الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      صفحة جزء

      هذا ومن أنواعه وشعبه علم النجوم فادر هذا وانتبه

      هذا هو البحث الرابع وهو ( بيان أنواعه ) :

      فمنها علم التنجيم وهو أنواع : أعظمها ما يفعله عبدة النجوم ويعتقدونه في السبعة السيارة وغيرها ، فقد بنوا بيوتا لأجلها وصوروا فيها تماثيل سموها بأسماء النجوم ، وجعلوا لها مناسك وشرائع يعبدونها بكيفياتها ، ويلبسون لها لباسا خاصا وحلية خاصة وينحرون لها من الأنعام أجناسا خاصة ، لكل نجم منها جنس زعموا أنه يناسبه ، وكل نجم جعلوا لعبادته أوقاتا مخصوصة كأوقات الصلوات عند المسلمين ، واعتقدوا تصرفها في الكون . وهذا هو المعروف عن قوم إبراهيم ببابل وغيرها ، وإياهم خاطب فيما حكى الله عنهم متحديا له مبينا سخافة عقولهم وضلال قلوبهم ، قال تعالى : ( وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال ياقوم إني بريء مما تشركون ) ( الأنعام : 75 - 78 ) إلى آخر الآيات .

      ومنها ما يفعله من يكتب حروف أبي جاد ويجعل لكل حرف منها قدرا من العدد معلوما ويجري على ذلك أسماء الآدميين والأزمنة والأمكنة وغيرها ، ويجمع جمعا معروفا عنده ويطرح منها طرحا خاصا ، ويثبت إثباتا خاصا وينسبه إلى الأبراج الاثني عشر المعروفة عند أهل الحساب ، ثم يحكم على تلك القواعد بالسعود والنحوس وغيرها مما يوحيه إليه الشيطان ، وكثير منهم يغير الاسم لأجل ذلك ويفرق بين المرء وزوجه بذلك ، ويعتقد أنهم إن جمعهم بيت لا [ ص: 560 ] يعيش أحدهم . وقد يتحكم بذلك في الغيب فيدعي أن هذا يولد له وهذا لا ، وهذا الذكر وهذا الأنثى ، وهذا يكون غنيا وهذا يكون فقيرا ، وهذا يكون شريفا وهذا وضيعا ، وهذا محببا وهذا مبغضا . كأنه هو الكاتب ذلك للجنين في بطن أمه ، لا والله لا يدريه الملك الذي يكتب ذلك حتى يسأل ربه أذكر أم أنثى ، شقي أم سعيد ، ما الرزق وما الأجل ؟ فيقول له فيكتب . وهذا الكاذب المفتري يدعي علم ما استأثر الله بعلمه ، ويدعي أنه يدركه بصناعة اخترقها وأكاذيب اختلقها وهذا من أعظم الشرك في الربوبية . ومن صدقه به واعتقده فيه كفر والعياذ بالله .

      ومنها النظر في حركات الأفلاك ودورانها وطلوعها وغروبها واقترانها وافتراقها معتقدين أن لكل نجم منها تأثيرات في كل حركاته منفردا ، وله تأثيرات أخر عند اقترانه بغيره في غلاء الأسعار ورخصها ، وهبوب الرياح وسكونها ، ووقوع الكوائن والحوادث ، وقد ينسبون ذلك إليها مطلقا ، ومن هذا القسم الاستسقاء بالأنواء ، وسيأتي الحديث فيه عند ذكره في المتن إن شاء الله وبه الثقة .

      ومنها النظر في منازل القمر الثمانية والعشرين مع اعتقاد التأثيرات في اقتران القمر بكل منها ومفارقته ، وأن في تلك سعودا أو نحوسا وتأليفا وتفريقا وغير ذلك ، وكل هذه الأنواع اعتقاد صدقها محادة لله ورسوله ، وتكذيب بشرعه وتنزيله ، واتباع لزخارف الشيطان ما أنزل الله بذلك من سلطان ، والنجم مخلوق من المخلوقات مربوب مسخر مدبر كائن بعد أن لم يكن ، مسبوقا بالعدم المحض متعقب به ، ليس له تأثير في حركة الكون ولا سكون لا في نفسه ولا في غيره ، قال الله تعالى : ( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر ) ( الأعراف : 54 ) وقال تعالى : ( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون ) ( فصلت : 37 ) وقال تعالى : ( وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ) [ ص: 561 ] ( يس : 37 - 40 ) .

      وقال تبارك وتعالى : ( تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ) ( الفرقان : 61 - 62 ) وقال تعالى : ( وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون ) ( الأنعام : 97 ) وقال تعالى : ( وعلامات وبالنجم هم يهتدون ) ( النحل : 66 ) وقال سبحانه : ( إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد لا يسمعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب ) ( الصافات : 6 - 10 ) وقال تعالى : ( ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين ) ( الملك : 5 ) وقال تعالى : ( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق ) ( يونس : 5 ) وغير ذلك من الآيات .

      وقال تعالى في ذهابها وفنائها وعودها إلى العدم كما أوجدت بعد العدم : ( إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت ) ( التكوير : 1 - 2 ) وقال تعالى : ( وإذا الكواكب انتثرت ) ( الانفطار : 2 ) وقال سبحانه : ( وخسف القمر وجمع الشمس والقمر ) ( القيامة : 8 - 9 ) وروى ابن أبي حاتم رحمه الله تعالى عن قتادة الإمام في التفسير وغيره قال رحمه الله تعالى : إنما جعل الله سبحانه هذه النجوم لثلاث خصال ، جعلها زينة للسماء ، وجعلها يهتدى بها ، وجعلها رجوما للشياطين . فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد قال برأيه وأخطأ حظه وأضاع نصيبه وتكلف ما لا علم له به ، وإن ناسا جهلة بأمر الله قد أحدثوا من هذه النجوم كهانة ، من أعرس بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا ، ومن سافر بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا ، ومن ولد بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا .

      ولعمري ما من نجم إلا يولد به الأحمر والأسود والطويل والقصير والحسن والدميم ، وما على هذا النجم وهذه الدابة وهذا الطير بشيء من الغيب ، وقضى الله تعالى أنه : ( لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون ) [ ص: 562 ] ( النمل : 65 ) . وهذا كلام جليل متين صحيح ، وأصله في صحيح البخاري تعليقا . وقال أبو داود رحمه الله تعالى في كتاب الطب من سننه : " باب في النجوم " حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومسدد ، المعنى ، قالا : حدثنا يحيى عن عبيد الله بن الأخنس عن الوليد بن عبد الله عن يوسف بن ماهك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد " وذكر حديث النوء . وروى عبد بن حميد عن رجاء بن حيوة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنما أخاف على أمتي التصديق بالنجوم ، والتكذيب بالقدر ، وحيف الأئمة " . وروى ابن عساكر وحسنه عن أبي محجن مرفوعا : " أخاف على أمتي ثلاثا : حيف الأئمة ، وإيمانا بالنجوم ، وتكذيبا بالقدر " .

      وروى أبو يعلى وابن عدي عن أنس رضي الله عنه مرفوعا : " أخاف على أمتي بعدي خصلتين : تكذيبا بالقدر ، وإيمانا بالنجوم " . وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا : " رب معلم حروف أبي جاد دارس في النجوم ليس له عند الله خلاق يوم القيامة " ورواه حميد بن زنجويه عنه بلفظ : " رب ناظر في النجوم ومتعلم حروف أبي جاد ليس له عند الله خلاق " .

      [ ص: 563 ] ومن أنواع السحر زجر الطير والخط بالأرض ، قال أبو داود : حدثنا مسدد حدثنا يحيى حدثنا عوف حدثنا حيان - قال غير مسدد : حيان بن العلاء - حدثنا قطن بن قبيصة عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " العيافة والطيرة والطرق من الجبت " ورواه أحمد في مسنده . والجبت هو السحر ، قاله عمر رضي الله عنه ، وكذلك قال ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وغيرهم . وعن ابن عباس وغيره أيضا الجبت الشيطان ، ولا ينافي الأول ; لأن السحر من عمل الشيطان ، وعنه أيضا الجبت الشرك ، وعنه الجبت الأصنام ، وعنه الجبت حيي بن أخطب ، وعن الشعبي الجبت كاهن ، وعن مجاهد الجبت كعب بن الأشرف ، ولا منافاة أيضا فإن السحر من الشرك الذي يشمله عبادة غير الله ، وحيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ممن خاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسحر ، والكاهن عامل بالسحر ، وقال في القاموس : الجبت بالكسر الصنم والكاهن والساحر والسحر والذي لا خير فيه وكل ما عبد من دون الله عز وجل .

      ومن أنواعه العقد والنفث فيه ، قال الله تعالى : ( ومن شر النفاثات في العقد ) ( الفلق : 4 ) وقد تقدم حديث عائشة في قصة لبيد بن الأعصم ، وقد ثبت في حديث نزول المعوذتين ورقية جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بهما أنه كان كلما قرأ آية [ ص: 564 ] انحلت عقدة . وقال النسائي رحمه الله تعالى في كتاب تحريم الدم من سننه : " الحكم في السحرة " أخبرنا عمرو بن علي قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عباد بن ميسرة المنقري عن الحسن عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ، ومن سحر فقد أشرك ، ومن تعلق شيئا وكل إليه " . وقد أطلق السحر على ما فيه التخييل في قلب الأعيان وإن لم يكن السحر الحقيقي كما في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله قال : " إن من البيان لسحرا " يعني لتضمنه التخييل ، فيخيل الباطل في صورة الحق ، وإنما عني به البيان في المفاخرة والخصومات بالباطل ونحوها ، كما يدل عليه أصل القصة في التميميين اللذين تفاخرا عنده بأحسابهما وطعن أحدهما في حسب الآخر ونسبه ، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم : " إنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأحكم له على نحو ما أسمع ، فمن حكمت له من حق أخيه بشيء فإنما هو قطعة من النار " أو كما قال . وهو في الصحيح .

      وأما البيان بالحق لنصرة الحق فهو فريضة على كل مسلم ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، وهو من الجهاد في سبيل الله عز وجل . وقد سمى صلى الله عليه وسلم ما يعمل عمل السحر سحرا وإن لم يكن سحرا كقوله صلى الله عليه وسلم : " ألا أنبئكم ما العضه ، هي النميمة ، القالة بين الناس " رواه مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه . والعضه في لغة قريش السحر ، ويقولون للساحر عاضه ، فسمى النميمة سحرا ; لأنها تعمل عمل السحر في التفرقة بين المرء وزوجه وغيرهما من المتحابين ، بل هي أعظم في الوشاية ; لأنها [ ص: 565 ] تثير العداوة بين الأخوين ، وتسعر الحرب بين المتسالمين كما هو معروف مشاهد لا ينكر . وقد جاء الوعيد للقتات في الآيات والأحاديث كثيرا جدا . ومع هذا فالخداع للكفار للفتك بهم وإظهار المسلمين عليهم وكسر شوكتهم وتفريق كلمتهم من أعظم الجهاد وأنفعه وأشده نكاية فيهم ، كما فعله نعيم بن مسعود الغطفاني رضي الله عنه في تفريق كلمة الأحزاب بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فرق بين قريش وبين يهود بني قريظة ونقض الله بذلك ما أبرموه ، ولله الحمد والمنة .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية