمعتم على السحر لم تفسد الصحيفة ، وهي في أيديكم ، أفنحن السحرة أم أنتم ؟ فقال أبو البختري ، ومطعم بن عدي ، وزهير بن أبي أمية بن المغيرة ، وزمعة بن الأسود ، وهشام بن عمرو وكانت الصحيفة عنده ، [ ص: 181 ] وهو من بني عامر بن لؤي في رجال من أشرافهم : نحن براء مما في هذه الصحيفة . فقال أبو جهل : هذا أمر قضي بليل .

                                                                                      وذكر نحو هذه القصة ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة .

                                                                                      وذكر ابن إسحاق نحوا من هذا ، وقال : حدثني حسين بن عبد الله أن أبا لهب يعني حين فارق قومه من الشعب لقي هندا بنت عتبة بن ربيعة ، فقال لها : هل نصرت اللات والعزى وفارقت من فارقها ؟ قالت : نعم فجزاك الله خيرا أبا عتبة .

                                                                                      وأقام بنو هاشم سنتين أو ثلاثا حتى جهدوا ، لا يصل إليهم شيء إلا سرا مستخفى به . وقد كان أبو جهل فيما يذكرون لقي حكيم بن حزام بن خويلد ، ومعه غلام يحمل قمحا ، يريد به عمته خديجة رضي الله عنها ، وهي في الشعب فتعلق به ، وقال : أتذهب بالطعام إلى بني هاشم ، والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة . فجاءه أبو البختري بن هشام ، فقال : ما لك وله! قال : يحمل الطعام إلى بني هاشم ! قال : طعام كان لعمته عنده أفتمنعه أن يأتيها بطعامها ، خل سبيل الرجل . فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه ، فأخذ له أبو البختري لحي بعير ، فضربه فشجه ووطئه وطئا شديدا ، وحمزة يرى ذلك ، يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فيشمتوا بهم ، قال : ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك يدعو قومه ليلا ونهارا ، سرا وجهرا .

                                                                                      وقال موسى بن عقبة : فلما أفسد الله الصحيفة ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطه ، فعاشوا وخالطوا الناس .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية