تقديم
بقلم: عـمر عبيد حسنـة
الحمد لله الذي كرم الإنسان بالعقل، وزكاه بالعبادة، ومنحه القدرة والإرادة، وفرض عليه التفكير، وجعل من خطاب التكليف ضرورة النظر في السماوات والأرض، واكتشاف قوانين التسخير، والسنن التي تحكم الحياة والأحياء، والتعرف على الأسباب لاتباعها، وحسن التعامل معها، وبذلك يكون أهلا للتمكين في الأرض، وأداة أمانة الاستخلاف الإنساني، وفق منهج الله، وحمل رسالة الشهادة والقيادة.
الحمد لله القائل في كتابه، حكاية عن ذي القرنين : ( إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا ) ، والصلاة والسلام على ( خاتم الأنبياء والمرسلين، القائل: لا تزال طائفة من أمتي قائمين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله. ) وبعد:
فهذا كتاب الأمة الحادي والعشرون: (دراسة في البناء الحضاري ـ محنة المسلم مع حضارة عصره) ، للدكتور محمود محمد سفر، في سلسلة الكتب التي يصدرها مركز البحوث والمعلومات، برئاسة المحاكم الشرعية والشئون الدينية، في دولة قطر، مساهمة في تحقيق الوعي الحضاري والتحصين الثقافي، وإعادة بناء الشخصية المسلمة، بعد أن افتقدت الكثير من فعاليتها، ومنهجيتها، وصوابها، وأبعاد تكليفها، ومسئوليتها في الشهادة والقيادة، وانتهت، إلى صورة محزنة من التدين، بعيدا عن التبصر بحركة التاريخ، وإدراك سنة التداول الحضاري. [ ص: 7 ]
ولعلنا لا نتجاوز الحقيقة كثيرا إذا قلنا: إن الأمة المسلمة اليوم، تعيش مرحلة (القصعة) ـ وهي مرحلة الوهن الحضاري بأبعادها كلها ـ التي أخبر عنها ( الصادق المصدوق بقوله: يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها.. قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا، بل أنتم كثير ولكن غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من قلوب أعدائكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت. )
فمؤشرات الوهن الحضاري، ومسبباته، كما أشار إليها الحديث: حب الدنيا الذي يعني: العب من متعها واللهاث وراء زينتها، واستهلاك أشياءها، والتزاحم على الحقوق. ويمكن تلخيص ذلك كله بالانتهاء إلى مرحلة الاستهلاك وظهور الإنسان الاستهلاكي الذي يتجاوز حقه في الأخذ، ولا يحس بواجبه. أما كراهية الموت الذي هـو العنصر الآخر للوهن الحضاري، فيعني: انكماش فكرة الاحتساب، وغياب روح الإيثار والتضحية، وعدم استشعار الواجب، والقعود عن العمل والإنتاج، والاقتصار على الاستهلاك.
فالوهن الحضاري، في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم يتلخص ببروز الإنسان المستهلك الذي لا يهمه إلا حقه، وغياب الإنسان المنتج الذي لا يرى إلا واجبه.
وسوف لا يكون أي نهوض أو بناء، إلا بتصويب تلك المعادلة، والخروج من مرحلة (القصعة ) ، ومعالجة الإصابة بالوهن، وذلك إنما يكون بإعادة صياغة الشخصية المسلمة اليوم، والارتفاع بها إلى سوية الإنسان المنتج، وتغييب صورة الإنسان المستهلك عن ضميرها، ومناخها الثقافي، والتركيز على إنسان الواجبات، لا إنسان الحقوق.. إنسان البقاء والخلود بالعمل والإنتاج، لا إنسان الزوال والاستمتاع والاستهلاك، الذي يدرك مدلول قوله تعالى: ( أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل )
(التوبة:38 ) . [ ص: 8 ] ونرى أنه لا بد لنا بداية من التفريق بين الموت الحضاري، الذي يعني انقراض الأمم وهلاكها، وبين الوهن الحضاري الذي يعني المرض، أو الوباء الاجتماعي الذي يعتري روح الأمة، فيطفئ فعاليتها، ويقعد بها عن بلوغ أهدافها، وحمل رسالتها. فالمؤشرات الواردة في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، تدل على حلول المرض وليس نزول الموت، لذلك تبقى إمكانية النهوض كامنة ومستمرة، لكن لا بد لها من معالجة صحيحة، كما لا بد للأمة ـ في مرحلة الوهن ـ من محرضات، ومنبهات حضارية، تنبعث من داخلها على يد النخبة من أبنائها الشرعيين الذين أخبر الرسول الخاتم عنهم بأنهم الطائفة القائمة على الحق التي لا يضرها من خالفها حتى يأتي أمر الله.
