الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
652 - أنا أبو الحسن : محمد بن أحمد بن عمر الصابوني ، أنا أبو سليمان : محمد بن الحسين بن علي الحراني ، أنا أبو علي : أحمد بن علي بن الحسن بن شعيب المدائني ، قال : قال المزني : " يقال لمن أنكر السؤال في البحث عما لم يكن لم أنكرتم ذلك ؟ فإن قالوا : لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كره المسألة ، قيل : وكذلك كرهها بعد أن كانت ترفع إليه لما كره من افتراض الله الفرائض بمساءلته وثقلها على أمته لرأفته بها وشفقته عليها ، فقد ارتفع ذلك برفع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا فرض بعده يحدث أبدا .

وإن قالوا : لأن عمر أنكر السؤال عما لم يكن ، قيل : فقد يحتمل إنكاره ذلك على وجه التعنت والمغالطة ، لا على التفقه ، والفائدة ، وقد روي أنه قال لابن عباس : سل عما بدا لك ، فإن كان عندنا ، وإلا سألنا عنه غيرنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكما روي عن علي من إنكاره على ابن الكواء أن يسأل تعنتا ، وأمره أن يسأل تفقها ، وقد روي عن عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وزيد ، في الرجل يخير امرأته ، فقال عمر ، وابن مسعود : إن اختارت زوجها ، فلا شيء ، [ ص: 31 ] وإن اختارت نفسها ، فواحدة يملك الرجعة ، وقال علي : إن اختارت زوجها ، فواحدة يملك الرجعة ، وإن اختارت نفسها فواحدة بائن ، وقال زيد بن ثابت : إن اختارت نفسها فثلاث ، وإن اختارت زوجها ، فواحدة بائن ، وأجابوا جميعا في أمرين ، أحدهما لم يكن ، ولو كان الجواب فيما لم يكن مكروها لما أجابوا إلا فيما كان ، ولسكتوا عما لم يكن .

وعن زيد أنه قال لعلي في المكاتب : أكنت راجمه لو زنا ؟ قال : لا ، قال : أفكنت تقبل شهادته لو شهد ؟ قال : لا .

فقد سأله زيد وأجابه علي فيما لم يكن على التفقه والتفطن .

وعن ابن مسعود في مساءلته عبيدة السلماني : أرأيت ، أرأيت ، وقد ذكرنا فيما مضى ما روي من قول عمر لابن عباس : سلني ، وقول علي : سلوني ، وقول أبي الدرداء : ذاكروا هذه المسائل ، ولو كان هذا السؤال لا يجوز إلا عما كان لما تعرض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، جوابا لا يجوز أبدا إن شاء الله .

ويقال له : أليس على كل مسلم أن يطلب الفرائض في الطهارة والصلاة والزكاة والصيام ، ونحو ذلك من الكتاب والسنة ، قبل أن ينزل ذلك وهو دين ؟ فإذا قال : نعم ، قيل : فكيف يجوز طلب ذلك في بعض الدين ، والجواب فيه ، ولا يجوز في بعض ، وكل ذلك دين ؟ !

ويقال له : هل تخلو المسألة التي أنكرتم جوابها ، قبل أن تكون من أن يكون لها حكم خفي ، حتى لا يوصل إليه إلا بالنظر [ ص: 32 ] والاستنباط ، أو لا يكون لها حكم ، فإن لم يكن لها حكم فلا وجه لذلك ما وجه المسألة فيها كانت أو لم تكن ، وإن كان لها حكم لا يوصل إليه بالمناظرة والاستنباط ، فالتقدم بكشف الخفي ، ومعرفته وإعداده للمسألة قبل نزولها أولى ، فإذا نزلت كان حكمها معروفا فوصل بذلك الحق إلى أهله ، ومنع به الظالم من ظلمه ، وكان خيرا أو أفضل من أن يتوقفوا إلى أن يصح النظر في المسألة عند المناظرة ، وقد يبطئ ذلك ويكون في التوقف ضرر يمنع الخصم من حقه ، والفرج من حله ، وترك الظالم على ظلمه .

وشبهوا أو بعضهم النازلة - فيما بلغني - ، إذا كانت بالضرورة ، والجواب فيها بأكل الميتة ، فأحلوا الجواب في النازلة ، كما أحلوا الميتة بالضرورة ، فيقال لهم : أفتزعمون أن الذي ذكرنا روايتكم عنهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما أجابوا فيه مما لم يكن وتعرضهم جواب ما لم يسألوا عنه قد صاروا بذلك في معنى من أكل الميتة على غير ضرورة ؟

ويقال لهم : ما يشبه خوف المرء على نفسه الموت ، فأمر بإحيائها من أكل الميتة من المجيب ، إلا مما حل لصاحب المسألة ، ولو كان هذا التشبيه لكان إذا حل برجل ضرورة حل لغيره أكل الميتة ، كما إذا حلت برجل مسألة ، حل لغيره جواب المسألة ، وكان أولى التشبيهين ، إن جاز أن يقاس على الميتة أن يكون الجاهل المنزول به المسألة أحق بالجواب الذي يدفع به عن نفسه مكروه المسألة ، كما كان بضرورة المضرور تحل له الميتة ، يدفع بها عن نفسه مكروه الضرورة " .

