الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              رسالة عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون

              1852 - حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد القافلاي ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق الصاغاني ، (ح) ، وحدثنا أبو حفص عمر بن محمد بن رجا ، قال : حدثنا أبو العباس أحمد بن عبد الله بن الحسن بن شهاب (ح) ، وحدثنا أبو حفص عمر بن أحمد بن عبد الله بن شهاب ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن هانئ الطائي الأثرم ، قالا جميعا : حدثنا أبو صالح عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون ، قال : " أما بعد ، فإنك سألتني أن أفرق لك في أمر القدر ، ولعمري لقد فرق الله تعالى فيه لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، فأعلمنا أن له الملك والقدرة ، وأن له العذر والحجة ، ووصف القدر تملكا [ ص: 241 ] والحجة إنذارا ، ووصف الإنسان في ذلك محسنا ومسيئا ومقدورا عليه ، ومعذورا عليه ، فرزقه الحسنة وحمده عليها ، وقدر عليه الخطيئة ولامه فيها ، فحسبت حين حمده ولامه أنه مملك ، ونسيت انتحاله القدر ؛ لأنه مملك ، فلم يخرجه بالمحمدة واللائمة من ملكه ، ولا يعذره بالقدر في خطيئته ، خلقه على الطلب بالحيلة ، فهو يعرفها ويلوم نفسه حين ينكرها ، وعرفه القدرة ، فهو يؤمن بها ولا يجد معولا إلا عليها ، فرغب إلى الله عز جل في التوفيق لعلمه بملكه ، موقنا بأن ذلك في يده فيخطئه ما طلب ، فيرجع في ذلك على لائمة نفسه مفزعه في التقصير ندامته على ما ترك من الأخذ بالحيلة ، قد عرف أن بذلك يكون لله عليه به الحجة ، معوله في طلب الخير : ثقته بالله ، وإيمانه بالقدر حين يقول يطلب الخير : لا حول ولا قوة إلا بالله ، يقول حين يقع في الشر : لا عذر لي في معصية الله ، مستسلم حين يطلب ، ضعيف في نفسه ، قوي حين يقع في الشر ، لائما لأمره ، ليس القدر بأحق عنده بأنه ظالم حين يعصي ربه إن رأى أن أحدهما أحق من صاحبه ، سفه الحق وجهل دينه ، لا يجد عن الإقرار بالقدر مناصا ، ولا عن الاعتراف بالخطيئة محيصا ، فمن ضاق ذرعا بهذا فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ فوالله لا يجد بدا من أن يضرع إلى الله ضرع من يعلم أن الأمر ليس إليه ، ويعتذر من الخطيئة اعتذار من كأنها لم تقدر عليه ، فلا تملكوا أنفسكم جحد القدرة ، ولا تعذروها بالقدر فرارا من حجته ، ضعوا أمر الله كما وضعه ألا تفرقوا بينه بعدما جمعه ، فإنه قد خلط بعضه ببعض وجعل بعضه من بعض ، فخلط الحيلة بالقدر ثم لام وعذر ، وقد كتب بعد ذلك ، فلا تملكوا أنفسكم فتجحدوا نعمته في الهدى ، ولا تغلوا في صفة القدر ، [ ص: 242 ] فتعذروا أنفسكم بالخطأ ، فإنكم إذا نحلتكم أنفسكم باللائمة وأقررتم لربكم بالحكومة ، سددتم عنكم باب الخصومة ، فتركتم الغلو ويئس منكم العدو ، فاتخذوا الكف طريقا فإنه القصد والهدى ، وإن الجدل والتعمق هو جور السبيل وصراط الخطأ ، ولا تحسبن التعمق في الدين رسوخا ، فإن الراسخين في العلم هم الذين وقفوا حيث تناهى علمهم ، وقالوا : آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب ، وإن أحببت أن تعلم أن الحيلة