من أيـن نبدأ؟
كثيرا ما تطرح الأمم النامية، وأمتنا الإسلامية تمثل مركز الثقل فيها، على نفسها سؤالا، عن كيف تبدأ مشوارها الحضاري وهي تعيش محنتها مع حضارة العصر الباهرة والمسيطرة؟ ومن أين؟! وفي طرح الصيغ العملية للإجابة على سؤال البداية الحضارية، تظهر الاختلافات والاجتهادات، وتزداد السبل تفرقا وتيها بالدول النامية، في محاولاتها النهوض بمجتمعاتها، بازدياد شتات فكر أبنائها، وقلة مواردها، وما تعانيه من عدم استقرار، وما ترزأ به من [ ص: 56 ] ضغوط خارجية، وأولويات داخلية.
كل ذلك يتم ومسيرة الزمن ممتدة، لا تعرف الانقطاع، فالزمن تيار متدفق، تتداخل فيه الأحداث، عبر تتابع متناغم، وتشابك مستمر، فاليوم هـو امتداد للأمس، وغدا هـو محصلة لما نقرره وننجزه اليوم.
وكما أن للتاريخ علم له مؤلفاته وبحوثه، فقد أصبح للمستقبل علم ( المستقبليات (FUTURLOGT ) ) له علماؤه ورواده، الذين يسعون إلى استشراف آفاقه، والبحث في كنهه المجهول، من خلال مبادئ، وأسس علمية، تحكم عملية التوقع للمستقبل؛ إذ لم تعد الدراسات المستقبلية ترفا عقليا، يتلهى به بعض المثقفين، فرارا من الواقع ومشكلاته المعقدة، بحثا عن عالم أفضل، بل إن لها فائدة عملية مباشرة، من حيث التمكن من معرفة النتائج البعيدة المدى، لما يجري في بلادنا الآن، وما نتخذه من قرارات، وما نمارسه من تغيير في العادات، وما ننشئه أو ندعمه من علاقات
[1] ، وبمعنى آخر: قرارات الحاضر بما لها وما عليها ترسم آفاق المستقبل بما له وما عليه.
وعالم الغد مليء بالمفاجآت التي تستدعي الدراسة والنظر بتمعن، فالأمر يستلزم أن يمتد بصرنا ليحدد واقعنا الحضاري قياسا بالواقع المعاصر للعالم المتقدم، في مجالات النهضة الحديثة، وصولا إلى تحديد معالم الطريق إلى المستقبل.
ونقطة الانطلاق لا بد أن ترتكز على دراسة تحليلية، تبين جوهر المشكلة الحضارية، وتحديد مكاننا الصحيح من حضارة العصر الباسقة، قبل أن نضع الحلول، فقد مضى وقت ثمين على أمتنا، كان يمكن أن تستغله في المواجهة الصادقة لقضايا التخلف، لو أن المهتمين بأمر نهضتنا في مواقعهم المتعددة والمتباينة، أحسنوا التشخيص في البداية، ولكن اليقظة الفجائية، والرغبة [ ص: 57 ] في التغيير بحركة سريعة قوية، لا تعطيان عادة فرصة للتأمل والتدبر. وهذا ما حدث في شتى بقاع عالمنا العربي والإسلامي، عندما أخذت الدول بصور متفاوتة تعد للنهوض والتطور.
ولأن اليقظة كانت فجائية، والرغبة في التغيير بحركة سريعة كانت قوية، وجدنا أنفسنا ـ نحن المسلمين ـ ونحن في طريقنا إلى النهضة نتبع سبيل (الشيء ) حينما نرى أوروبا تخرج علينا بزينتها المادية البهيجة، فيقع في نفوسنا شيء مما وقع في نفوس بعض بني إسرائيل حينما خرج عليهم قارون بزينته، فقالوا ( يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم ) وهكذا عمدنا إلى تلك الحلة نفصل مثلها، ونحاول أن نقلد بجهالة عثرة المقص في يد الخياط الأوروبي، مع أن الطريق إلى الحضارة هـو وقبل كل شيء طريق الفكر الذي يحدد الوسائل ونتائجها في مدة معلومة، بحيث يرى السائر ما سوف تنتهي إليه الطريق، قبل أن يخطو فيها خطوة واحدة.
[2] فعن طريق التقليد، والمحاكاة، والمباهاة، تكدست بيوت القادرين منا بأحدث ثمار " التقنية " ، فكرست ظاهرة الركون والإخلاد المتصل لعالم الحاجات، وتعودت نفوسنا على اللهث خلف الأشياء، نقتنيها، ونتباهى بها، وما عادت النفوس قادرة على السيطرة على رغباتها؟ وكبح جماح أهوائها، دون أن نسأل أنفسنا: إلى أين نحن ذاهبون؟ وما هـي نهاية عالم الأشياء؟ وما هـي نتيجة هـذا كله؟
وكما هـو الحال دائما في " ديناميكية " التغيير الاجتماعي، تبدو ظاهرة الإخلاد المستمر، والركود الدائم، لعالم الحاجات والخدمات، مرض سريع الانتشار، لا نتجاوز القصد إذا ما أسميناه بالطاعون الاجتماعي.
فمجرد اقتناء فرد لشيء جديد، وبإعلان هـذا في مجتمع الشخص القريب ـ نتيجة مرض اجتماعي آخر اسمه التباهي ـ تبدأ عملية الاقتناء للشيء نفسه [ ص: 58 ] تنتشر نتيجة مرض آخر اسمه التقليد. والإنسان يبحث عن حضارة تقنية ثابتة، راسخة، ومتطورة، يريد أن يقيمها بما صنعت يداه لا بد أن يلتفت التفاتا عظيما لهذه المشكلات الأخلاقية؛ لأنها في الحقيقة جزء أساسي من مشكلات النهوض الحضاري، فالإنسان في غياب ضميره الأخلاقي، ينحط لعالم غريزي، جبل على التكاثر، يستكثر من الأشياء، حتى إذا ملها بحث عن شيء جديد.. ولن يوقف حركة نفسه الهابطة في عالم الأشياء، إلا الانتقال إلى عالم الخلود [3] .
وإذا كان ثمة فائدة من اليقظة الفجائية، والرغبة العارمة في التغيير، فإنها بدون ريب وضعتنا في مواجهة مباشرة مع مأزق التخلف، بعد أن زالت عنا الغشاوة، وها نحن نحاول أن نلملم الشتات، لنكشف أن من أهم العمد الرئيسة للحضارة الغربية المهيمنة، هـي التقنية، فكان أن أخذنا منتوجات الحضارة وانبهرنا بثمراتها، وسعينا إلى اقتناء حاجاتها في شكل سلع وأدوات.
ولما تراكمت لدينا المنتجات الحضارية، وتكدست، ظننا أنها الطريق إلى النهضة والتحضر، وإذ بنا نفاجأ مرة أخرى أنها ليست هـي، وأن الفجوة التي تفصلنا عن الغرب المتطور تتسع، والمشكلة تزداد تعقيدا، إذن فمن أين نبدأ؟ وكيف؟