[ ص: 33 ] قال المزني : وإن قالوا أو بعضهم : إنما زعمنا أن المسألة إذا نزلت فسئل عنها العالم كان كالمضطر ، فعليه أن يجيب كما كان على المضطر أن يأكل الميتة قيل لهم : فروايتكم عن عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا سئلوا رد المسألة هذا إلى هذا حتى تدور المسألة فترجع إلى الأول توجب في قولكم أنهم تركوا ما فرض الله عليهم ، لأن على المضطر فرضا أن يحيي نفسه بالميتة ، ولا يقتلها بترك أكل الميتة ، قد ترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما فرض عليهم في معنى قولكم .

ويقال لهم : أليس إنما يجب عليهم جواب المنزول به ليدفع به جهله ، وليعلم بالجواب ما حرم عليه وحل له ؟ فإذا قال : نعم ، قيل له : فقد رجعت المسألة إلى أن الضرورة بغيره أوجبت الجواب عليه ، فكذلك لضرورة المضطر بغيره يجب أكل الميتة عليه ، وإلا فهما مفترقان لا يشبه الجواب في المسألة الميتة .

ويقال له : أليس إذا نزلت المسألة فسئل عنها العالم حل له الجواب بالسؤال ، كما إذا نزلت به ضرورة حل له أكل الميتة بالاضطرار ؟ فإذا قال : بلى ، قيل : وكذلك إذا ارتفع السؤال رجع الجواب حراما كما إذا ارتفع الاضطرار رجعت الميتة حراما ، فإذا قالوا : نعم ، قيل لهم : فلم سألتم عن جواب الماضين وملأتم منها الكتب ، وهي حرام عليكم ، وإنما حلت للعالم بالسؤال ، ثم حرمت بارتفاع السؤال كما حلت للمضطرين الميتة بالاضطرار ، ثم حرمت [ ص: 34 ] بارتفاع الاضطرار ؟ فإن قالوا : لأن ذلك السؤال والجواب قد كان ، قيل : وكذلك الاضطرار وأكل الميتة بالاضطرار قد كان ، فما الفرق بين ذلك ، إن كان لجواب عندكم نظيرا للميتة ؟

فإن قالوا : إنما ذلك حكاية ، وليست سؤالا ولا جوابا ، قيل لهم : فلا معنى فيما رويتم يستدل به على الفقه والعلم فيما لم ينزل ، فإن قالوا : نعم ، أقاموا الحكاية مقام الجواب ، ولزمهم تحريم السؤال والجواب عما لم يكن ، وهو نقص قولهم ، وإن قالوا : لا معنى أكثر من الحكاية ، قيل : فلا فرق بين حكاية ما لا يضر وما لا ينفع ، وبين ما حكيتم من جوابات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما معنى ما روى الفقهاء والعلماء عن السابقين ثم عن التابعين واقتدائهم بجوابان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ويقال لهم : أرأيتم مجوسيا أتاكم من بلده ، راغبا في الإسلام ، محبا لمحمد صلى الله عليه وسلم ، فقال : علموني الدخول في الإسلام ، فعلمتموه إياه فدخل فيه ، ثم قال : إني راجع إلى بلدي فما علينا من الطهارة ، لأكون منها على علم قبل دخول وقت الصلاة ؟ وما الذي يوجب الغسل وينقض الطهور ؟ وما الصلاة وما الذي يفسدها ؟ وما حكم الزيادة فيها والنقصان منها والسهو فيها ؟ وما في عشرة دنانير ومائة درهم من الزكاة ؟ وما الصوم ؟ وما حكم الأكل فيه عامدا أو ساهيا ؟ وما على من كان منا مريضا أو كبيرا أو ضعيفا ؟ وهل بأس بدرهم بدرهمين ؟ وما فيه القصاص من الدماء والجراح ، وحكم الخطأ ؟ وهل في ذلك الرجال والنساء [ ص: 35 ] سواء ؟ فإني راجع إلى بلدي وأهلي وعشيرتي ، ينتظرون بإسلامهم رجوعي ، فأكون ويكونون من ديننا على علم فنعمل بذلك ونتقرب إلى الله ، تؤجرون عليه ، وذلك كله عندكم واضح لا تشكون فيه .

أيجوز أن يعلموه ذلك ؟ أم يقولون : لا نخبرك حتى تنزل بك نازلة ، فتكسرون بذلك نشاطه ، وتخبثون نفسه على حديث عهده بكفره ، وتدعونه على جهله ؟ أم تغتنمون رغبته في الإسلام ، وإسلام من ينتظره ، وتعليم الجهال ما يحسنونه من العلم ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " من سئل عن علم فكتمه ، جيئ به يوم القيامة ملجما بلجام من النار " ، فإن قالوا : نعلمه ذلك قبل نزوله : تركوا قولهم ، لأن بعض ذلك أصل ، وبعضه قياس ، وإن قالوا : نعلمه بعضا ، وإن لم ينزل ، ونترك بعضا حتى ينزل ، قيل : فما الفرق بين ذلك ، وكل ذلك دين ؟ !

فانظروا رحمكم الله على ما في أحاديثكم التي جمعتموها ، واطلبوا العلم عند أهل الفقه تكونوا فقهاء إن شاء الله " .

[ ص: 36 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية