الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  وقال الحسن : أخذ الله على الحكام أن لا يتبعوا الهوى، ولا يخشوا الناس، ولا يشتروا بآياته ثمنا قليلا ، ثم قرأ: يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب وقرأ: إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا استودعوا - من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وقرأ: وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما فحمد سليمان، ولم يلم داود، ولولا ما ذكر الله من أمر هذين لرأيت أن القضاة هلكوا؛ فإنه أثنى على هذا بعلمه، وعذر هذا باجتهاده .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  أي: قال الحسن البصري رحمه الله: أخذ الله أي: ألزم الله على الحكام - بضم الحاء جمع حاكم - أن لا يتبعوا الهوى ، أي: هوى النفس، وهو ما تحبه وتشتهيه، من هوي يهوى - من باب علم يعلم - هوى، والنهي عن اتباع الهوى أمر بالحكم بالحق.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ولا يخشوا الناس " نهي عن خشيتهم، وفي النهي عن خشيتهم أمر بخشية الله، ومن لازم خشية الله الحكم بالحق.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ولا يشتروا بآياته " أي: بآيات الله ثمنا قليلا، وهكذا في بعض النسخ، وفي بعضها: ولا تشتروا بآياتي، وفي النهي عن بيع آياته الأمر باتباع ما دلت عليه، وإنما وصف الثمن بالقلة إشارة إلى أنه وصف لازم له بالنسبة للعوض؛ فإنه أعلى من جميع ما حوته الدنيا.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ثم قرأ " أي: ثم قرأ الحسن البصري قوله تعالى: يا داود إنا جعلناك خليفة أي: صيرناك خلفا عمن كان قبلك في الأرض أي: على الملك من الأرض، كمن يستخلفه بعض السلاطين على بعض البلاد ويملكه عليها.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فاحكم بين الناس بالحق " أي: بالعدل الذي هو حكم الله.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ولا تتبع الهوى " أي: لا تمل مع ما تشتهي إذا خالف أمر الله تعالى.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فيضلك " منصوب على الجواب. وقيل: مجزوم عطفا على النهي، وفتح اللام لالتقاء الساكنين.

                                                                                                                                                                                  قوله: " إن الذين يضلون عن سبيل الله " أي: عن دلائله التي نصبها في العقول، أو عن شرائعه التي شرعها وأوحى بها.

                                                                                                                                                                                  قوله: " بما نسوا " أي: بنسيانهم يوم الحساب، ويوم الحساب متعلق بنسوا، أو بقوله: " لهم" ، أي: لهم عذاب شديد يوم القيامة بسبب نسيانهم، وهو ضلالهم عن سبيل الله.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وقرأ " أي الحسن البصري قوله: " فيها هدى " أي: بيان " ونور " الفتيا الكاشف للشبهات، وذلك أن اليهود استفتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في أمر الزانيين، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

                                                                                                                                                                                  قوله: " يحكم بها النبيون الذين أسلموا " وصفهم بالإسلام لا على أن غيرهم من النبيين لم يكونوا مسلمين، وهو كقوله: النبي الأمي الآية، لا أن غيره لم يؤمن بالله. وقيل: أراد الذين انقادوا لحكم الله لا الإسلام الذي هو ضد الكفر. وقيل: أسلموا أنفسهم لله. وقيل: بما في التوراة.

                                                                                                                                                                                  قوله: " للذين هادوا " أي: تابوا من الكفر، قاله ابن عباس ، وقال الحسن : هم اليهود ، ويجوز أن يكون فيها تقديم وتأخير، أي: للذين هادوا يحكم بها النبيون.

                                                                                                                                                                                  قوله: " والربانيون " العلماء الحكماء، وهو جمع رباني، وأصله رب العلم، والألف والنون فيه للمبالغة، وقال مجاهد : هم فرق الأحبار، والأحبار العلماء؛ لأنهم يحبرون الشيء، وهو في صدورهم محبر.

                                                                                                                                                                                  قوله: " بما استحفظوا " استودعوا " من كتاب الله " هذا [ ص: 241 ] تفسير أبي عبيدة ، وقد ثبت هذا للمستملي ، يقال: استحفظته كذا: استودعته إياه.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وكانوا عليه " أي: على الكتاب أو على ما في التوراة.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فلا تخشوا الناس " أي: في إظهار صفة النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم " واخشون " في كتمان صفته، والخطاب لعلماء اليهود . وقيل: ليهود المدينة بأن لا يخشوا يهود خيبر . وقيل: نهي للحكام عن خشيتهم غير الله تعالى في حكوماتهم.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا " أي: ولا تستبدلوا بأحكامي وفرائضي. وقيل: بصفة النبي -صلى الله عليه وسلم-.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ومن لم يحكم " إلى آخره هذه والآيتان بعدها نزلت في الكفار ومن غير حكم الله من اليهود ، وليس في أهل الإسلام منها شيء؛ لأن المسلم وإن ارتكب كبيرة لا يقال له: كافر.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وقرأ " أي الحسن البصري " وداود وسليمان إذ يحكمان " يعني يحكمان " في الحرث " وأخرج عبد الرزاق بسند صحيح، عن مسروق قال: كان حرثهم عنبا، نفشت فيه الغنم، أي: رعت ليلا، يقال: نفشت الدابة تنفش نفوشا إذا رعت ليلا بلا راع، وأهملت إذا رعت نهارا بليل، فتحاكم أصحاب الحرث مع أصحاب الغنم عند داود عليه السلام ، فقضى بالغنم لأصحاب الحرث، فمروا بسليمان ، فأخبروه الخبر، فقال سليمان : لا، ولكن أقضي بينهم أن يأخذوا الغنم فيكون لهم لبنها وصوفها وسمنها ومنفعتها، ويقوم هؤلاء على حرثهم، حتى إذا عاد كما كان ردوا عليهم غنمهم. فدخل أصحاب الغنم على داود ، فأخبروه، فأرسل إلى سليمان ، فعزم عليه بحق النبوة والملك والولد: كيف رأيت فيما قضيت؟ فقال: عدل الملك وأحسن، وغيره كان أرفق بهما جميعا، قال: ما هو؟ فأخبره بما حكم به، فقال داود عليه السلام : نعم ما قضيت .

                                                                                                                                                                                  قوله: " ففهمناها " يعني القضية.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وكلا " أي: كل واحد من داود وسليمان عليهما السلام " آتينا " أي: أعطينا " حكما وعلما " وقال الداودي : أثنى الله عليهما بذلك " فحمد سليمان ، ولم يلم داود " من اللوم، وفي بعض النسخ " ولم يذم " من الذم، قيل: قول الحسن البصري : ولم يذم داود بأن فيه نقصا لحق داود عليه السلام ، وذلك أن الله تعالى قال: وكلا آتينا حكما وعلما فجمعهما في الحكم والعلم، وميز سليمان بالفهم ، وهو علم خاص زاد على العام بفصل الخصومة، قال: والأصح في الواقعة أن داود أصاب الحكم، وسليمان أرشد إلى الصلح. وقيل: الاختلاف بين الحكمين في الأولوية لا في العمد والخطأ، ومعنى قول الحسن : " فحمد سليمان " يعني لموافقته الطريق الأرجح، ولم يذم داود لاقتصاره على الطريق الراجح، واستدل بهذه القصة على أن للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن يجتهد في الأحكام ولا ينتظر نزول الوحي ؛ لأن داود عليه السلام اجتهد في المسألة المذكورة قطعا؛ لأنه لو كان قضى فيها بالوحي ما خص الله سليمان بفهمها دونه.

                                                                                                                                                                                  وقد اختلف من أجاز للنبي أن يجتهد: هل يجوز عليه الخطأ في اجتهاده؟ فاستدل من أجاز ذلك بهذه القصة، ورد عليه بأن الله تعالى أثنى على داود فيها بالحكم والعلم، والخطأ ليس حكما ولا علما، وإنما هو ظن غير مصيب.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ولولا ما ذكر الله من أمر هذين " يعني داود وسليمان عليهم السلام.

                                                                                                                                                                                  قوله: " لرأيت " جواب لو، واللام فيه للتأكيد، وهي مفتوحة، وفي رواية الكشميهني " لرئيت " على صيغة المجهول.

                                                                                                                                                                                  قوله: " أن القضاة " أي: قضاة هذا الزمان هلكوا؛ لما تضمنه قوله عز وجل: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ودخل في عمومه العامد والمخطئ، فاستدل بقوله: ففهمناها سليمان الآية. - على أن الوعيد خاص بالعامد، وأشار إلى ذلك بقوله: فإنه أي: فإن الله أثنى على هذا أي: على سليمان بعلمه.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وعذر " بالذال المعجمة.

                                                                                                                                                                                  قوله: " هذا " يعني داود " .

                                                                                                                                                                                  باجتهاده " فلذلك لم يلمه.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية