الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      معلومات الكتاب

      معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

      الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

      صفحة جزء
      [ ص: 1084 ] الإذن بالقتال .


      وبعدها كلف بالقتال لشيعة الكفران والضلال     حتى أتوا للدين منقادينا
      ودخلوا في السلم مذعنينا

      .

      ( وبعدها ) أي بعد الهجرة ( كلف ) أي أمر ( بالقتال ) في سبيل الله - عز وجل - ( لشيعة ) أعوان ( الكفر ) بالله وما أرسل الله به رسله ونزل به كتبه ( والضلال ) عن صراطه المستقيم . وكان الجهاد بمكة بإقامة الحجة والبيان بما يتلوه عليهم من القرآن من حين أنزل عليه - صلى الله عليه وسلم - ( يا أيها المدثر قم فأنذر ) ، ( المدثر 1 ) الآيات ، وهي أول ما نزل بعد فترة الوحي ، وبينها وبين نزول الآيات من صدر سورة العلق ثلاث سنين ، فيما ذكر ابن إسحاق - رحمه الله - وذلك مدة الفترة ، وسمى الله تعالى تلاوة القرآن على المشركين جهادا لهم ، فقال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ( ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا ) ، ( الفرقان 51 - 52 ) .

      وأما الجهاد المحسوس بالسيف ، فلم يكن بمكة مأمورا إلا بالعفو أو الإعراض عن الجاهلين ، والصبر على أذاهم واحتمال ما يلقى منهم كقوله تعالى ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) ، ( الأعراف 199 ) الآيات ، وقوله ( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ) ، ( الحجر 94 ) الآيات وغيرها .

      ولهذا قال أئمة التفسير : إن آيات الإعراض عن المشركين نسختها آيات السيف ، فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، وصارت لهم دار منعة ، وإخوان صدق ، وأنصار حق ، أذن الله تعالى لهم في الجهاد ، فقال - عز وجل : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ) ، ( الحج 39 - 41 ) [ ص: 1085 ] ، وقال تعالى : ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ) ، ( البقرة 190 - 193 ) الآيات ، وقال تعالى : ( فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض ) الآيات .

      وقال تعالى : ( قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير ) ، ( الأنفال 38 - 40 ) ، وقال تعالى : ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين ) ، ( التوبة 111 - 112 ) ، وقال تعالى : ( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ) ، ( الصف 4 ) إلى أن قال - عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله ) ، ( الصف 10 - 14 ) [ ص: 1086 ] الآية .

      وقال النبي - صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله . . . الحديث ، وقال - صلى الله عليه وسلم : بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبدوا الله وحده لا شريك له بأن يقولوا لا إله إلا الله ،أو كما قال ، وقال - صلى الله عليه وسلم : اغزوا باسم الله في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله . . . الحديث .

      والآيات والأحاديث في الجهاد أكثر من أن تحصى ، وقد أفردت لها مصنفات مستقلات ، والجهاد ذروة سنام الإسلام ، ولا يقوم إلا به ، كما أن بيان شرائعه لا تقوم إلا بالكتاب ، ولهذا قرن الله تعالى بينهما فقال : ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ) ، ( الحديد 25 ) ، فالكتاب لبيان الحق والهداية إليه ، والحديد لحمل الناس على الحق وأطرهم عليه .

      والمقصود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أذن الله له بالقتال وأمره به ، شمر عن ساعد الاجتهاد في شأنه ، وكان بينه وبين المشركين ما كان من الوقائع المشهورة والغزوات المذكورة ، كبدر وأحد والخندق والفتح ، وغيرها فوق عشرين غزوة وفوق أربعين سرية ، ونصره الله بالرعب في قلوب أعدائه مسافة شهر ، حتى فتح [ ص: 1087 ] الله به وبكتابه وأنصاره البلاد والقلوب وعمرها ، ففتح البلاد بالسيف والقلوب بالإيمان ، وعمر البلاد بالعدل والقلوب بالعلم ، فلله الحمد والمنة .

      وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه : بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بأربعة أسياف : سيف للمشركين ( واقتلوهم حيث ثقفتموهم ) ، ( البقرة 191 ) ، وسيف للمنافقين ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ) ، ( التوبة 73 ) ، وسيف لأهل الكتاب ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) ، ( التوبة 29 ) ، وسيف للبغاة ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ) ، ( الحجرات 9 ) .

      وقد بذل المهاجرون والأنصار مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، كما وصفهم الله - تبارك وتعالى : ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ) ، ( الحجرات 15 ) .

      وبذل المشركون جهدهم ومجهودهم في عداوته وقتاله وألبوا وتحزبوا ، كما قال الله تعالى : ( إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون ) ، ( الأنفال 36 ) ، الآيات .

      وقال تعالى : ( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) ، ( الصف 8 ) ، فقد فعل - تبارك وتعالى - ( حتى أتوا للدين ) دين الإسلام ( منقادينا ) - الألف للإطلاق - طوعا وكرها ، ( ودخلوا في السلم ) أي الإسلام ( مذعنينا ) مستسلمين .

      وكان معظم ظهوره بعد الفتح ; لأن الناس كانوا ينتظرون بإسلامهم قريشا ; لأنهم في الجاهلية هم سادة العرب وقادتها ، وكذلك هم في الإسلام ، فلما أسلموا [ ص: 1088 ] بادر كل قوم بإسلامهم ، وتواترت الوفود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كل فج عميق ، وانتشر الإسلام وجرت أحكامه ، وانتشرت أعلامه في كل جزيرة العرب ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - حي .

      وأنزل الله - عز وجل - عليه : ( إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ) ، ( النصر 1 - 3 ) ، ولهذا علم هو أصحابه أن ذلك أجله ، أعلمه الله به ، كما قال البخاري - رحمه الله تعالى : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، فكأن بعضهم وجد في نفسه ، فقال : لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله ؟ فقال عمر : إنه من حيث علمتم ، فدعاه ذات يوم فأدخله معهم ، فما رويت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم ، قال : ما تقولون في قول الله تعالى : ( إذا جاء نصر الله والفتح ) ، ( النصر 1 ) ؟ فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا . وسكت بعضهم ، فلم يقل شيئا ، فقال لي : أكذاك تقول يا ابن عباس ؟ فقلت : لا . قال : فما تقول ؟ هو أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه ، قال : ( إذا جاء نصر الله والفتح ) ، ( النصر 1 ) ، وذلك علامة أجلك ( فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ) ، ( النصر 3 ) . فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تقول .

      وفرض الله عليه بعد الهجرة جميع الفرائض التي لم تفرض من قبل ، فالجهاد في السنة الأولى ، وأتمت صلاة السفر في الأولى ، وشرع الأذان والصيام وزكاة الفطر وزكاة النصب وتحويل القبلة إلى الكعبة كلها في الثانية ، وشرع التيمم سنة ست ، وصلاة الخوف سنة سبع ، والحج في السادسة ، وقيل في التاسعة وقيل في العاشرة ، وفيها حج - صلى الله عليه وسلم - وأنزل الله - عز وجل - عليه وهو واقف بعرفة يوم الجمعة ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) ، ( المائدة 3 ) ، كما قدمنا ، الحديث في الصحيحين .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية