الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

دراسة في البناء الحضاري (محنة المسلم مع حضارة عصره)

الدكتور / محمود محمد سفر

الشرط الثاني: تحقيق الذاتية في التطور ومن خلاله

يتفق علماء التنمية ومختصوها على أن مسيرة التنمية في أي مجتمع لا تكون راسخة الأركان، عميقة الجذور، وفائضة المردود، ما لم تكن نابعة من ذاتية ذلك المجتمع، متطابقة مع تصوراته، متمشية مع احتياجاته، لأن تبني أفكار تنموية غريبة عن مجتمع ما، وصبها في القوالب الاجتماعية لذلك المجتمع لا يأتي بخير، ولا يفضي بالنتائج المرجوة.

كما أصبح من المؤكد، أن التنمية لا تخدم مجتمعها إلا إذا تمت داخل إطاره الاجتماعي المحدد، الذي يعكس قيمه، وأخلاقياته، ومبادئه، وعاداته، وتقاليده، وطرق معيشة أبنائه، وكل ذلك لابد أن يلعب دورا أساسيا في صياغة فكر التنمية، وذهنية مخططيها.

لذا يظل البعد الاجتماعي للتنمية والتطور في المجتمع المسلم مسئولية أبناء ذلك المجتمع من المختصين، لأن ما يترتب على خطط التنمية من تحولات سلوكية متوقعة، وتغيرات اجتماعية منتظرة، ما كان منها على مستوى الفرد، أو الجماعة، أمر هـام يحتاج إلى رصد، وتحليل، ومتابعة، لا يكون قادرا على تحقيقها إلا أبناء المجتمع. وإذا اقتضى تنفيذ بعض المشروعات التنموية استقدام خبراء ومختصين أجانب، فإن الواجب يفرض أن تفرغ المشروعات تلك من محتواها الاجتماعي ليتولى المواطنون المختصون معالجته، لأنهم على فهم تام لصفات ومميزات، وعادات مجتمعهم، بحكم أنهم جزء منه، وبالتالي تأتي استشاراتهم في قضاياه الاجتماعية أبعد عمقا، وأنفع علما، وأكثر إدراكا، ويترك للمختصين من الأجانب التصرف في الجانب التقني البحت بما [ ص: 53 ] تميله طبيعة كل مشروع؛ لأن الخبير القادم من خارج الحدود تكونت معادلته الاجتماعية، وخلفيته البيئية، في مجتمع بيئته مختلفة تماما عن بيئة المجتمع المسلم، برغم كل ما أوتي من عبقرية، وعلم، وقدرات.

لعل من المناسب في هـذا المقام الإشارة إلى تجربة أندونيسيا مع العالم الألماني الاقتصادي " شاخت " والتي كتب عنها " مالك بن نبي " ـ رحمه الله ـ في كتابه " المسلم في عالم الاقتصاد " حيث أكد أن المجتمع الأندونيسي عاش في أواخر الأربعينيات من هـذا القرن متوثبا ومتحمسا للخبرات الأجنبية، كي تعينه للنهوض باقتصاد أندونيسيا، فاستقدمت أندونيسيا عالما يشار له بالبنان في مجال التخطيط الاقتصادي هـو الدكتور " شاخت " ، ووضعت تحت تصرفه كل البرامج، والخطط، والأفكار، ولكنه فشل فشلا ذريعا في مخططه للنهوض باقتصاد أندونيسيا. وفشله لم يكن متوقعا في نظر الأندونيسيين، لأنه التزم في عمله بدقة فنية، وتوافرت له وسائل مادية وبشرية، كانت كفيلة بنجاح مخططه في رقعة من الله عليها بأخصب تربة تنبت من أنواع الخيرات كلها، في مناخ يجعلها تنتج من ثمراتها في ثلاثة مواسم، وأسكن فيها ما يزيد على مائة مليون من العباد، يعجب الإنسان من ذكائهم ومن ذوقهم الجمالي المرهف (على حد تعبير [ابن نبي ] ) . الذي يثير في تحليله للأمر سؤالا هـاما هـو: ما الذي جعل مشروع " شاخت " يتعثر حتى فشل؟ ويجيب بأن الفشل ـ في اعتقاده ـ يرجع إلى أن " شاخت " وضع مخططه لأندونيسيا على هـوى معادلته الشخصية، وبخلفيته الاجتماعية، كفرد من المجتمع الألماني، في حين أن التجربة الأندونيسية ستجري بطبيعة الحال على أساس معادلة الفرد الأندونيسي، فتعثرت التجربة على خطأ مخططها " شاخت " في تقدير المعطيات البشرية في المجال الاقتصادي لأن ذهنه يحمل لهذه المعطيات صورة واحدة تطبق في أي تجربة تجري داخل ألمانيا أو خارجها.

وقد استنتج " ابن نبي " حقيقة مهمة هـي: أن الواقع الإنساني لا يفسر على أساس معادلة واحدة بل حسب معادلتين: [ ص: 54 ]

الأولـى:

معادلة بيولوجية تسوي بين الإنسان وأخيه الإنسان في كل مكان، بحيث يستطيع هـذا كل ما يستطيع الآخر، إلا فيما فضل فيه بعض الأفراد على الآخرين.

والثانيـة:

معادلة اجتماعية، تختلف بين مجتمع وآخر، وفي المجتمع الواحد من عصر إلى آخر، حسب الاختلافات في درجة النمو والتخلف.

وإذا كانت المعادلة الأولى موهوبة من الله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وميزه على المخلوقات بالتكريم فإن المعادلة الثانية هـي هـبة المجتمع إلى الأفراد كافة كقاسم مشترك يطبع سلوكهم، ويحدد درجة فعاليتهم أمام المشكلات بصورة تميزهم عن أفراد مجتمع آخر، وعن جيل آخر من مجتمعهم، إذا كان الفاصل الزمني كافيا لطبع المجتمع بأسلوب آخر يتفق مع معادلته الاجتماعية.

من هـذا نستخلص أهمية الذاتية في التطور والنماء، ودورها في ضمان نجاح المشاريع الاجتماعية التنموية، وحتمية مواءمتها للمعادلة الاجتماعية للفرد والجماعة؛ لتظل مهمة الجزء الاجتماعي في تلك المشاريع منوطة بأبناء المجتمع، وأمانة في أعناقهم يحاولون معها ما وسعهم الجهد وأسعفتهم التجارب والخبرات، تحقيق الذاتية والمحافظة عليها، وإبرازها. [ ص: 55 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية