أكثر شرك الأمم في الإلهية ، لا بجحود الصانع
والمقصود أن ، ولم يذكر جحود الصانع إلا عن أكثر شرك الأمم التي بعث الله إليها رسله وأنزل كتبه غالبهم إنما أشرك في الإلهية الدهرية والثنوية ، وأما غيرهم ممن جحدها عنادا كفرعون ونمرود وأضرابهم ، فهو مقرون بالربوبية باطنا كما قدمنا ، وقال الله عز وجل عنهم : ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما ) ( النمل : 14 ) وبقية المشركين يقرون بالربوبية باطنا وظاهرا ، كما صرح بذلك القرآن فيما قدمنا من الآيات وغيرها ، مع أن الشرك في الربوبية لازم لهم من [ ص: 475 ] جهة إشراكهم في الإلهية وكذا في الأسماء والصفات ، إذ أنواع التوحيد متلازمة لا ينفك نوع منها عن الآخر ، وهكذا أضدادها ، فمن ضاد نوعا من أنواع التوحيد بشيء من الشرك فقد أشرك في الباقي ، مثال ذلك في هذا الزمن : عباد القبور إذا قال أحدهم : يا شيخ فلان - لذلك المقبور - أغثني ، أو افعل لي كذا ونحو ذلك ، يناديه من مسافة بعيدة وهو مع ذلك تحت التراب وقد صار ترابا . فدعاؤه إياه عبادة صرفها له من دون الله ; لأن الدعاء مخ العبادة ، فهذا شرك في الإلهية ، وسؤاله إياه تلك الحاجة من جلب خير أو دفع ضر أو رد غائب أو شفاء مريض أو نحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله معتقدا أنه قادر على ذلك ، هذا شرك في الربوبية ، حيث اعتقد أنه متصرف مع الله تعالى في ملكوته . ثم إنه لم يدعه هذا الدعاء إلا مع اعتقاده أنه يسمعه على البعد والقرب في أي وقت كان وفي أي مكان ، ويصرحون بذلك وهذا شرك في الأسماء والصفات ، حيث أثبت له سمعا محيطا بجميع المسموعات لا يحجبه قرب ولا بعد ، فاستلزم هذا الشرك في الإلهية الشرك في الربوبية والأسماء والصفات .