بالقدر كما وصفت لك ، فانظر في أمر القتال ، وما ذكر الله عز وجل منه في كتابه تسمع شيئا عجبا ، من ذكر ملك لا يغلب ، ودولة تنقلب ، ونصر محتوم ، والعبد بين ذلك محمود وملوم ، ينصر أولياءه وينتصر بهم ، ويعذب أعداءه ويديلهم ، يقول تعالى : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ، إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون ، قال : وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله ، فافهم ظنهم أي الفريقين أولى بهم ، المضيف إلى ربه [ ص: 243 ] المؤمن بقدره ، أم الذي يزعم أنه قد ملكه ؟ فإلى نفسه وكله ، فإن ظنهم ذلك إنما هو قولهم : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا ، ولكنا عصينا ، ولو أطعنا ما قتلنا هاهنا ، فلعمري لئن كانوا صدقوا لقد صدقت ، ولئن كانوا كذبوا لقد كذبت ، فقال الملك تعالى : قل إن الأمر كله لله ، وقال عز وجل : قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم ، وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء ، فيديل الله أعداءه على أوليائه ، فيستشهدهم بأيديهم ثم يكتب ذلك خطيئة عليهم ، ثم يعذبهم بها ويسألهم عنها وهو أدالهم بها ، وينصر أولياءه على أعدائه ، ثم يقول : فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ، ثم يكتب ذلك حسنة لهم ، يحمدهم عليها ويثني عليهم بها ، وهو تولى نصرهم فيها ، يقول : الأمر كله لي ، لا يغلب واحد من الفريقين إلا بي ، وعدهم ببدر إحدى الطائفتين أنها لهم وعدا لا يخلف ، ونقمة لا تصرف ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم ، فينقلبوا خائبين يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : ليس لك من الأمر شيء ، تمم ذاك الوعد بمثل الحيلة وأعد لهم العدد والمكيدة ، وإنما هو تسبب لقدرة خفية ، وأنزل من السماء الملائكة لقتال ألف من قريش ، ثم أوحى إليهم أني معكم يثبتهم بذلك ، [ ص: 244 ] فثبتوا الذين آمنوا ، حتى كأنه عند من ينكر القدر أمر يكابر ، وعدو يخاف منه أن يظفر ، وإبليس مع الكفار قد زين لهم أعمالهم وقال : لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فبينما الأمر هكذا كأنه أمر الناس الذين يخشون الغلبة ويجتهدون في المكيدة ، ولا يتركون في عدة ، إذ قذف الرعب في قلوبهم فولوا مدبرين ، وقال للملائكة : فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ، فجاءهم أمر لا حيلة لهم فيه ، ولا صبر لوليهم عليه ، وإنما وعدهم عليه إبليس ، فلما رأى الملائكة نكص على عقبيه وقال : إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب ، لا يجنبني وإياكم من بأسه جنة ، ولا يدفعه عني ولا عنكم عدة ولا قوة ، لا ترون من يقاتلكم ، لا تستطيعون دفع الرعب عن قلوبكم ، ولا أستطيع دفعه عن نفسي ، فكيف أستطيع دفعه عنكم ؟ وهم الذين كانوا حذروا ، وخيف منهم أن يظهروا ، ورأوا منهم كثرة العدد حين ، قال : إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ، لمه ؟ قال : ليقضي الله أمرا كان مفعولا ، فيخبرهم أنه قد فرغ وقضى ، وأنه لا يريد أن يكون الأمر إلا هكذا ، ويحسب القدري إنما ذلك من الله احتيال واحتفال وإعداد للقتال ، وينسى أنه الغالب على أمره بغير مغالبة ، والقاهر لعدوه إذا شاء بغير مكاثرة ، أهلك عادا بالريح العقيم ، وأخمد ثمود بالصيحة ، وخسف بقارون وبداره الأرض ، وأرسل على قوم لوط حجارة من السماء ، ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ، قعصا لا مكر فيه ولا [ ص: 245 ] استدراج ، ويستدرج ويمكر بمن لا يعجزه ، ويأتي من حيث لا يحتسب من لا يمتنع منه مواجهة ، ومن ليست له على النجاة منه قدرة ، وكلا الأمرين في قدره وقضائه سواء ، فهو ينفذهما في خلقه على من يشاء ، لم يهلك هؤلاء قعصا ولا قهرا ، اغتناما لغرتهم ، ولم يستدرج هؤلاء ويمكر بهم شفقة أن يعجزوا مما أراد بهم لقدره وقضائه مخرجان : أحدهما ظاهر قاهر ، والآخر قوي خفي ، لا يمتنع منه شيء ، ولا يوجد له مس ، ولا يسمع له حس ، ولا يرى له عين ولا أثر حتى يبرم أمره فيظهر ، يباعد به القريب ، ويصرف به القلوب ، ويقرب به البعيد ، ويذل به كل جبار عنيد ، حتى يفعل ما يريد به ، حفظ موسى عليه السلام في التابوت واليم منفوسا ونزه ، يقربه من عدوه إليه للذي سبب أمره عليه ، وقد قدر وقضى أن نجاته فيه . قال لأمه : فإذا خفت عليه أن يأخذه فرعون فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه فرعون هنالك ، لا يريد أن يأخذه إلا كذلك ، فاختلجه [ ص: 246 ] من كنه ، ومن ثدي أمه ، إلى هول البحر وأمواجه ، وأدخل قلب أمه اليقين أنه راده إليها ، وجاعله من المرسلين ، فأمنت عليه الغرق ، فألقته في اليم ولم تفرق ، وأمر اليم يلقيه بالساحل ، فسمع وأطاع ، وحفظه ما استطاع ، حتى أداه إلى فرعون بأمره ، وقد قدر وقضى على قلب فرعون وبصره حفظه وحسن ولايته بما قضى من ذلك ، فألقى عليه محبة منه ليصنعه على عينه ، قد أمن عليه سطوته ، ورضي له تربيته ، لم يكن ذلك منه على التغرير والشفقة ، ولكن على اليقين والثقة بالغلبة ، يصطفي له الأطعمة والأشربة والخدم والحضان ، يلتمس له المراضع شفقة أن يميته ، وهو يقتل أبناء بني إسرائيل عن يمين وشمال يخشى أن يفوته وهو في يديه وبين حجره ونحره ، يتبناه ويترشفه ، يراه ولا يراه وقد أغفل قلبه عنه ، وزينه في عينه ، وحببه إلى نفسه ، لمه ؟ قال : ليكون لهم عدوا وحزنا ، فمنه يفرق على وده لو عليه يقدر ، وهو في يديه وهو لا يشعر ، حتى [ ص: 247 ] رده بقدرته إلى أمه ، وجعله بها من المرسلين ، وفرعون خلال ذلك يزعم أنه رب العالمين ، وهو يجري في كيد الله المتين حتى أتاه من ربه اليقين ، مذعنا مستوثقا في كل مقال وقتال ، يرفعه طبقا عن طبق ، حتى إذا أدركه الغرق ، قال : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ، فنسأل الله تمام النعمة في الهدى في الآخرة والدنيا ، فإن ذلك ليس بأيدينا ، نبرأ إليه من الحول والقوة ، ونبوء على أنفسنا بالظلم والخطيئة ، الحجة علينا بغير انتحالنا القدرة على أخذ ما دعانا إليه إلا بمنه وفضله صراحا ، لا نقول : كيف رزقنا الحسنة وحمدنا عليها ، ولا كيف قدر الخطيئة ولامنا فيها ، ولكن نلوم أنفسنا كما لامها ، ونقر له بالقدرة كما انتحلها ، لا نقول لما قاله : لم قاله ؟ ولكن نقول كما قاله ، وله ما قال ، وله ما فعل : لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين " .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية