قوله ( ( ونحوها ) ) أي نحو الرحمة من ونحو ذلك قال تعالى " محبته تعالى ورضاه وغضبه يحبهم ويحبونه - وألقيت عليك محبة مني - إن الله يحب المحسنين - و : يحب المتقين - و : يحب الصابرين - و : يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا " .
قال شيخ الإسلام : ومن الناس من نفى أن تكون له صفة محبة أو رضا أو غضب غير الإرادة ، قال علماء الخلف المحبة ميل القلب إلى ما يلائم الطبع والله [ ص: 222 ] منزه عن ذلك ، وحينئذ فمحبة الله تعالى للعبد إرادة اللطف به ، والإحسان إليه ، ومحبة العبد لله هي محبة طاعته في أوامره ونواهيه ، والاعتناء بتحصيل مراضيه ، فمعنى يحب الله أي يحب طاعته وخدمته أو يحب ثوابه وإحسانه ، وهذا مذهب جمهور المتكلمين .
قال الإمام العلامة المحقق الأصولي الطوفي الحنبلي - رحمه الله تعالى - ذهب طوائف من المتكلمين والفقهاء إلى أن الله تعالى لا يحب ، وإنما محبته محبة طاعته وعبادته . وقالوا أيضا : هو لا يحب عباده المؤمنين ، وإنما محبته إرادته الإحسان إليهم .
قال : والذي دل عليه الكتاب والسنة ، واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها ، وجميع مشايخ الطريق أن الله تعالى يحب ويحب لذاته ، وأما حب ثوابه فدرجة نازلة .
وهذا كلام شيخ الإسلام ؛ فإنه قال : للناس في هذا الأصل العظيم ثلاثة أقوال ( أحدها ) : أن الله تعالى يحب ويحب ، كما قال الله تعالى : ( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ) فهو المستحق أن يكون له كمال المحبة دون ما سواه ، وهو سبحانه يحب ما أمر به ، ويحب عباده المؤمنين .
قال شيخ الإسلام : وهذا قول سلف الأمة وأئمتها ، وقول أئمة شيوخ المعرفة .
( والقول الثاني ) : أنه يستحق أن يحب لكنه لا يحب إلا بمعنى أن يريد ، وهذا قول كثير من المتكلمين ومن وافقهم من الصوفية .
( والثالث ) : أنه لا يحب ولا يحب ، وإنما محبة العباد له إراداتهم طاعته ، وهذا قول الجهمية ومن وافقتهم من متأخري أهل الكلام كالرازي .
فيقال : لم نفيت تلك وأثبت له الإرادة ؟ فإن قيل : لأن إثبات هذه الصفات تشبيه لأن الرحمة رقة تلحق المخلوق ، والغضب غليان الدم لإرادة الانتقام ، ونحو ذلك ، والرب منزه عن مثل صفات المخلوقين ، قيل له : وكذلك يقول لك منازعك في الإرادة أن الإرادة المعروفة ميل الإنسان إلى ما ينفعه ، ودفع ، ما يضره ، والله تعالى منزه عن الاحتياج إلى عباده ، وهم لا يبلغون ضره ولا نفعه ، بل هو الغني عن خلقه كلهم لمن نفى رحمة الله ومحبته وغضبه ورضاه ونحوها وأثبت له الإرادة
فإن قيل الإرادة التي نثبتها لله تعالى ليست مثل إرادة المخلوقين ، كما أنا قد اتفقنا ، وسائر المسلمين على أنه حي عليم قدير ، وليس هو مثل سائر الأحياء العلماء القادرين ، قال لك أهل الإثبات : وكذلك المحبة والرحمة ونحوهما التي نثبتها لله تعالى ليست مثل رحمة المخلوق [ ص: 223 ] ومحبته . فإن قلت : لا أعقل من الرحمة والمحبة إلا هذا ، قال لك النفاة : ونحن لا نعقل من الإرادة إلا هذا ، ومعلوم عند كل عاقل أن إرادتنا ومحبتنا ورحمتنا بالنسبة إلينا ، وإرادته ومحبته ورحمته تعالى بالنسبة إليه ، فلا يجوز التفريق بين المتماثلين فيثبت له إحدى الصفتين وينفي الأخرى ، وليس في العقل ولا في السمع ما يوجب التفريق .
قال شيخ الإسلام في التدمرية : القول في بعض الصفات كالقول في بعض ، فإن كان المخاطب ممن يقر بأن الله تعالى حي بحياة ، عليم بعلم ، قدير بقدرة ، سميع بسمع ، بصير ببصر ، متكلم بكلام ، مريد بإرادة ، ويجعل ذلك كله حقيقة ، وينازع في محبته تعالى ورضاه وغضبه وكراهته ، فيجعل ذلك مجازا ويفسره إما بالإرادة ، وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات ، قيل له : لا فرق بين ما نفيته وبين ما أثبته ، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر ، فإن قلت : إن إرادته مثل إرادة المخلوقين ، فكذلك محبته ورضاه وغضبه ، وهذا هو التمثيل ، وإن قلت : له إرادة تليق به كما أن للمخلوق إرادة تليق به ، قيل لك : وكذلك له محبة تليق به ، وله تعالى رضا وغضب يليق به ، وللمخلوق رضا وغضب يليق به ، فإن قال : الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام ، قيل له : والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة ، فإن قلت : هذه إرادة المخلوق ، قيل لك : وهذا غضب المخلوق .
وكذلك يلزم بالقول في علمه وسمعه وبصره وقدرته ونحو ذلك ، فهذا المفرق بين بعض الصفات وبعض يقال له فيما نفاه كما يقوله هو لمنازعه فيما أثبته ، فإن قال : تلك الصفات أثبتها بالعقل ؛ لأن الفعل دل على القدرة ، والتخصيص دل على الإرادة ، والإحكام دل على العلم ، وهذه الصفات مستلزمة للحياة ، والحي لا يخلو عن السمع والبصر والكلام أو ضد ذلك ، قال له سائر أهل الإثبات لك جوابان :
( أحدهما ) : أن يقال : عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين فهب أن ما سلكته من الدليل العقلي لا يثبت ذلك فإنه لا ينفيه ، وليس لك أن تنفيه من غير دليل ، لأن النافي عليه الدليل كما على المثبت ، والسمع قد دل عليه ولم يعارض ذلك معارض عقلي ، ولا سمعي ، فيجب إثبات ما أثبته الدليل [ ص: 224 ] السالم عن المعارض المقاوم
( الثاني ) : أن يقال : يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبت به تلك من العقليات ، فيقال : نفع العباد بالإحسان إليهم ، وما يوجد في المخلوقات من المنافع للمحتاجين ، وكشف الضر عن المضرورين ، وأنواع الرزق والهدى والمسرات ، دليل على رحمة الخالق ، كدلالة التخصيص على الإرادة والمشيئة ، والقرآن يثبت دلائل الربوبية بهذه الطريقة ، تارة يدلهم بالآيات المخلوقة على وجود الخالق ، ويثبت علمه وقدرته وحياته ، وتارة يدلهم بالنعم والآلاء على وجود بره وإحسانه المستلزم رحمته ، وهذا كثير في القرآن الكريم ، وإن لم يكن مثل الأول أو أكثر منه لم يكن أقل منه بكثير ، وإكرام الطائعين يدل على محبته ، وعقاب الكفار يدل على بغضهم كما قد ثبت بالشاهد والخبر من إكرام أوليائه وعقاب أعدائه ، والغايات الموجودة في مفعولاته ومأموراته وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة تدل على حكمته البالغة كما يدل التخصيص على الإرادة وأولى لقوة العلة الغائية ، ولهذا كان ما في القرآن الكريم من بيان مخلوقاته من النعم والحكم أعظم مما في القرآن من بيان ما فيها من الدلالة على محض المشيئة .
قال شيخ الإسلام - طيب الله مضجعه - : ومما يوضح ذلك أن وجوب تصديق كل مسلم بما أخبر به الله ورسوله من صفاته تعالى ليس موقوفا على أن يقوم دليل عقلي على تلك الصفة بعينها ، فإن مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرسول إذا أخبرنا بشيء من صفات الله تعالى وجب علينا التصديق به ، وإن لم نعلم ثبوته بعقولنا ، ومن لم يقر بما جاء به الرسول حتى يعلمه بعقله فقد أشبه الذين قال الله عنهم ( قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته ) ومن سلك هذا السبيل فهو في الحقيقة ليس مؤمنا بالرسول ، ولا متلقيا عنه الأخبار بشأن الربوبية ، ولا فرق عنده بين أن يخبر الرسول بشيء من ذلك أو لم يخبر به ؛ فإن ما أخبر به إذا لم يعلمه بعقله لا يصدق به بل يتأوله أو يفوضه ، وما لم يخبر به إن علمه بعقله آمن به ، فلا فرق عند من سلك هذه السبيل [ ص: 225 ] بين وجود الرسول وإخباره ، وبين عدم الرسول وعدم إخباره ، وكان ما يذكر من القرآن والحديث والإجماع عديم الأثر عنده .
قال شيخ الإسلام في شرح الأصفهانية : وقد صرح بهذا أئمة هذا الطريق .
قال : ثم أهل الطريق الثبوتية فيهم من يحيل على القياس ، وفيهم من يحيل على الكشف ، وكل من الطريقين فيها من الاضطراب والاختلاف ما لا ينضبط ، وليست واحدة منهما تحصل المقصود بدون الطريق النبوية ، والطريق النبوية بها يحصل الإيمان النافع في الآخرة ، ثم إن حصل قياس أو كشف يوافق ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان حسنا مع أن القرآن قد نبه على الطريق الاعتبارية التي بها يستدل على مثل ما في القرآن كما قال تعالى : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق فأخبر أنه يري عباده من الآيات المشهودة التي هي أدلة عقلية ما يبين أن القرآن حق ، وليس لقائل أن يقول إنما خصت هذه الصفات بالذكر لأن السمع موقوف عليها دون غيرها ، فإن الأمر ليس كذلك لأن التصديق بالسمعيات ليس موقوفا على إثبات السمع والبصر ونحو ذلك .
ثم قال شيخ الإسلام - قدس الله روحه - : والمقصود هنا التنبيه على أن ما يجب إثباته لله تعالى من الصفات ليس مقصورا على ما ذكره هؤلاء مع إثباتهم بعض صفاته بالعقل وبعضها بالسمع ، فإن من عرف حقائق أقوال الناس بطريقهم التي دعتهم إلى تلك الأقوال حصل له العلم والرحمة فعلم الحق ، ورحم الخلق ، وكان من الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وهذه خاصة أهل السنة المتبعين للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فإنهم يتبعون الحق ، ويرحمون من خالفهم باجتهاده حيث عذره الله ورسوله ، وأما أهل البدع فيبتدعون بدعة باطلة ويكفرون من خالفهم فيها . انتهى . وبالله التوفيق .