الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      معلومات الكتاب

      معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

      الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

      صفحة جزء
      [ ص: 998 ] مرتبة الإحسان .


      وثالث مرتبة الإحسان وتلك أعلاها لدى الرحمن     وهي رسوخ القلب في العرفان
      حتى يكون الغيب كالعيان

      .

      هذه المرتبة هي الثالثة من مراتب الدين المفصلة في حديث جبريل المتقدم ، وهي أعلى مراتب الدين وأعظمها خطرا ، وأهلها هم المستكملون لها السابقون بالخيرات المقربون في علو الدرجات .

      وقد قدمنا أن الإسلام هو الأركان الظاهرة عند التفصيل واقترانه بالإيمان ، والإيمان إذ ذاك هو الأركان الباطنة ، والإحسان هو تحسين الظاهر والباطن ، وأما عند الإطلاق ، فكل منها يشمل دين الله كله ، وقد جاء الإحسان في القرآن في مواضع كثيرة ، تارة مقترنا بالإيمان ، وتارة بالتقوى ، وتارة بهما معا ، وتارة بالجهاد ، وتارة بالإسلام ، وتارة بالعمل الصالح مطلقا . قال الله - تبارك وتعالى : ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين ) ، ( المائدة 93 ) ، وقال تعالى : ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) ، ( النحل 128 ) ، وقال تعالى : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ) ، ( الكهف 30 ) ، وقال تعالى : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ) ، ( العنكبوت 69 ) ، وقال تعالى : ( بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ، ( البقرة 112 ) ، وقال تعالى : ( ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى ) ، ( لقمان 22 ) ، وتارة بالإنفاق في سبيل الله ، وهو من الجهاد ، كقوله تعالى : [ ص: 999 ] ( وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) ، ( البقرة 195 ) ، وقد فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - تفسيرا لا يستطيعه من المخلوقين أحد غيره - صلى الله عليه وسلم - لما أعطاه الله تعالى من جوامع الكلم ، فقال - صلى الله عليه وسلم : الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) . أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن مرتبة الإحسان على درجتين ، وأن للمحسنين في الإحسان مقامين متفاوتين :

      المقام الأول : وهو أعلاهما ، أن تعبد الله كأنك تراه ، وهذا مقام المشاهدة ، وهو أن يعمل العبد على مقتضى مشاهدته الله - عز وجل - بقلبه ، وهو أن يتنور القلب بالإيمان ، وتنفذ البصيرة في العرفان حتى يصير الغيب كالعيان ، فمن عبد الله - عز وجل - على استحضار قربه منه ، وإقباله عليه ، وأنه بين يديه كأنه يراه ، أوجب له ذلك الخشية والخوف والهيبة والتعظيم ، وفي حديث حارثة المرسل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : يا حارثة ، كيف أصبحت ؟ قال : أصبحت مؤمنا حقا . قال : انظر ما تقول ، فإن لكل قول حقيقة . قال : يا رسول الله ، عزفت نفسي عن الدنيا ، فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري ، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا ، وكأني أنظر أهل الجنة في الجنة يتزاورون فيها ، وكأني أنظر إلى أهل النار في النار كيف يتعاوون فيها . قال : أبصرت فالزم . عبد نور الله تعالى بصيرته .

      المقام الثاني : مقام الإخلاص ، وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله إياه ، وإطلاعه عليه وقربه منه ، فإذا استحضر العبد هذا في عمله وعمل عليه ، فهو مخلص لله تعالى لأن استحضاره ذلك في عمله ، يمنعه من الالتفات إلى غير [ ص: 1000 ] الله وإرادته بالعمل ، وهذا المقام هو الوسيلة الموصلة إلى المقام الأول ، ولهذا أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - تعليلا للأول ، فقال : فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك . وفي بعض ألفاظ الحديث : فإنك إلا تكن تراه فإنه يراك . فإذا تحقق في عبادته بأن الله تعالى يراه ويطلع على سره وعلانيته ، وباطنه وظاهره ، ولا يخفى عليه شيء من أمره ، فحينئذ يسهل عليه الانتقال إلى المقام الثاني ، وهو دوام التحقيق بالبصيرة إلى قرب الله تعالى من عبده ، ومعيته حتى كأنه يراه . وقد ذكر الله - تبارك وتعالى - هذا المعنى في غير ما موضع من القرآن ، كما قال - تبارك وتعالى : ( وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم ) ، ( يونس 61 - 64 ) ، وقال - تبارك وتعالى : ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ) ، ( البقرة 186 ) ، وقال - تبارك وتعالى : ( وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم ) ، ( الشعراء 217 ) وغير ذلك من الآيات .

      فأولياء الله المتقون المحسنون ، هم الذين آمنوا بالله - عز وجل - وبإلهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته ، وأفردوه بالعبادة محبة وتذللا وانقيادا وخوفا ورجاء ورغبة ورهبة وخشية وخشوعا ومهابة وتعظيما وتوكلا عليه وافتقارا إليه واستغناء به عما سواه ، واتقوه بامتثال أوامره ومحبة مرضاته ، وترك مناهيه وموجبات سخطه سرا وعلنا ، وظاهرا وباطنا قولا وعملا واعتقادا ، واستشعرت قلوبهم ونفوسهم إحاطة الله - عز وجل - بهم علما وقدرة ، ولطفا وخبرة بأقوالهم ونياتهم ، وأسرارهم وعلانياتهم ، وحركاتهم وسكناتهم ، وجميع أحوالهم كيف عملوا وأين عملوا ، ومتى عملوا ، فكان عملهم خالصا لله ، موافقا لشرعه مناطا بما جاءت به رسله ونطقت به كتبه ، مستحضرين ذلك بقلوبهم ، نافذة فيه بصائرهم ، فأخلصوا لله العمل وراقبوه مراقبة [ ص: 1001 ] من ينظر إلى ربه ; لكمال علمهم بأن الله ينظر إليهم ويرى حالهم ويسمع مقالهم ، فطرحوا النفوس بين يديه وأقبلوا بكليتهم عليه ، والتجئوا منه إليه وعاذوا به منه ، وأحبوه من كل قلوبهم ، فامتلأت بنور معرفته ، فلم تتسع لغيره ، فبه يبصرون وبه يسمعون ، وبه يبطشون وبه يمشون ، وبرؤيتهم يذكر الله تعالى وبذكره يذكرون .

      وقال البخاري - رحمه الله تعالى : حدثنا عمر بن حفص ، حدثنا أبي ، حدثنا الأعمش : سمعت أبا صالح ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - يقول : قال النبي - صلى الله عليه وسلم : يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ، ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ، ذكرته في ملأ خير منهم ، وإن تقرب إلي شبرا ، تقربت إليه ذراعا ، وإن تقرب إلي ذراعا ، تقربت إليه باعا ، وإن أتاني يمشي ، أتيته هرولة .

      وقال - رحمه الله تعالى : حدثني محمد بن عثمان بن كرامة ، حدثنا خالد بن مخلد ، حدثنا سليمان بن بلال حدثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن عطاء عن أبي هريرة قال : قال : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله تعالى قال : من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته " .

      ذكروا الله تعالى فذكرهم ، وشكروه فشكرهم ، وتولوه ووالوا فيه فتولاهم ، وعادوا أعداءه لأجله ، فآذن بالحرب من عاداهم ، وأحسنوا عبادة ربهم ، فأحسن جزاءهم وأجزله ، عبدوه على قدر معرفتهم به ، فجازاهم بفضله وزادهم [ ص: 1002 ] ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، ( يوسف 26 ) ، ( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ) ، ( الرحمن 60 ) ، ولما ذكر أهل الجنة وما وعدهم به من النعم ، وصفهم أن ذلك جزاء إحسانهم ، فقال : ( إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين ) ، ( الذاريات 16 ) ، ثم فسر إحسانهم ( كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ) ، ( الذاريات 17 - 19 ) وقدمنا في الفصل الأول أن الحسنى التي وعد الله - عز وجل - المحسنين هي الجنة ، والزيادة هي النظر إلى وجه الله - عز وجل - كما رواه مسلم ، عن صهيب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم .

      فلما كانوا يعبدون الله - عز وجل - في الدنيا على وجه الحضور والمراقبة ، كأنهم يرونه بقلوبهم ، وينظرون إليه في حال عبادتهم إياه ، كان جزاؤهم على ذلك النظر إلى وجهه - تبارك وتعالى - في الآخرة عيانا بأبصارهم ، وعكس هذا ما أخبر به عن المكذبين الذين ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ، فقال تعالى فيهم : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) ، ( المطففين 15 ) ، لما كان حالهم في الدنيا التكذيب ، وأعقبهم ذلك التكذيب تراكم الران على قلوبهم ، حتى حجبت عن معرفته ومراقبته في الدنيا ، فكان جزاؤهم على ذلك أن حجبوا عن رؤيته في الآخرة ، وذلك قول الله - عز وجل : ( ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) ، ( النجم 31 ) ، ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) ، ( البقرة 201 ) .

      هذا آخر ما يسر الله تعالى من الكلام على مفردات حديث جبريل ، وقد قال ابن رجب - رحمه الله تعالى - في شرح الأربعين بعد كلامه على مراتب الدين في هذا الحديث ، قال : فمن تأمل ما أشرنا إليه مما دل عليه هذا الحديث العظيم ، علم أن جميع العلوم والمعارف ، يرجع إلى هذا الحديث ويدخل تحته ، وأن جميع العلماء من فرق هذه الأمة لا تخرج علومهم التي يتكلمون فيها عن هذا الحديث ، وما دل عليه مجملا ومفصلا ، فإن الفقهاء إنما يتكلمون في العبادات [ ص: 1003 ] التي هي من جملة خصال الإسلام ، ويضيفون إلى ذلك الكلام في أحكام الأموال والأبضاع والدماء ، وكل ذلك من علم الإسلام كما سبق التنبيه عليه ، ويبقى كثير من علم الإسلام من الآداب والأخلاق وغير ذلك ، لا يتكلم عليه إلا القليل منهم ، ولا يتكلمون على معنى الشهادتين ، وهما أصل الإسلام كله .

      والذين يتكلمون على أصول الديانات ، يتكلمون على الشهادتين وعلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره ، والذين يتكلمون على علم المعارف ومقامات العباد ، يتكلمون على مقام الإحسان وعلى الأعمال الباطنة التي تدخل في الإيمان أيضا ، كالخشية والمحبة والتوكل والرضا والصبر ونحو ذلك ، فانحصرت العلوم الشرعية التي يتكلم عليها فرق المسلمين في هذا الحديث ، ورجعت كلها إليه ، ففي هذا الحديث وحده كفاية ، ولله الحمد والمنة . انتهى كلامه - رحمه الله تعالى .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية