الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
ولهذا قال ( ( و ) ) ك ( ( يده ) ) تعالى الثابت بها النص القرآني ، والحديث النبوي العرفاني ، كقوله تعالى يد الله فوق أيديهم - لما خلقت بيدي - بل يداه مبسوطتان - قل إن الفضل بيد الله ، فقد أعلمنا في محكم تنزيله أنه خلق أبانا آدم - عليه السلام - بيديه ، وكذب جل شأنه اليهود في قولهم يد الله مغلولة ، فقال ( بل يداه مبسوطتان ) ، وأعلمنا في محكم الذكر أن الأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ، وقال سبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون ، وقال تعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير - أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما

وفي الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : التقى آدم وموسى فقال موسى : أنت الذي خلقك الله بيده ، وأسجد لك ملائكته ، ونفخ فيك من [ ص: 229 ] روحه : الحديث - وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا نحوه - فقال آدم : يا موسى ، أنت الذي اصطفاك الله بكلامه ، وخط لك التوراة بيده ، الحديث .

وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال : " لما خلق الله الخلق " - وفي رواية : " لما خلق الله آدم " - كتب بيده على نفسه : أن رحمتي تغلب غضبي " .

وفي حديث النزول من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه : فيبسط يده فيقول : ألا عبد يسألني فأعطيه - الحديث ، وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن أحدكم ليتصدق بالتمرة من طيب - ولا يقبل الله إلا طيبا - فيجعلها الله في يده اليمين ثم يربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تصير مثل أحد . وفي رواية فيجعلها الله في كفه فيربيها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله حتى تعود في يده مثل الجبل ، ومعنى تعود هنا تصير .

وفي رواية من حديث أبي هريرة مرفوعا " من تصدق بصدقة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا طيبا ، ولا يصعد إلى السماء إلا طيب - فتقع في كف الرحمن ، وفي لفظ - إلا هو يضعها في يد الرحمن أو في كف الرحمن - وفي رواية ، وإن كانت مثل تمرة ، فتربوا له في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل ، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله " . وفي لفظ " وإن الرجل ليتصدق باللقمة فتربوا في يد الله أو قال في كف الله حتى تكون مثل الجبل .

وفي حديث أبي هريرة أيضا - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لما خلق الله آدم ، ونفخ فيه الروح عطس ، فقال : الحمد لله ، فحمد الله بإذن الله ، فقال له ربه : رحمك ربك يا آدم - الحديث ، وفيه " فقال الله له - ويداه مقبوضتان - : اختر أيهما شئت ، قال اخترت يمين ربي ، وكلتا يدي ربي يمين مباركة - الحديث

وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء بالليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه ، وعرشه على الماء وبيمينه الأخرى القبض يرفع ويخفض ، وفي حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : قال " إن الله يبسط [ ص: 230 ] يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده - يعني بالنهار - ليتوب مسيء الليل ، حتى تطلع الشمس من مغربها "

وفي القرآن العظيم ( وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ) الآية ، وفي الصحيحين ( من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : يقبض الله تبارك وتعالى يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا المالك ، أين ملوك الأرض ، وفي الصحيحين ) أيضا ، واللفظ لمسلم عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يطوي الله السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ، ثم يقول أنا المالك ، أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ . وفي لفظ في الصحيح عن عبيد الله بن مقسم أنه نظر إلى عبد الله بن عمر كيف يحكي النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يأخذ الله سماواته وأرضه بيده ، ويقول أنا المالك - ويقبض أصابعه ويبسطها - أنا المالك ، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى إني أقول أساقط هو برسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وفي لفظ قال رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر وهو يقول : يأخذ الجبار سماواته وأرضه - وقبض بيده ، وجعل يقبضها ويبسطها - ويقول أنا الرحمن ، أنا الملك ، أنا السلام ، أنا المؤمن ، أنا المهيمن ، أنا العزيز ، أنا الجبار ، أنا المتكبر ، أنا الذي بدأت الدنيا ولم تك شيئا ، أنا الذي أعيدها ، أين الملوك ؟ أين الجبابرة ؟ - وفي لفظ أين الجبارون ؟ ، أين المتكبرون ؟ - ويتميل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على يمينه وعلى شماله ، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه ، حتى أني لأقول : أساقط هو برسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

والحديث مروي في الصحيح والمسانيد وغيرها بألفاظ يصدق بعضها بعضا . وفي بعض ألفاظه قال : قرأ على المنبر ( وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة ) الآية قال : مطوية في كفه يرمي بها كما يرمي الغلام بالكرة ، وفي لفظ : يأخذ الجبار سماواته وأرضه بيده فيجعلها في كفه ثم يقول بهما هكذا [ ص: 231 ] كما يقول الصبيان بالكرة : أنا الله الواحد .

وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يقبض عليهما فما يرى طرفاهما بيده ، وفي لفظ عنه : ما السماوات السبع ، والأرضون السبع ، وما فيهن ، وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم .

قال شيخ الإسلام في كتاب العرش : وهذه الآثار معروفة . وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل من اليهود فقال : يا محمد ، إن الله يجعل السماوات على أصبع والأرضين على أصبع ، والجبال والشجر على أصبع ، والماء والثرى على أصبع ، وسائر الخلق على أصبع ، فيهزهن فيقول أنا الملك ، أنا الملك . قال : فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ، ثم قال ( وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة ) الآية .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - روح الله روحه - : ففي هذه الآية ، والأحاديث الصحيحة المفسرة لها المستفيضة التي اتفق أهل العلم على صحتها وتلقيها بالقبول ما يبين أن السماوات والأرض وما بينهما بالنسبة إلى عظمة الله عز وجل أصغر من أن تكون مع قبضته لها إلا كالشيء الصغير في يد أحدنا حتى يدحوها كما يدحى بالكرة .

إذا استحضرت ما ذكرناه وفهمت معنى ما تلوناه ، فاعلم أن مذهب السلف الصالح ، وعلماء الحنابلة ، ومن وافقهم من أهل الأثر أن المراد باليدين إثبات صفتين ذاتيتين تسميان يدين تزيدان على النعمة والقدرة ، محتجين بما مر من الآيات القرآنية والأخبار النبوية ، فإن الله تعالى أثبت لآدم عليه السلام من المزية والاختصاص ما لم يثبت مثله لإبليس بقوله ( لما خلقت بيدي ) ، وإلا فكان إبليس يقول : وأنا خلقتني بيدك ، فلا مزية لآدم ولا تشريف .

فإن قيل : إنما أضيف ذلك إلى آدم ليوجب له تشريفا وتعظيما على إبليس ، ومجرد النسبة في ذلك كاف في التشريف كناقة الله ، وبيت الله ، فهذا كاف في التشريف ، وإن كانت النوق والبيوت كلها لله . فالجواب : التشريف بالنسبة إذا تجردت عن إضافة إلى صفة اقتضى مجرد التشريف ، فأما النسبة إذا اقترنت بذكر صفة أوجب ذلك إثبات الصفة التي لولاها ما تمت النسبة ، فإن قولنا : خلق الله الخلق بقدرته ، لما نسب الفعل إلى تعلقه بصفة الله اقتضى [ ص: 232 ] ذلك إثبات الصفة ، وكذا : أحاط بالخلق بعلمه يقتضي إحاطته بصفة هي العلم ، فكذلك هنا لما كان ذكر التخصيص مضافا إلى صفة وجب إثبات تلك الصفة على وجه يليق بجلال الله وعظمته لا بمعنى العضو والجارحة ، والجسمية والبعضية والكمية ، تعالى الله عن ذلك .

قال الإمام الحافظ البغوي في قوله تعالى ( بيدي ) في تحقيق الله تعالى التثنية في اليد دليل على أنهما ليست بمعنى القدرة والقوة والنعمة ، وإنهما صفتان من صفات ذاته .

وقال البيهقي في كتاب ( ( الأسماء والصفات ) ) : باب ما جاء في إثبات اليدين صفتين لا من حيث الجارحة - فذكر الآيات ثم قال الحافظ البيهقي : قال بعض أهل النظر : قد تكون اليد بمعنى القوة كقوله ( داود ذا الأيد ) أي ذا القوة ، وبمعنى الملك والقدرة والنعمة وتكون صلة أي زائدة . ثم أبطل البيهقي ذلك كله ، وأثبت أن اليدين صفتان تعلقتا بخلق آدم تشريفا له دون خلق إبليس تعلق القدرة بالمقدور ، لا من طريق المباشر ، ولا من حيث المماسة ، وليس لذلك التخصيص وجه غير ما بينه الله تعالى في قوله ( لما خلقت بيدي ) انتهى .

وقال أبو الحسن الأشعري : اليد صفة ورد بها الشرع والذي يلوح من معنى هذه الصفة أنها قريبة من معنى القدرة ، إلا أنها أخص منها ، والقدرة أعم كالمحبة مع الإرادة والمشيئة ، فإن في اليد تشريفا لازما .

وذهبت المعتزلة وطائفة من الأشعرية إلى أن المراد باليدين معنى النعمتين ، وطائفة من الأشعرية أيضا أن المراد باليدين القدرة لأن اليد يعبر بها في اللغة عن القدرة كقول الشاعر :

فقمت ومالي في الأمور يدان

وقالوا في قوله تعالى : ( بل يداه مبسوطتان ) إنما ثنى اليد مبالغة في الرد على اليهود ، ونفي البخل عنه ، وإثباتا لغاية الجود ، قالوا : فإن غاية ما يبذل السخي من ماله أن يعطيه بيديه ، وتنبيها على منح الدنيا والآخرة ، قالوا : أو المراد بالتثنية باعتبار نعمة الدنيا ونعمة الآخرة ، أو باعتبار قوة الثواب وقوة العقاب ، ولا يخفى ما في هذا من الإعراض والانصراف والعدول عن الحق والإنصاف ، بل الصواب إثبات ما أثبته الله لنفسه ، ووصفه به نبيه حسبما ورد ، من غير إلحاد ولا رد ، فهو إثبات وجود بلا تكييف كما مر .

[ ص: 233 ] قال الحافظ البيهقي : المتقدمون من هذه الأمة لم يفسروا ما ورد من الآي والأخبار في هذا الباب مع اعتقادهم بأجمعهم بأن الله واحد ، لا يجوز عليه التبعيض ، قال : وذهب بعض أهل النظر إلى أن اليمين يراد به اليد ، واليد لله صفة بلا جارحة ، فكل موضع ذكرت فيه من الكتاب أو السنة فالمراد بذكرها تعلقها بالمكان المذكور معها من الطي والأخذ والقبض والبسط والقبول والإنفاق ، وغير ذلك تعلق الصفة الذاتية بمقتضاها من غير مباشرة ولا مماسة ، وليس في ذلك تشبيه بحال ، وهذا مذهب السلف والحنابلة ومن وافقهم .

قال الخطابي : وليس معنى اليد عندي الجارحة ، وإنما هي صفة جاء بها التوقيف فنحن نطلقها على ما جاءت ، ولا نكيفها ، وننتهي إلى حيث انتهى بها الكتاب والأخبار الصحيحة ، وهو مذهب أهل السنة والجماعة ، انتهى .

وقال أهل التأويل ما في تفسير البيضاوي وغيره في الآية هو تنبيه على عظمته ، وكمال قدرته على الأفعال العظام التي تتحير فيها الأفهام ، ودلت على أن تخريب العالم أهون شيء عليه على طريقة التمثيل والتخييل ، من غير اعتبار القبضة واليمين لا حقيقة ولا مجازا .

وقال بعضهم : هو لبيان تصوير عظمة الله وجلاله وقدرته ، وإن الملكوتات كلها منقادة لإرادته ومسخرات بأمره .

وذهب بعضهم إلى أن القبض قد يكون بمعنى الملك والقدرة كقولهم : ما فلان إلا في قبضتي أي قدرتي ، ويقولون : الأشياء في قبضة الله أي في ملكه وقدرته ، قالوا : وعلى هذا التأويل تخرج الآية والأحاديث ، كحديث مسلم وغيره " إن المقسطين عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " ورواه النسائي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - .

قال النووي : هو من أحاديث الصفات ، إما نؤمن بها ولا نتكلم بتأويل ، ونعتقد أن ظاهرها غير مراد ، وأن لها معنى يليق بالله ، أو تؤول على أن المراد بكونهم على اليمين على الحالة الحسنة والمنزلة الرفيعة ، وقوله " وكلتا يديه يمين " فيه تنبيه على أنه ليس المراد باليمين الجارحة وأن يديه تعالى بصفة الكمال لا نقص في واحدة منهما لأن الشمال تنقص على اليمين ، وقال بعضهم وقد تكون اليمين [ ص: 234 ] بمعنى التبجيل والتعظيم ، يقال فلان عندنا باليمين ، أي بالمحل الجليل ، ومنه قول الشاعر :

أقول لناقتي إذا بلغتني     لقد أصبحت عندي باليمين

أي بالمحل الرفيع ، وأحسن منه قول بعضهم :

ألم أك في يمنى يديك جعلتني     فلا تجعلني بعدها في شمالكا

.

قال العلامة الشيخ مرعي في كتابه - القول البديع في علم البديع - : أراد أن يقول ألم أكن قريبا منك فلا تجعلني بعيدا عنك ، فعدل عنه إلى لفظ التمثيل لما فيه من زيادة المعنى ، لما تعطيه لفظتا اليمين والشمال من الأوصاف لأن اليمين أشد قوة ، فهي معدة للطعام والشراب والأخذ والإعطاء وكل ما شرف ، والشمال بالعكس واليمين مشتق من اليمن وهو البركة والشمال من الشؤم ، فكأنه قال : ألم أكن مكرما عندك فلا تجعلني مهانا ، وقد كنت منك بالمكان الشريف فلا تجعلني في الوضيع .

وفي بعض ألفاظ الحديث ذكر الشمال لله تعالى ، قال الحافظ البيهقي : وقد ورد ذكر الشمال لله تعالى من طريقين ، في أحدهما جعفر بن الزبير ، وفي الآخر يزيد الرقاشي ، وهما متروكان ، قال وكيف يصح ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه سمى كلتا يديه يمينا ( ؟ ) ، وكأنه من قال ذلك أرسله من لفظه على ما وقع له ، أو على عادة العرب من ذكر الشمال في مقابلة اليمين .

وقال الخطابي : ليس فيما يضاف إلى الله سبحانه من صفة اليدين شمال ، لأن الشمال محل النقص والضعف ، وقال الإمام الحافظ أبو بكر محمد بن خزيمة في كتابه " السنة " : مذهبنا مذهب أهل الآثار ، ومتبعي السنن ، ولا نلتفت إلى جهل من يسميهم مشبهة ، إذ الجهمية المعطلة جاهلون بالتشبيه ، فنحن نقول : لله جل وعلا يدان كما أعلمنا الخالق الباري في محكم تنزيله ، وعلى لسان نبيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، ونقول كلتا يدي ربنا عز وجل يمين على ما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ونقول إن الله عز وجل يقبض الأرض جميعا بإحدى يديه ويطوي السماء بيده الأخرى وكلتا يديه يمينان لا شمال فيهما .

ثم قال : كيف يكون مشبها من يثبت لله تعالى أصابع على ما بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 235 ] للخالق الباري ؟ ونقول إن الله جلا وعلا ، يضع السماء على أصبع ، والأرضين على أصبع - إلى تمام الحديث ، ثم قال : فكيف يكون مشبها من يثبت لربه عز وجل يدين على ما أثبته الله لنفسه ، وأثبته له نبيه - صلى الله عليه وسلم - فكيف يكون مشبها يدي ربه بيدي بني آدم ؟ نقول لله يدان مبسوطتان ينفق كيف يشاء بهما ، خلق آدم - عليه السلام - وكتب التوراة بيده ، ويداه قديمتان لم تزالا باقيتين ، وأيدي المخلوقين مخلوقة ، محدثة غير قديمة ، فانية غير باقية ، بالية تصير ميتة ثم رميما ثم ينشئه الله خلقا آخر ، تبارك الله أحسن الخالقين .

ثم قال : أي تشبيه يلزم أصحابنا أيها العقلاء إذا أثبتوا للخالق ما يثبته لنفسه ، وما يثبته له نبيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ؟ ! ثم قال : وقول هؤلاء المعطلة يوجب أن كل من يقرأ كتاب الله ، ويؤمن به إقرارا باللسان ، وتصديقا بالقلب ، فهو مشبه لأن ما وصف الله تعالى به نفسه في محكم تنزيله تزعم هذه الفرقة أن من وصفه به فهو مشبه ، ثم سبهم ولعنهم ووصفهم بالكفر والتعطيل ، وأطال من التبكيت والتنكيت على من أول النصوص ، وصرفها عن حقيقتها ، وبالله التوفيق .

وفي صحيح مسلم وغيره من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن ، كقلب واحد يصرفه كيف يشاء " ثم قال عليه الصلاة والسلام " اللهم مصرف القلوب ، صرف قلوبنا إلى طاعتك " .

روي هذا الحديث من عدة طرق عن عدد من الصحابة - رضي الله عنهم - منهم النواس بن سمعان الكلابي ، قال - رضي الله عنه - : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ما من قلب إلا هو بين أصبعين من أصابع الله تعالى ، إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه "

وكان يقول : " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " ، رواه الإمام أحمد ، والحاكم في صحيحه . ومنهم أم المؤمنين أم سلمة - رضي الله عنها - قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر في دعائه " اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " ، قالت ، فقلت : يا رسول الله ، وإن القلوب لتتقلب ؟ ! قال " نعم ، وما من خلق من بني آدم إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله ، فإن شاء أقامه ، وإن شاء أزاغه " فنسأل الله تعالى أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذا هدانا ، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة [ ص: 236 ] إنه هو الوهاب ، ومنهم أبو ذر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الله ، فإذا شاء صرفه ، وإذا شاء بصره ، وإذا شاء نكسه ، ولم يعط الله أحدا من الناس شيئا هو خير من أن يسلك في قلبه اليقين ، وعند الله مفاتح القلوب فإذا أراد الله بعبد خيرا ، فتح له قفل قلبه ، واليقين والصدق وجعل قلبه وعاء واعيا لما سلك فيه ، وجعل قلبه سليما ، ولسانه صادقا ، وخليقته مستقيمة ، وجعل أذنه سميعة وعينه بصيرة ، ولم يؤت أحد من الناس شيئا - يعني هو شر - من أن يسلك الله في قلبه الريبة ، وجعل نفسه شرة شرهة متعطلة لا ينفعه المال وإن أكثر له ، وغلق الله القفل على قلبه ، فجعله ضيقا حرجا كأنما يصعد إلى السماء " كما روي ، ذكره الإمام الحافظ أبو بكر بن خزيمة في كتابه السنة .

وأما قول الخطابي : ذكر الأصابع لم يوجد في شيء من الكتاب والسنة المقطوع بصحتها ، فهو عجيب منه ، بل هو ثابت في صحيح السنة المقطوع بصحتها ، وقال النووي في شرح صحيح مسلم : هذا من الأحاديث المتشابهات : وفيها القولان : الإيمان بها من غير تعرض لتأويل ولا لمعرفة بل نؤمن بها ، وأن ظاهرها غير مراد لقوله تعالى ليس كمثله شيء ، ثانيهما : يتأول بحسب ما يليق ، قال فعلى هذا فالمراد المجاز كما يقال : فلان في قبضتي ، وفي كفي . لا يراد أنه حال في كفه بل المراد تحت قدرتي .

ويقال : فلان في خنصري ، وبين أصبعي أقلبه كيف شئت يعني أنه هين علي قهره ، والتصرف فيه كيف شئت فمعنى الحديث أنه سبحانه وتعالى يتصرف في قلوب عباده وغيرها كيف شاء لا يمتنع عليه منها شيء ، ولا يفوته ما أراده كما لا يمتنع على الإنسان ما كان بين أصبعيه .

( قال ) : خاطب العرب بما يفهمونه ، ومثله بالمعاني الحسية تأكيدا له في نفوسهم ، وأجابوا عن تثنية الأصابع مع كون القدرة واحدة بأن ذلك مجاز واستعارة واقعة موقع التمثيل بحسب ما اعتادوه غير مقصود به التثنية والجمع .

وفي - نهاية ابن الأثير - إطلاق الأصابع عليه تعالى مجاز كإطلاق اليد واليمين والعين ، وهو جار مجرى التمثيل والكناية عن سرعة تقلب القلب ، وأن ذلك أمر معقود بمشيئة الله تعالى . قال : وتخصيص ذكر الأصابع كناية عن إجراء القدرة والبطش لأن ذلك باليد والأصابع .

وقال القرطبي : [ ص: 237 ] وغيره : الأصبع قد تكون بمعنى القدرة على الشيء ، وسهولة تقلبه ، كما يقول من استسهل شيئا واستخفه مخاطبا لمن استثقله أنا أحمله على أصبعي ، وأرفعه بأصبعي ، وأمسكه بخنصري ، فهذا مما يراد به الاستظهار في القدرة على الشيء ، فلما كانت السماوات والأرض أعظم الموجودات ، وكان إمساكها بالنسبة إلى الله كالشيء الحقير الذي نجعله بين أصابعنا ، ونهزه بأيدينا ، ونتصرف فيه كيف شئنا ، دل ذلك على قوته القاهرة ، وعظمته الباهرة ، لا إله إلا هو سبحانه .

قال بعض المحققين : هذا الحديث من جملة ما تنزه السلف عن تأويله كأحاديث السمع والبصر واليد ، فإن ذلك يحمل على ظاهره ، ويجري بلفظه الذي جاء به من غير أن يشبه بمشبهات الحسن ، أو يحمل على معنى المجاز في الاتساع ، بل يعتقد أنها صفات لله تعالى لا كيفية لها ، قال : وإنما تنزهوا عن تأويل هذا القسم لأنه لا يلتئم معه ، ولا يحمل ذلك على وجه يرتضيه العقل إلا ويمنع منه الكتاب والسنة من وجه آخر .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - روح الله روحه - في رسالته التدمرية : إذا قال قائل ظاهر النصوص مراد أو ليس بمراد ؟ فإنه يقال له : لفظ الظاهر فيه إجمال واشتراك ، فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين أو ما هو من خصائصهم فلا ريب أن هذا غير مراد ، ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرا ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفرا وباطلا ، والله أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر وإضلال - إلى أن قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن " فقالوا قد علم أن ليس في قلوبنا أصابع الحق ، فيقال لهم : لو أعطيتم النصوص حقها من الدلالة لعلمتم أنها لم تدل إلا على حق

أما الواحد فقوله - صلى الله عليه وسلم - " الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله تعالى وقبل يمينه " صريح أن الحجر ليس هو صفة الله ، ولا هو نفس يمينه ؛ فإنه قال : فكأنما صافح الله ، وقبل يمينه ، فالمشبه ليس هو المشبه به ، إلى أن قال قوله - صلى الله عليه وسلم - " قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن " فإنه ليس في ظاهره أن القلب متصل بالأصبع ولا مماس لها ولا أنها في [ ص: 238 ] جوفه ولا في قول القائل هذا بين يدي ما يقتضي مباشرته ليديه

وإذا قيل السحاب المسخر بين السماء والأرض ، لم يقتض أن يكون مماسا للسماء والأرض ، ونظائر هذا كثيرة ، فمذهب السلف في هذا ونظائره من الأخبار المتشابهة الواردة في صفات الله عز وجل ما بلغنا ، وما لم يبلغنا مما صح عنه - صلى الله عليه وسلم - اعتقادنا فيه ، وفي الآي المتشابهة في القرآن أن نقبلها ولا نردها ، ولا نتأولها بتأويل المخالفين ، ولا نحملها على تشبيه المشبهين ، ولا نزيد عليها ، ولا ننقص منها ( ولا نفسرها ) ولا نكيفها ، فنطلق ما أطلقه الله ، ونفسر ما فسره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، والتابعون ، والأئمة المرضيون من السلف المعروفين بالدين والأمانة - رضوان الله عليهم أجمعين - فهذا مذهب سلف الأمة ، وسائر الأئمة ، والعدول عنه وصمة ، والالتفات إلى سواه نقمة ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية