الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      معلومات الكتاب

      معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

      الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

      صفحة جزء
      [ التوبة في حق كل فرد إذا استكملت شروطها مقبولة ما لم يغرغر ] .


      وتقبل التوبة قبل الغرغره كما أتى في الشرعة المطهره

      .

      هذه هي المسألة السادسة ، وهي أن التوبة إذا استكملت شروطها ، مقبولة من كل ذنب كفرا كان أو دونه ، وقد دعا الله - تبارك وتعالى - إليها جميع عباده ، فدعا إليها من قال المسيح هو الله ، ومن قال هو ثالث ثلاثة ، ومن قال يد الله مغلولة ، ومن قال إن الله فقير ونحن أغنياء ، ومن دعا لله الصاحبة والولد ، فقال لهم جميعا : ( أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ) ، ( المائدة 74 ) .

      ودعا إليها من هو أعظم محادة لله من هؤلاء ، وهو من قال أنا ربكم الأعلى ، ما [ ص: 1041 ] علمت لكم من إله غيري ، فقال الله - تبارك وتعالى - لرسوله موسى : ( اذهب إلى فرعون إنه طغى فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى ) ، ( النازعات 17 - 19 ) ، وقال له في الآية الأخرى : ( أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون ألا يتقون ) ، ( الشعراء 11 ) ، وفي الآية الأخرى : ( اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ) ، ( طه 43 ) .

      ودعا إلى التوبة من عمل أكبر الكبائر ، وهي الشرك ، وقتل النفس بدون حق والزنا ، فقال تعالى : ( ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما ) ، ( الفرقان 68 - 70 ) .

      ودعا إليها من كتم ما أنزل الله من البينات والهدى ، فقال تعالى : ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم ) ، ( البقرة 159 - 160 ) .

      ودعا إليها المشركين قاطبة ، فقال بعد الأمر بقتلهم حيث وجدوا ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم ) ، ( التوبة 5 ) .

      ودعا إليها المنافقين قاطبة ، فقال تعالى : ( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين ) ، ( النساء 146 ) .

      ودعا إليها جميع المسرفين بأي ذنب كان ، فقال تعالى : ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له ) ، ( الزمر 53 - 54 ) الآيات ، وغيرها ما لا يحصى ، بل لم يرسل الله تعالى الرسل وينزل الكتب إلا دعوة منه لعباده إلى التوبة ; ليتوب عليهم ، إنه هو التواب الرحيم .

      [ ص: 1042 ] وفي الصحيح من حديث أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم ، كان على راحلته بأرض فلاة ، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه ، فأيس منها ، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها ، قد أيس من راحلته ، فبينا هو كذلك ، إذ هو بها قائمة عنده ، فأخذ بخطامها ، ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح .

      وفيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يحكي عن ربه - عز وجل - قال : أذنب عبدي ذنبا ، فقال : اللهم اغفر لي ذنبي ، فقال - تبارك وتعالى : أذنب عبدي ذنبا ، فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ، ثم عاد فأذنب ، فقال : أي ربي ، اغفر لي ذنبي ، فقال - تبارك وتعالى : أذنب عبدي ذنبا ، فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ، اعمل ما شئت فقد غفرت لك .

      وفيه عن أبي موسى ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله - عز وجل - يبسط يده بالليل ; ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ; ليتوب مسيء الليل ، حتى تطلع الشمس من مغربها .

      وفيه عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : كان فيمن كان قبلكم رجل ، قتل تسعة وتسعين نفسا ، فسأل عن أعلم أهل الأرض ، فدل على راهب ، فأتاه فقال : إنه قتل تسعة وتسعين نفسا ، فهل له من توبة ؟ فقال : لا . فقتله ، فكمل به مائة ، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض ، فدل على رجل عالم فقال : إنه قتل مائة نفس ، فهل له من توبة ؟ فقال : نعم ، ومن يحول بينه وبين التوبة ؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا ، فإن بها أناسا يعبدون الله تعالى ، فاعبد الله معهم ، ولا ترجع إلى أرضك ; فإنها أرض سوء ، فانطلق حتى إذا نصف الطريق [ ص: 1043 ] أتاه الموت ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله ، وقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيرا قط . فأتاهم ملك في صورة آدمي ، فجعلوه بينهم ، فقال : قيسوا ما بين الأرضين ، فإلى أيتهما كان أدنى ، فهو له . فقاسوه ، فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد ، فقبضته ملائكة الرحمة .

      قال قتادة : فقال الحسن : ذكر لنا أنه لما أتاه الموت ، ناء بصدره . وفي رواية : فلما كان في بعض الطريق ، أدركه الموت فناء بصدره ، ثم مات ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فكان إلى القرية الصالحة أقرب منها شبرا ، فجعل من أهلها .

      وفيه من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما : أن أناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا ، وزنوا وأكثروا ، فأتوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن ، لو تخبرنا هل لما عملنا كفارة ؟ فنزل : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ) ، ( الفرقان 68 ) ، ونزل : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ) ، ( الزمر 53 ) .

      وقال محمد بن إسحاق : قال نافع ، عن عبد الله بن عمر ، عن عمر - رضي الله عنهما - في حديثه قال : وكنا نقول : ما الله بقابل ممن افتتن صرفا ولا عدلا ولا توبة ، عرفوا الله ، ثم رجعوا إلى الكفر ; لبلاء أصابهم . قال : وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم . قال : فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، أنزل الله تعالى فيهم ، وفي قولنا وقولهم لأنفسهم : ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون ) ، ( الزمر 53 - 55 ) [ ص: 1044 ] قال عمر - رضي الله عنه : فكتبتها بيدي في صحيفة ، وبعثت بها إلى هشام بن العاص - رضي الله عنه . قال : فقال هشام : لما أتتني جعلت أقرأها بذي طوى ، أصعد بها فيه وأصوب ولا أفهمها ، حتى قلت : اللهم أفهمنيها . قال : فألقى الله - عز وجل - في قلبي أنها إنما أنزلت فينا ، وفيما كنا نقول في أنفسنا ويقال فينا ، فرجعت إلى بعيري ، فجلست عليه ، فلحقت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة .

      شروط التوبة النصوح .

      والأحاديث في شأن التوبة والحث عليها وفي تكفيرها للذنوب كثيرة جدا ، لها مصنفات مستقلة ، وحيث ذكرت من الآيات والأحاديث ، فإنما المراد بها التوبة النصوح ، وهي التي اجتمع فيها ثلاثة شروط :

      ( الأول ) : الإقلاع عن الذنب .

      ( الثاني ) : الندم على فعله .

      ( الثالث ) : العزم على أن لا يعود فيه .

      فإن كان في ذلك الذنب حق لآدمي ، لزم استحلاله منه إن أمكن ، للحديث الذي قدمنا : من كان عنده لأخيه مظلمة ، فليتحلل منه اليوم ، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم " الحديث في الصحيح . وهذه الشروط في كيفية التوبة .

      وأما الشرط في زمانها فهو ما أشرنا إليه في المتن بقولنا : " قبل الغرغرة " وهي حشرجة الروح في الصدر ، والمراد بذلك الاحتضار عندما يرى الملائكة ، ويبدأ بها السياق ، قال الله - تبارك وتعالى - : [ ص: 1045 ] ( إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما ) ، ( النساء 17 - 18 ) .

      وعن أبي العالية أنه كان يحدث أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقولون : كل ذنب أصابه عبد ، فهو جهالة . رواه ابن جرير .

      وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : اجتمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأوا أن كل شيء ، عصي الله به ، فهو جهالة ، عمدا كان أو غيره . وقال مجاهد : كل عامل بمعصية الله ، فهو جاهل حين عملها .

      وقال ابن عباس - رضي الله عنهما : من جهالته عمل السوء . وعنه - رضي الله عنه - قال : ( ثم يتوبون من قريب ) قال : بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت . وقال الضحاك : ما كان دون الموت فهو قريب .

      وقال قتادة والسدي : ما دام في صحته . وهو مروي عن ابن عباس .

      وقال الحسن البصري : ثم يتوبون من قريب ما لم يغرغر . وقال عكرمة : الدنيا كلها قريب ، وروى الإمام أحمد وغيره ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر .

      [ ص: 1046 ] وله عن عبد الرحمن البيلماني قال : اجتمع أربعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أحدهم : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن الله تعالى يقبل توبة العبد قبل أن يموت بيوم . فقال الآخر : أنت سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . قال : وأنا سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بنصف يوم . فقال الثالث : أنت سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . قال : وأنا سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضحوة . وقال الرابع : أنت سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . قال : وأنا سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر بنفسه .

      وروى ابن مردويه ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إن الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر .

      وهذا توقيت زمان التوبة في حق كل فرد من العباد ، وأما في حق عمر الدنيا ، فقد تقدم في الآيات والأحاديث أنها تنقطع بطلوع الشمس من مغربها ; لأنها أول آيات القيامة العظام وحين الإياس من الدنيا ، كما أن رؤية ملك الموت آية الانتقال من الدنيا ، وحين الإياس من الحياة ، وكذلك الأمم المخسوف بها انقطعت التوبة عنهم برؤيتهم العذاب ، قال الله - تبارك وتعالى : [ ص: 1047 ] ( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون ) ، ( غافر 82 - 85 ) .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية