ثم السكوت واجب عما جرى بينهم من فعل ما قد قدرا فكلهم مجتهد مثاب
وخطؤهم يغفره الوهاب
أجمع أهل السنة والجماعة الذين هم أهل الحل والعقد الذين يعتد بإجماعهم على وجوب السكوت عن قتل عثمان - رضي الله عنه - والاسترجاع على تلك المصائب التي أصيبت بها هذه الأمة ، والاستغفار للقتلى من الطرفين ، والترحم عليهم ، وحفظ فضائل الصحابة ، والاعتراف لهم بسوابقهم ، ونشر مناقبهم عملا بقول الله - عز وجل : الخوض في الفتن التي جرت بين الصحابة - رضي الله عنهم - بعد والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ( الحشر 10 ) الآية ، واعتقاد أن الكل منهم مجتهد ، إن أصاب فله أجران : أجر على اجتهاده ، وأجر على إصابته ، وإن أخطأ فله أجر الاجتهاد ، والخطأ مغفور ، ولا نقول إنهم معصومون بل مجتهدون ، إما مصيبون ، وإما مخطئون لم يتعمدوا الخطأ في ذلك .
وما روي من الأحاديث في مساويهم الكثير منه مكذوب ، ومنه ما قد زيد فيه أو نقص منه ، وغير عن وجهه ، والصحيح منه هم فيه معذورون . قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في معتقد أهل السنة : وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره ، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة ، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر ، حتى إنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم .
وقد ثبت بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم خير القرون ، وأن المد من أحدهم إذا تصدق به ، كان أفضل من جبل أحد ذهبا من بعدهم ، ثم إذا كان قد صدر عن أحد منهم ذنب ، فيكون قد تاب منه أو أتى بحسنة تمحوه أو غفر له بفضل سابقته ، [ ص: 1209 ] أو بشفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي هم أحق الناس بشفاعته ، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه ، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة ، فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين ، إن أصابوا فلهم أجران ، وإن أخطئوا فلهم أجر واحد ، والخطأ مغفور ، ثم القدر الذي ينكر من فعل بعضهم نزر مغفور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله ، والجهاد في سبيله ، والهجرة والنصرة ، والعلم النافع ، والعمل الصالح ، ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة وما من الله عليهم به من الفضائل ، علم يقينا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء ، لا كان ولا يكون مثلهم ، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم ، وأكرمهم على الله - عز وجل .
وقال في ذكر الصحابة - رضي الله عنه - وفضائلهم : وأما الحروب التي جرت ، فكانت لكل طائفة شبهة اعتقدت تصويب نفسها بسببها ، وكلهم عدول - رضي الله عنهم - ومتأولون في حروبهم وغيرها ، ولم يخرج شيء من ذلك أحدا منهم عن العدالة ; لأنهم مجتهدون اختلفوا في مسائل من محل الإجتهاد ، كما يختلف المجتهدون بعدهم في مسائل من الدماء وغيرها ، ولا يلزم من ذلك نقص أحد منهم . القاضي عياض
واعلم أن أن القضايا كانت مشتبهة ، فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم ، وصاروا ثلاثة أقسام : سبب تلك الحروب
قسم ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في هذا الطرف ، وأن مخالفه باغ ، فوجب عليهم نصرته وقتال الباغي عليه فيما اعتقدوه ، ففعلوا ذلك ، ولم يكن يحل لمن هذه صفته التأخر عن مساعدة إمام العدل في قتال البغاة في اعتقاده ، وقسم عكس هؤلاء ، ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في الطرف الآخر ، فوجب عليهم مساعدته وقتال الباغي عليه ، وقسم ثالث اشتبهت عليهم القضية وتحيروا فيها ، ولم يظهر لهم ترجيح أحد الطرفين ، فاعتزلوا الفريقين ، فكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم ; لأنه لا يحل الإقدام على قتال مسلم حتى يظهر أنه مستحق لذلك ، ولو ظهر لهؤلاء رجحان أحد الطرفين ، وأن الحق معه ، لما جاز لهم التأخر عن نصرته في قتال [ ص: 1210 ] البغاة عليه ، فكلهم معذورون ، رضي الله عنهم .
ولهذا اتفق أهل الحق ، ومن يعتد به في الإجماع على قبول شهادتهم ورواياتهم ، وكمال عدالتهم - رضي الله عنهم - أجمعين ، وكلام الأئمة في هذا الباب يطول ، وما أحسن ما قال إمام أهل السنة - رحمه الله تعالى - وقد سئل عن الفتن أيام الصحابة ، فقال تاليا قول الله - عز وجل : أحمد بن حنبل تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ( البقرة ) .