الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      معلومات الكتاب

      معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

      الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

      صفحة جزء
      [ ص: 1094 ] تبليغه - صلوات الله عليه - رسالة الله .


      نشهد بالحق بلا ارتياب بأنه المرسل بالكتاب     وأنه بلغ ما قد أرسلا
      به وكل ما إليه أنزلا

      .

      ( نشهد بالحق ) بيقين وصدق ( بلا ارتياب ) بدون شك ( بأنه المرسل بالكتاب ) بالقرآن إلى كافة الناس من الجن والإنس بشيرا ونذيرا . قال الله - تبارك وتعالى - ممتنا على عباده المؤمنين ببعثة رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) ، ( آل عمران 164 ) ، وقال تعالى : ( يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) ، ( الجمعة 2 - 4 ) ، وقال - تبارك وتعالى : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ) ، ( التوبة 128 ) ، يمتن - تبارك وتعالى - بأجل نعمه على عباده وأعظمها وأعلاها وأتمها وأكملها إرساله فيهم محمدا - صلى الله عليه وسلم - رسولا من عند الله - تبارك وتعالى - العلي العظيم ، الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، بكلامه الذي هو صفته ، وهو كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ; ليهديهم به من الضلالة ، ويبصرهم به من العمى ، وينقذهم به من دركات الردى ، ويخرجهم به من الظلمات إلى النور بإذنه ( كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ) ، ( إبراهيم 1 ) [ ص: 1095 ] ، يالها نعمة ما أعظمها وأجلها ، ومنة ما أكملها وأجزلها ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ) ، ( آل عمران 164 ) ، أكمل تلك النعمة وأتمها وزادها إجلالا بكون ذلك الرسول من أنفسهم ، يعرفون شخصه ونسبه ورحمه ، ما من أهل بيت من العرب إلا وله - صلى الله عليه وسلم - فيهم نسب ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) ، ( الشورى 23 ) ، ثم جعل الرسالة بلسانهم الذي به يتحاورون ، ومن جنس كلامهم الذي فيه يتفاخرون ، معجزا بالفصاحة التي في ميدانها يتسابقون بأوضح المباني وأفصحها ، وأكمل المعاني وأصحها ، مع اتساق سياقه وسلاسة ألفاظه ، وانتساق تراكيبه وملاحة مفرداته .

      ثم مع هذا التالي له من أنفسهم رسول من عند ربهم ، ثم هو - صلى الله عليه وسلم - مؤد لتلك الأمانة مبلغ كلام ربه ، كما قال رب العزة ، لم يقله النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمعنى فقط ، بل كما قال : - عز وجل : ( يتلو عليهم آياته ) ، الضمير لله - عز وجل - ليسمعوا لذيذ خطابه ، ويتأملوا لطيف عتابه ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب ) ، ( ص 29 ) ، ( ويزكيهم ) يطهرهم ظاهرا وباطنا حسا ومعنى لمن التزمه واتبعه ، أما قلوبهم فيزكيها بالإيمان من دنس ورجس الشرك ورجزه ، كما قال تعالى : ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور ) ، ( الحج 30 ) ، و ( والرجز فاهجر ) ، ( المدثر 5 ) ، وكذا يطهرهم بمحاسن الأخلاق الظاهرة والباطنة من مساوئها ، وكذا يطهرهم من جميع الذنوب بالتوبة النصوح ، وكذا يطهر ظواهرهم بما أمرهم به وأرشدهم إليه من الطهارات الحسية من الأحداث والأنجاس على اختلاف أضرابها ، ( ويعلمهم الكتاب ) القرآن المجيد ، ( والحكمة ) السنة النبوية التي هي تبيان القرآن وتفسيره وتوضيحه ، وتدل كما قال تعالى - له - صلى الله عليه وسلم : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) ، ( النحل 44 ) ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم : أوتيت القرآن مثله - يعني : السنة .

      ( وإن كانوا من قبل ) إرساله إليهم ، وبعثه فيهم ( لفي ضلال مبين ) من الشرك وعبادة الأصنام وغير ذلك من السبل المضلة عن الصراط المستقيم ، [ ص: 1096 ] الموجبة لدخول جهنم ، والخلود في عذابها الأليم المقيم ، أجارنا الله منها ، وذلك تأويل دعوة أبينا إبراهيم - عليه السلام - إذ يقول فيما أخبر الله عنه : ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ) ، ( البقرة 129 ) ، فاستجاب الله له تلك الدعوة المباركة ، كما قضى الله - عز وجل - ذلك في الأزل ، وسبق علمه وسطره في كتابه ، وأخذ على رسله الميثاق في الإيمان به والقيام بنصره ، كما قال - تبارك وتعالى : ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ) ، ( آل عمران 81 - 82 ) .

      وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما روى الترمذي : كنت نبيا وآدم منجدل في طينته . وفي رواية أخرى : وآدم بين الروح والجسد - يعني : وجبت له في الكتاب ، ولأن السائل قال له : متى وجبت لك النبوة ؟ هذا معنى الحديث ، وقال - صلى الله عليه وسلم : أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورؤيا أمي . أو كما قال ، فأما دعوة إبراهيم فما في الآية السابقة ، وأما بشرى عيسى فقول الله - عز [ ص: 1097 ] وجل : ( وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ) ، ( الصف 6 ) الآية .

      وأما رؤيا أمه ، فإنها رأت كأنه خرج منها نور أضاء له قصور بصرى من أرض الشام ، الحديث . وقد شهد الله - تبارك وتعالى - له بالرسالة كما شهد لنفسه بالإلهية ، فقال تعالى : ( والله يعلم إنك لرسوله ) ، ( المنافقون 63 ) ، وقال تعالى : ( لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا ) ، ( النساء 166 ) ، وقال تعالى : إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ( البقرة 119 ) ، الآيات .

      وقال تعالى : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ( الأحزاب 45 ) الآيات . وقال تعالى : وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ( النساء 79 ) ، وغير ذلك من الآيات .

      وقال - تبارك وتعالى - في عموم رسالته إلى الأحمر والأسود والجن والإنس : وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ( سبأ 28 ) ، قال تعالى : ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون ( الأعراف 156 - 158 ) ، ومعنى كونه أميا : لا يقرأ ولا يكتب ، وكذلك أمته أمية لا يقرءون ولا يكتبون ، قال الله - تبارك وتعالى : [ ص: 1098 ] وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين ( القصص 86 ) ، وقال تعالى : وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ( العنكبوت 48 ) ، الآيات .

      وقال تعالى : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله ( الشورى 52 ) ، وقال تعالى : تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ( هود 49 ) ، وغير ذلك من الآيات .

      وقال تعالى أيضا في ذكر عموم رسالته إلى أهل الشرائع من قبله : يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ( المائدة 14 - 16 ) الآيات ، يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ( آل عمران 64 ) ، وقال تعالى : ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ( البقرة 101 ) ، وقال : ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ( البقرة 89 ) ، وغير ذلك من الآيات .

      وفي صحيح مسلم ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ما من الأنبياء من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة .

      وفيه [ ص: 1099 ] عنه - رضي الله عنه ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : والذي نفس محمد بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به ، إلا كان من أصحاب النار .

      وفي حديث الخصائص : وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس عامة . وهو في الصحيحين . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : لو كان موسى حيا واتبعتموه وتركتموني ، لضللتم . وقال - صلى الله عليه وسلم : لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي .

      وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن عيسى ينزل حكما بشريعة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم ، يقيم كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، فلا ناسخ ولا مغير لشريعته ، ولا يسع أحدا الخروج عنها ، ولله الحمد والمنة .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية