الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  6502 37 - حدثنا أبو نعيم، حدثنا سعيد بن عبيد، عن بشير بن يسار زعم أن رجلا من الأنصار يقال له: سهل بن أبي حثمة أخبره أن نفرا من قومه انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها، ووجدوا أحدهم قتيلا، وقالوا للذي وجد فيهم: قتلتم صاحبنا ؟ قالوا: ما قتلنا ولا علمنا قاتلا، فانطلقوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، انطلقنا إلى خيبر، فوجدنا أحدنا قتيلا فقال: الكبر الكبر، فقال لهم: تأتون بالبينة على من قتله ؟ قالوا: ما لنا بينة، قال: فيحلفون، قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه، فوداه مائة من إبل الصدقة .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  أي ذكر البخاري هذا الحديث مطابقا لما قبله في عدم القود في القسامة، وأن الحكم فيها مقصور على البينة واليمين كما في حديث الأشعث .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه عن أبي نعيم الفضل بن دكين ، عن سعيد بن عبيد أبي الهذيل الطائي الكوفي ، عن بشير ، بضم [ ص: 59 ] الباء الموحدة، وفتح الشين المعجمة، وسكون الياء آخر الحروف، وبالراء: ابن يسار ، بفتح الياء آخر الحروف، وتخفيف السين المهملة، وبالراء، المدني مولى الأنصار ، وقال ابن سعد : كان شيخا كبيرا فقيها أدرك عامة الصحابة، ووثقه يحيى بن معين ، والنسائي ، وكناه محمد بن إسحاق أبا كيسان ، وهو يروي عن سهل بن أبي حثمة بفتح الحاء المهملة، وسكون الثاء المثلثة، وقال الحافظ المزي : هو سهل بن عبد الله بن أبي حثمة بفتح الحاء المهملة والثاء المثلثة، واسمه عامر بن ساعدة الأنصاري ، وكنيته أبو يحيى ، وقيل: أبو محمد ، والحديث مضى في الصلح، وفي الجزية عن مسدد ، وفي الأدب عن سليمان بن حرب ، وأخرجه بقية الجماعة، وقد ذكرناه، وأخرجه الطحاوي من أربع طرق صحاح:

                                                                                                                                                                                  الأول: قال حدثنا يونس ، قال: حدثنا سفيان ، عن يحيى بن سعيد ، سمع بشير بن يسار ، عن سهل بن أبي حثمة قال: وجد عبد الله بن سهل قتيلا في قليب من قلب خيبر ، فجاء أخوه عبد الرحمن بن سهل ، وعماه حويصة ومحيصة ابنا مسعود إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فذهب عبد الرحمن ليتكلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الكبر الكبر، ليتكلم أحد عميه إما حويصة ، وإما محيصة ، فتكلم الكبير منهما، فقال: يا رسول الله، إنا وجدنا عبد الله بن سهل قتيلا في قليب من قلب خيبر ، وذكر عداوة اليهود لهم، قال: أفتبرئكم اليهود بخمسين يمينا أنهم لم يقتلوه ؟ قال: فقلت: وكيف نرضى بأيمانهم وهم مشركون ؟ قال: فيقسم منكم خمسون أنهم قتلوه، قالوا: كيف نقسم على ما لم نره ؟ فوداه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من عنده ، وإنما ذكرنا هذا لأنه كالشرح لحديث الباب .

                                                                                                                                                                                  قوله: "زعم" أي قال، وليس في رواية ابن نمير زعم، بل عنده عن سهل بن أبي حثمة الأنصاري أنه أخبره .

                                                                                                                                                                                  قوله: "أن نفرا" بفتح النون والفاء، وهو رهط الإنسان وعشيرته، وهو اسم جمع يقع على جماعة من الرجال خاصة ما بين الثلاثة إلى العشرة، ولا واحد له من لفظه، وقد بين الطحاوي هؤلاء النفر، وهم عبد الرحمن بن سهل ، وعماه حويصة ومحيصة .

                                                                                                                                                                                  قوله: ووجدوا أحدهم ، وهو عبد الله بن سهل .

                                                                                                                                                                                  قوله: "وقالوا للذي وجد فيهم" أي للذين وجد فيهم، وهذا مثل قوله تعالى: وخضتم كالذي خاضوا .

                                                                                                                                                                                  قوله: "الكبر الكبر" بضم الكاف فيهما، وبالنصب فيهما على الإغراء، وقال الكرماني : الكبر بضم الكاف مصدر، أو جمع الأكبر، أو مفرد بمعنى الأكبر، يقال: هو كبرهم أي أكبرهم، ويروى: الكبر بكسر الكاف، وفتح الباء، أي كبير السن، أي قدموا الأكبر سنا في الكلام .

                                                                                                                                                                                  قوله: "أن يبطل" بضم الياء من الإبطال، ويجوز فتحها من البطلان .

                                                                                                                                                                                  قوله: "فوداه مائة" ، وفي رواية الكشميهني : بمائة، بزيادة حرف الباء .

                                                                                                                                                                                  قوله: "من إبل الصدقة" ، وزعم بعضهم أنه غلط من سعيد بن عبيد لتصريح يحيى بن سعيد من عنده، ووفق قوم بين الروايتين بأنه يحتمل أنه كان اشتراه من إبل الصدقة بمال دفعه من عنده، أي من بيت المال المرصد للمصالح، وأطلق عليه الصدقة باعتبار الانتفاع به مجانا لما في ذلك من قطع المنازعة، وإصلاح ذات البين .

                                                                                                                                                                                  وهذا الحديث مشتمل على أحكام .

                                                                                                                                                                                  الأول: فيه مشروعية القسامة في الدم، وهو أمر كان في الجاهلية فأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام، وتوقفت طائفة عن الحكم بالقسامة، روي ذلك عن سالم بن عبد الله بن عمر ، وأبي قلابة ، وعمر بن عبد العزيز ، والحكم بن عتيبة ، وقد ذكرنا بعض ذلك، الثاني: أن القوم إذا اشتركوا في معنى من معاني الدعوى وغيرها كان أولاهم أن يبدأ بالكلام أكبرهم ، الثالث: فيه جواز الوكالة في المطالبة بالحدود ، الرابع: فيه جواز وكالة الحاضر ؛ لأن ولي الدم فيه هو عبد الرحمن بن سهل أخو القتيل، وحويصة ومحيصة ابنا عمه، الخامس: فيه كيفية القسامة الواجبة فيه، وقد اختلفوا فيها، فقال يحيى بن سعيد ، وأبو الزناد ، وربيعة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، والليث بن سعد : يستحلف المدعون بالدم، فإذا حلفوا استحقوا ما ادعوا، وهذا في القسامة خاصة، وهو يخص قوله صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي، واليمين على من أنكر" ، لما روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: " البينة على المدعي، واليمين على من أنكر، إلا في القسامة "، وقال البيهقي : هذا الحديث مخصوص بما أخبرنا علي بن بشير ، أخبرنا علي بن محمد المصري ، حدثنا عبدة بن سليمان ، حدثنا مطرف بن عبد الله ، حدثنا الزنجي ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، إلا في القسامة" ، وقال عثمان البتي ، والحسن بن صالح ، وسفيان الثوري ، وعبد الرحمن [ ص: 60 ] ابن أبي ليلى ، وعبد الله بن شبرمة ، وعامر الشعبي ، وإبراهيم النخعي ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف، ومحمد رحمهم الله: يبدأ بأيمان المدعى عليهم، فيحلفون ثم يغرمون الدية، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه .

                                                                                                                                                                                  وأجابوا عن حديث عمرو بن شعيب بأنه معلول من خمسة وجوه، الأول: أن الزنجي - هو مسلم بن خالد شيخ الشافعي - ضعيف، كذا قال البيهقي نفسه في سننه في باب من زعم أن التراويح بالجماعة أفضل، وقال ابن المديني : ليس بشيء، وقال أبو زرعة ، والبخاري : منكر الحديث، الثاني: أن ابن جريج لم يسمع من عمرو ، حكاه البيهقي أيضا في سننه في باب وجوب الفطرة على أهل البادية، عن البخاري : أن ابن جريج لم يسمع من عمرو ، الثالث: الاحتجاج بعمرو بن شعيب ، عن أبيه، عن جده مختلف فيه، الرابع: أن الزنجي مع ضعفه خالفه عبد الرزاق ، وحجاج ، وقتادة ، فرووه عن ابن جريج ، عن عمرو مرسلا، كذا ذكره الدارقطني في سننه، الخامس: أن الزنجي اختلف عليه فيه، قال الذهبي : قال عثمان بن محمد بن عثمان الرازي : حدثنا مسلم بن خالد الزنجي ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: البينة على المدعي واليمين على من أنكر إلا في القسامة .

                                                                                                                                                                                  السادس: من الأحكام فيه أن القتيل إذا وجد في المحلة فالقسامة والدية على أهل المحلة .

                                                                                                                                                                                  وقال أبو عمر : ما نعلم في شيء من الأحكام المروية عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الاضطراب والتضاد ما في هذه القضية، فإن الآثار فيها متضادة متدافعة، وهي قضية واحدة، وذكر أبو القاسم البلخي في معرفة الرجال عن ابن إسحاق قال: سمعت عمرو بن شعيب يحلف في المسجد الحرام : والله الذي لا إله إلا هو إن حديث سهل بن أبي حثمة في القسامة ليس كما حدث، ولقد وهم ، وقال أبو عمر : وقد خطأ جماعة من أهل الحديث حديث سعيد بن عبيد ، وذموا البخاري في تخريجه، وتركه رواية يحيى بن سعيد ، قال الأصيلي : أسنده عن يحيى شعبة ، وسفيان بن عيينة ، وعبد الوهاب الثقفي ، وعيسى بن حماد ، وبشر بن المفضل ، وهؤلاء ستة نفر أسندوه، وأرسله مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار ، ولم يذكر سهل بن أبي حثمة ، وقال الأثرم : قال أحمد : الذي أذهب إليه في القسامة حديث بشير من رواية يحيى ، فقد وصله عنه حفاظ، وهو أصح من حديث سعيد بن عبيد ، وقال النسائي : لا أعلم أحدا تابع سعيد بن عبيد على روايته عن بشير ، وقال صاحب التوضيح: قد ذكره الدارقطني من حديث حبيب بن أبي ثابت ، عن بشير مثله .

                                                                                                                                                                                  قلت: حديث يحيى بن سعيد رواه مسلم من طرق عديدة منها ما رواه وقال: حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا ليث ، عن يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار ، عن سهل بن أبي حثمة قال يحيى: وحسبت قال: وعن رافع بن خديج أنهما قالا: خرج عبد الله بن سهل بن زيد ، ومحيصة بن مسعود بن زيد ، حتى إذا كانا بخيبر تفرقا في بعض ما هنالك، ثم إذا محيصة يجد عبد الله بن سهل قتيلا فدفنه، ثم أقبل إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هو وحويصة بن مسعود، وعبد الرحمن بن سهل، وكان أصغر القوم، فذهب عبد الرحمن ليتكلم قبل صاحبه، فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: كبر الكبر في السن، فصمت وتكلم صاحباه، وتكلم معهما، فذكروا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مقتل عبد الله بن سهل ، فقال لهم: أتحلفون خمسين يمينا فتستحقون صاحبكم ؟ قالوا: كيف نحلف ولم نشهد ؟ قال: فتبرئكم يهود بخمسين يمينا ؟ قالوا: وكيف نقبل أيمان كفار ؟ فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى عقله .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية