( ( الباب الثالث
في الأحكام والكلام على الإيمان ومتعلقات ذلك ) )
اعلم - وفقني الله وإياك وسائر المسلمين لمرضاته - أن طرق الناس قد اختلفت في علة التكليف وحكمته ، مع كون الله - سبحانه وتعالى - لا ينتفع بطاعة ، ولا تضره معصية ، فسلكت الجبرية ومن وافقهم مسلكهم المعروف ، وأن ذلك صادر عن محض المشيئة وصرف الإرادة ، وأنه لا علة ولا حكمة له ولا ما يحث عليه سوى محض الإرادة ، وسلكت القدرية مسلكها المعروف ، وهو أن ذلك استئجار منه لعبيده لينالوا أجرهم بالعمل ، فيكون الذنب اقتضاءهم الثواب بلا عمل لما فيه من تكدير المنة ، والمسلكان فاسدان كما ترى ، وتقدم ذلك ، وحسبك ما يدل عليه العقل الصريح والنقل الصحيح من بطلان هذين المذهبين وفسادهما ، وليس عند الناس غير هذين المسلكين إلا مسلك من هو خارج عن الديانات ، واتباع الرسل ممن يرى أن الشرائع وضعت نواميس تقوم عليها مصلحة الناس ومعايشهم ، وأن فائدتها تكميل قوة النفس العملية وارتياضها ; لتخرج عن شبه الأنعام فتصير مستعدة لأن تكون محلا لقبول الفلسفة العليا والحكمة .
وهذا مسلك خارج عن مناهج الأنبياء وأممهم . وأما أتباع الرسل الذين هم أهل البصائر ، فحكمة الله - عز وجل - في تكليفهم ما كلفهم به أعظم وأجل عندهم مما يخطر بالبال ، أو أعرب به المقال ، فيشهدون [ ص: 353 ] له - سبحانه - في ذلك من الحكم الباهرة ، والأسرار العظيمة ، أكثر مما يشهدونه في مخلوقاته وما تضمنته من الأسرار ، والحكم ، ويعلمون مع ذلك أنه لا نسبة لما أطلعهم - سبحانه - عليه من ذلك إلى ما طوى علمه عنهم واستأثر به دونهم ، وأن حكمته في أمره ونهيه ; لأنه - جل وعلا - أهل أن يعبد ، وإلى هذا المقام أشار بقوله :