إنها الطائفة المعافاة، التي تشكل خميرة النهوض، ووسيلة التواصل الحضاري، والتي لم تلحقها إصابة الوهن، وليست جزءا من الاستنقاع والركود الذي لحق عموم الأمة، لكنها النخبة التي تستشعر مرحلة القصعة بآكليها، وموكليها، وتفكر في سبل الخروج..
وما أشرنا إليه، من أن الوهن الحضاري، مرض قابل للشفاء، وأنه لا يعني بحال من الأحوال الموت الميئوس، يؤكد استقراء التاريخ، وما فيه من أخبار الأمم السائدة والبائدة، وقراءة الواقع الذي نحن عليه، ذلك أن مواثيق الله تعالى لهذه الأمة، صاحبة الرسالة الخالدة، ومبشرات المعصوم صلى الله عليه وسلم ، يؤكدان أن قابلية النهوض كامنة، ودائمة، ومستمرة، إذا أبصرنا شروطه ومقوماته، وتحققنا بأسباب التمكين في الأرض، وأحسنا التعامل مع السنن الجارية. فغلبة الأعداء موقوتة، وتسلطهم علينا ليس تسلك استئصال، وإنما هـي عقوبات يوقعها الله علينا بسبب معاصينا السياسية، والثقافية، والفكرية والحضارية، ويبقى لهذه العقوبات دور المنبه الحضاري، والتحدي المستفز، ذلك أن الصعوبات هـي في الحقيقة تحد خلاق، لأنه يستحث الأمة ويستفزها للرد عليه.
ولعل في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، الذي يرويه ( ثوبان ) كبير مغزى في هـذا المجال: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها، ومغاربها ) [ ص: 9 ] (انظر ما تمتلك الرسالة الخاتمة من رصيد حضاري وتجربة وعبرة، من لدن آدم عليه السلام إلى الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم ) ( وإن أمتي سيبلغ ملكها مازوي ـ جمع ـ لي منها، وأعطيت الكنزين، الأحمر والأبيض ) ـ معادن الأرض وثرواتها ـ (وهذا يفسر ما يعج به العالم الإسلامي من الثروات والمعادن والخامات) ( وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة ـ قحط شامل ومجاعة مهلكة ـ وألا يسلط عليهم عدوانا من سوى أنفسهم. ـ (قل هـو من عند أنفسكم ) ـ فيستبيح بيضتهم. )
( وإن ربي قال: يا محمد، إني إذا قضيت قضاء، فإنه لا يرد! إني أعطيتك لأمتك، ألا أهلكهم بسنة عامة! وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من أقطارها، أو من بين أقطارها ـ يعني: أهل المعمورة ـ حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا. ) والحديث ظاهر في أن مصائبنا من عند أنفسنا، وأن تسلط العدو علينا ليس تسلط استئصال، وأن أخطر الإصابات الحضارية، هـي التي تلحق بأنفسنا، وأرواحنا، وأخلاقنا، وبنائنا الداخلي. ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإن علاج الوهن الحضاري إنما يبحث عنه في الداخل الإسلامي، ومن المستحيل في ضوء هـدي النبوة، واستقراء التاريخ، وقراءة الواقع، استيراد علاج الوهن من الخارج الإسلامي، فالاستيراد، والاستدعاء الحضري، إنما معالجة للعرض، وليس لسبب المرض، وما نظنه ونتظاهر به من وهم العافية، بسبب الاستيراد، إنما هـو إخفاء وتمهيد للمرض، وليس علاجا له.
ونحب أن نعلن أنه على الرغم من الواقع الذي نعاني منه، والذي أسميناه بالوهن الحضاري، الذي يحكم مرحلة القصعة التي أشرنا إليها، فإننا لسنا مع أصحاب النظرة التشاؤمية والذين وصلوا إلى مرحلة الإعياء.
الذين يرون استحالة اللحاق بقافلة الحضارة، لبعد الشقة وطول المسافة، وعمق الفجوة، فقعدوا عن إعداد العدة ( ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ) [التوبة:46] [ ص: 10 ] كما أننا ـ في الوقت نفسه ـ لسنا مع أصحاب الأماني، وأحلام اليقظة ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ) الذين يقضون حياتهم في غرفة الانتظار، ينتظرون سقوط الحضارة لمصلحتهم من خلال بعض ما يقرءون عن أمراضها دون مكابدة، ومجاهدة، وتهيؤ.
ولا مع أولئك الذين يظنون أن الموضوع كله، يمكن أن يحسم بمجرد رفع درجات التوتر الروحي، والتوثب الإيماني السلبي، بعيدا عن ساحة المجاهدة والابتلاء، ويؤثرون الانسحاب من معركة الحضارة، على الرغم من اعتقادنا أن التوثب الروحي والتوتر الإيماني، هـو الشرط الضروري للتحصين، حتى لا يكون السقوط في زخرف الحضارة وزينتها أثناء المعركة والمواجهة، لكننا نرى أنه لا بد من النزول إلى الساحة والمواجهة، بالصبر والمصابرة والتعرف على الأسباب الموصلة، وتحري الصواب، مع الإخلاص وطلب التوفيق من الله.
ولا مع أولئك الذين يستغنون بالتنظير والفلسفة الباردة، عن الممارسة والتدريب، واكتساب الخبرة الميدانية، وتحديد مواطن القصور، ودراسة أسباب التقصير.
ولا مع الذين، ينظرون إلى التواصل الحضاري الوارد في ( حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تزال طائفة من أمتي قائمين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله ) برؤية نصفية: من أن القيام على الحق مقتصر على الجانب العبادي الروحي السلبي، دون إدراك أن من مقتضى القيام على الحق، إدراك سنن التسخير، ومعرفة الأسباب التي تنظم الحياة، وحسن التعامل معها. بل إننا نرى أن التفكير والملاحظة، والاختيار، والتجريب، واكتشاف قوانين التسخير، ومعرفة التمكين في الأرض، من لوازم العبادة ومقومات العبودية، والارتفاع إلى مستوى الخطاب الإسلامي الذي نلمحه في آيات القرآن الكريم التي تدعو إلى التفكير، وتؤكد على التسخير.
ولا مع الذين يتقنون فن الجلد، والتوهين لهذه الأمة؛ ولا يميزون بين الجلد والنقد البناء، والمناصحة، ويعجزون عن إثارة دوافع الخير، وعوامل النمو فيها، ويعنيهم البحث في أسباب الفرقة أكثر مما يعنيهم التأكيد على عوامل [ ص: 11 ] العاطفي الذي لا يسمن ولا يغني من جوع. فما الفرق بين من يجانب الماضي ومن ينتصر له، إذا كان الاثنان يعيشان خارج الماضي والحاضر والمستقبل؟ ولعل الكثير من معاركنا وصراعاتنا التي نعنون لها بالتراث والمعاصرة ، تدور في الحقيقة خارج الماضي، وخارج الحاضر معا، فلا التراثي استفاد من زاد التراث واستطاع توظيفه بشكل صحيح، ولا المعاصر أدرك مقتضيات العصر وأحسن التعامل معها، إنها معارك (حضارية ) بغير خصومة حقيقية.
ولعل من مظاهر الوهن الحضاري أيضا الذي تعيشه الأمة: هـذا الاضطراب في الموازين، والخلط في الأوراق. فمن أبجديات المنطق الأولى، أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وأن من أبرز سمات العصر الذي نعيشه، تقسيم العمل والتخصص، بل التخصص الدقيق في فروع المعرفة الواحدة، ليكون بعد ذلك الإنجاز والإتقان، ومن ثم الوصول إلى فجائيات الإبداع. أما في أمة الوهن الحضاري، فلا يزال الرجل الملحمة الذي يدعي أنه يفهم بكل شيء هـو الشخص المميز. ولا نخشى أن نقول هـنا: بأن مثل هـذا الادعاء في هـذا العصر يعني أن صاحبه لا يفهم في شيء، فكثير من المشتغلين بالقضية العلمية التجريبية يتقحمون ساحة التخصص الشرعي الدقيق، التي لا يبلغها إلا من أفنى عمره في بحثها. وعلى الجانب الآخر نرى بعض المشتغلين بالأمور الشرعية والفقهية يصرون على اقتحام ساحات العلوم التجريبية الدقيقة، التي يقتضي إدراك بعضها عمر فرد وعلم أفراد، ظنا منهم أنهم بذلك يحسنون أداء رسالتهم، أو الارتقاء بوسائل دعوتهم، وتحضير الأمة لممارسة دورها الحضاري المفقود.
والحقيقة أن هـذا الخلط، لون من الثقافة المغشوشة، والعجز عن تجاوز النزعة الفردية إلى روح الفريق والجماعة والعمل المؤسسي، والإنجاز المشترك، لكل في ميدانه، وبذلك لا تقتصر الإصابة الحضارية على مجال دون سواه، كما أن الارتقاء الحضاري، لا يأتي إلا متكاملا في الاجتهاد الشرعي والإنجاز العلمي على حد سواء.
وقد يكون من مظاهر الوهن الحضاري، على مستوى الإبداع العلمي والتقني: انعدام دور المثقفين والمفكرين والأدباء، في تصميم الذهنية ورعاية [ ص: 12 ]
العاطفي الذي لا يسمن ولا يغني من جوع. فما الفرق بين من يجانب الماضي ومن ينتصر له، إذا كان الإثنان يعيشان خارج الماضي والحاضر والمستقبل؟ ولعل الكثير من معاركنا وصراعاتنا التي نعنون لها بالتراث والمعاصرة، تدور في الحقيقة خارج الماضي، وخارج الحاضر معا، فلا التراثي استفاد من زاد التراث واستطاع توظيفه بشكل صحيح، ولا المعاصر أدرك مقتضيات العصر وأحسن التعامل معها، إنها معارك (حضارية ) بغير خصومة حقيقية. ولعل من مظاهر الوهن الحضاري أيضا الذي تعيشه الأمة: هذا الاضطراب في الموازين، والخلط في الأوراق. فمن أبجديات المنطق الأولى، أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وأن من أبرز سمات العصر الذي نعيشه، تقسيم العمل والتخصص، بل التخصص الدقيق في فروع المعرفة الواحدة، ليكون بعد ذلك الإنجاز والإتقان، ومن ثم الوصول إلى فجائيات الإبداع. أما في أمة الوهن الحضاري، فلا يزال الرجل الملحمة الذي يدعي أنه يفهم بكل شيء هو الشخص المميز. ولا نخشى أن نقول هنا: بأن مثل هذا الادعاء في هذا العصر يعني أن صاحبه لا يفهم في شيء، فكثير من المشتغلين بالقضية العلمية التجريبية يتقحمون ساحة التخصص الشرعي الدقيق، التي لا يبلغها إلا من أفنى عمره في بحثها. وعلى الجانب الآخر نرى بعض المشتغلين بالأمور الشرعية والفقهية يصرون على اقتحام ساحات العلوم التجريبية الدقيقة، التي يقتضي إدراك بعضها، عمر فرد وعلم أفراد، ظنا منهم أنهم بذلك يحسنون أداء رسالتهم، أو الارتقاء بوسائل دعوتهم، وتحضير الأمة لممارسة دورها الحضاري المفقود. والحقيقة أن هذا الخلط، لون من الثقافة المغشوشة، والعجز عن تجاوز النزعة الفردية إلى روح الفريق والجماعة والعمل المؤسسي، والإنجاز المشترك، لكل في ميدانه، وبذلك لا تقتصر الإصابة الحضارية على مجال دون سواه، كما أن الارتقاء الحضاري، لا يأتي إلا متكاملا في الاجتهاد الشرعي والإنجاز العلمي على حد سواء. وقد يكون من مظاهر الوهن الحضاري، على مستوى الإبداع العلمي والتقني: انعدام دور المثقفين والمفكرين والأدباء، في تصميم الذهنية ورعاية [ ص: 13 ] القابلية، وتحضير المناخ، وتشكيل العقلية القادرة على حسن التفكير والارتقاء بالتخصص، واكتشاف قوانين التسخير، والتعرف على الأسباب الموصلة إلى التمكين في الأرض وبناء الحضارة. ونستطيع أن نقول: بأننا نعاني من غياب كامل لما يمكن أن نسميه الأدب العلمي أو الثقافة العلمية، أو الثقافة التقنية، وتكاد تكون المكتبة الإسلامية اليوم شبه خالية من الدراسات العلمية المتخصصة التي تغري بالبحوث وتسهم بعملية النهوض الحضاري وتشكل دليلا لها، وقد أصبحت هـذه الدراسات اليوم لازمة، بعد أن تجاوزنا إلى حد ما مرحلة مواجهة التبعية وضرورة الفكر التعبوي الذي مرت بها أدبيات الحركة الإسلامية الحديثة.
ومن مظاهر الوهن الحضاري: ما نشاهده اليوم عند الذين يحاولون تحديث مجتمعاتهم، والإفادة من تجارب الأمم الأخرى، من التوهم بأن الحضارة إنما تكون بتكديس المنتجات؛ وكيف انقلبت النتائج عندهم مقدمات، وصارت المقدمات نتائج، فلم يدركوا أن الحضارة هـي التي تصنع المنتجات، وليست المنتجات هـي التي تصنع حضارة، وأن الإكثار من استيراد المنتجات الحضارية، والعب والاستهلاك منها بدون ضوابط، يساهم بتكريس الوهن، ويقتل الفاعلية ويؤدي إلى الركود والاستنقاع الحضاري. فكثير من المنتجات الحضارية في العالم الآخر، إنما اقتضتها الحاجة والضرورة، وانعدام اليد العاملة، وأهمية اختزال الوقت والجهد، وتوفيرهما ووضعهما في آفاق أخرى، أكثر جدوى في نظرهم؛ بينما نجد تلك المنتجات تزيد عند أمم الوهن الحضاري من مساحة وقت الفراغ، وتفتح على الإنسان سبل غواية الشيطان، وتحلق بالفرد العطالة التي تأتي بالطاقات الفائضة الكثيرة، فيكون وقته عبئا عليه، يورثه الكآبة، والملل، والضياع، والعبث، وما إلى ذلك بحيث نعيش أمراض الحضارة، مضافة إلى أمراضنا، في الوقت الذي لا يمكننا التحقق بمنجزاتها.
وأكبر مثال على ذلك، ما نراه اليوم في بعض بلاد المسلمين التي استطاعت من خلال إمكاناتها إحضار منتجات الحضارة كلها، ومع ذلك لم يغن الاستيراد عن إنسانها شيئا، بل لعل هـذه المنتجات دفعته إلى لون من العطالة، [ ص: 14 ] والاستزادة من الاستهلاك.
ولئن أمكننا استيراد الآلات، والمصانع، والأدوات، لكن لا يمكننا أبدا استيراد البشر. من هـنا نرى أنه لا بد من التفكير السليم في حل هـذه المعادلة.
إن عملية الاستيراد للآلة، والفني، والعامل، سوف يبقي إنساننا في موقعه، مهما كان التظاهر بغير ذلك. وقد لا نستغرب كثيرا عندما نرى الإنسان في عالمنا الإسلامي اليوم يجوب محلات بيع الساعات المتعددة، ويدفع الأثمان الباهظة للحصول على ساعة منضبطة، ودقيقة جدا، وبعد ذلك نجد وقته كله يمضغه الضياع، فلا قيمة له، ولا إنجاز فيه. إنه اكتفى بالساعة الضابطة، عن إدراك قيمة الوقت المنتج، ونسي أنه وضعها في اليد العاطلة! وقد يكون هـذا وأمثاله، من المناظر المألوفة كثيرا في حياتنا. إن السبب كله يكمن في أننا نواجه مشاكلنا بمنطق الأشياء، لا بمنطق الأفكار، ونظن أنها تحل بالاستزادة منها، لذلك نبقى عاجزين عن التصرف في الإمكانات التي نمتلكها، وعن التبصر بها.
يضاف إلى أن لكل أمة معادلتها الاجتماعية، وعمرها الحضاري، وأولوياتها المطلوبة، الأمر الذي لا بد أن يؤخذ بالحسبان أثناء عملية الاستيراد لمنتجات الحضارة. ونحن في هـذا لا ندعو إلى إلغاء الإفادة من المنتجات الحضارية للأمم الأخرى، لأن ذلك أقرب إلى الاستحالة، وإنما ندعو إلى ترشيد الاستيراد، وتجسير العلاقة بين منتجات الحضارة، ومعادلة الأمة الاجتماعية، ذلك أن مخاطر المنتجات في عالم الاستهلاك، تختلف عن مخاطرها في عالم الإنتاج.
ومن مظاهر الوهن الحضاري، الذي تعاني منه الأمة المسلمة: غياب الحس الديني، أي غياب فكرة الثواب والعقاب، عن أجواء البحث العلمي ، حتى وصل الأمر ببعض العقول الكليلة من المسلمين إلى اعتبار هـذه البحوث والتخصصات من علوم الكفار التي تصرف الإنسان عن التعبد إلى الله بطلب العلم الشرعي. لقد سيطر هـذا المناخ الثقافي المغشوش على العقل الإسلامي ردحا من الزمن، حتى فاتنا الركب، ولا تزال رواسب هـذا المناخ [ ص: 15 ] حاضرة، في نفوس الكثير منا حتى اليوم، على الرغم من المعاناة الشديدة، والمحنة الحضارية التي نعيشها بسبب ذلك. وليس غريبا أن نرى كثيرا ممن اختاروا طريق العلوم التجريبية من المتدينين أو من الذين استدركوا أمر دينهم بعد الولوج في التخصص، يشعرون بعقدة الذنب الداخلي بسبب اختيارهم، لتوهمهم أن هـذا اللون من الاختصاص، لا يقع في دائرة العبادة والفريضة، أو على الأقل هـو من نظرهم خارج منطقة الكسب الديني، لذلك نجد بعضهم يتحول عن ممارسة تخصصه، أو ينقطع عنه، ويخلي مكانه للعمل في مجال الدعوة إلى الله، وكأن الكسب العلمي، الذي يؤدي إلى تمكين الأمة، والوصول بها إلى مرحلة الشهادة على الناس وقيادتهم وفق منهج الله ليس من الدعوة!!
ولعل الأغرب من ذلك، أن يعتقد بعضنا، بأن الله جعل الكفار في خدمتنا، لذلك فهم يتولون الصناعة لاستهلاكنا! أما نحن فنتفرغ للعلوم الشرعية، وكأن معرفة الحرفة والصنعة والإنتاج ليس من العلوم الإسلامية، والتكاليف الشرعية! وما من الأنبياء نبي إلا كانت له حرفة، وهم في موقع الأسوة والقدوة ـ ولا ندري كيف يفهمون قوله تعالى في بيان نعمه على سيدنا داود ( وألنا له الحديد ) ، ( أن اعمل سابغات )
، ( وقدر في السرد ) ، ( وعلمناه صنعة لبوس لكم )
. وكيف يقرءون قصة ذي القرنين في القرآن الذي مكن الله له في الأرض باتباعه للأسباب: ( آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا ) (الكهف : 96 ) .
ومن مظاهر الوهن الحضاري أيضا: أن الإصابة لم تقتصر على العلوم التجريبية كما يتوهم بعضهم، وإنما نعتقد أن الإصابة في العلوم التجريبية كانت ثمرة للإصابة في العلوم الشرعية نفسها، التي انتهت إلى لون من التقليد والمحاكاة والشرح تارة والاختصار أخرى، مما عزل هـذه العلوم عن حياة الناس، وجعل منها تجريدات ذهنية بعيدة عن الوقع، وأفقدها الكثير من أبعادها الرحبة التي لو وجدت، فلا بد أن تثمر في مجال العلوم الأخرى، كما كان [ ص: 16 ] الحال في فترات التألق الحضاري والثقافي الإسلامي، حيث جاء الإبداع في مختلف المجالات، كما أن التخلف اليوم يعم مختلف المجالات.
ولم يكن نصيب العلوم الاجتماعية بأحسن حالا من العلوم التجريبية وهي ميدان هـام وهام جدا في عملية الابتعاث الحضاري، فعلوم التاريخ والاجتماع والتربية والنفس والسياسة إلخ، هـي من لوازم عملية الدعوة والبلاغ المبين وإعادة صياغة الإنسان وتشكيله، وإلا فكيف ندعو إلى الله ونرقى بالناس ونحن نعيش في عالم نجهل إنسانه ولا نمتلك الوسائل المدروسة لخطابه، والمعرفة الدقيقة لتاريخه ومعتقداته ولا ندرك خصائصه وكينونته البشرية؟! وإذا كان محل التكنولوجيا التي نتكلم عن ضرورة استنباتها، أو استيعابها، والإبداع فيها، هـو وسائل الإنسان، فإن محل العلوم الاجتماعية هـو الإنسان نفسه، الذي لا بد من إعادة بنائه وتشكيله أولا، حيث لا فائدة لوجود العربة بدون الحصان. وإذا وجد الإنسان السوي وجدت الحضارة. فالإنسان لا يستورد. وما الفائدة إذ استوردنا أشياء الإنسان ووسائله، وخسرنا الإنسان نفسه، لذلك نرى أنه لا بد من إعادة النسغ الإسلامي للعلوم الاجتماعية، ووصل ما انقطع وتوقف، واستشعار أهمية ذلك ودوره بالقدر نفسه الذي نبحث فيه قضية العلوم التقنية أو يزيد.
وقد تكون المشكلة أن إنسان التخلف لا يبصر إلا أشياء الحضارة، ويصعب عليه إبصار أفكارها.
ونعتقد أن تخلفنا في العلوم الإجتماعية اليوم لا يقل عن تخلفنا في العلوم التقنية، إن لم يكن أخطر، لذلك نرى أنه لا بد أن نعود لاستئناف البحث في العلوم الاجتماعية برؤية إسلامية، أو أن نعيد العلوم الاجتماعية إلى إطارها الإسلامي، أي لا بد أن تمتد المدرسة الخلدونية، وتستمر، وبذلك وحده نكون قادرين على إدراك قوانين التسخير، وميكانيكية عملها، والتفسير الحضاري لها، وخطورة أهداف ومنطلقات وحكمة تلك العلوم، ودورها الهام في تشكيل ثقافة الإنسان، وتأهيله للنهوض الحضاري من خلال رؤية إسلامية.
ومن مظاهر الوهن الحضاري: الخلط العجيب بين المبادئ والقيم الثابتة [ ص: 17 ] التي وردت في الكتاب والسنة وبين البرامج والأوعية الزمنية التي تعني الاجتهاد والنظر البشري في إنزال تلك المبادئ على حياة الناس بما يتوافق مع ظروف كل عصر وبيئة والظن بأن التأثم هـو في الخروج على برامج واجتهادات السابقين لما لاءم عصرهم.
إن هـذا الخلط العجيب أدى إلى الانغلاق والركود، ووضع حاجزا نفسيا أمام العقل المسلم، أقعده عن الإبداع والاجتهاد، لما يوافق عصره، كما حال بينه وبين الإفادة من تجارب الآخرين، في مجال النظم والبرامج. ونعتقد أن الإسلام أرسى القيم والمبادئ والموجهات الأساسية، التي لا بد أن تضبط السير، وتحذر من الانحراف والانزلاق. أما إبداع النظم والبرامج، فهو من اختصاص العقل الإنساني، ونعتقد أن من أهم عوامل التخلف، إن لم يكن أهمها، هـو هـذا الحجر وتلك المحاصرة التي أوقعناها على أنفسنا فحالت بيننا وبين الكسب والتصرف والحركة بما يلائم عصرنا.
ونحب أن نؤكد أننا باستعراضنا لبعض مظاهر الوهن الحضاري، الذي تعيشه أمتنا، إنما أردنا لفت النظر إلى بعض جوانب المحنة التي نعاني منها في الداخل الإسلامي، لأننا نعتقد أن الحس بالمعاناة هـو سبب للتأمل في الدواء، والوقوف على عتبة النهوض وأن تحسيس الأمة بالأزمة هـو إدخال لها في مرحلة القلق السوي على مصيرها.
فالصعوبات التي تواجه الأمة هـي الحقيقة مبشرات، والحس بالصعوبة واستشعار أبعادها مؤشر على الدخول في هـم الكفاح، والمواجهة الحضارية، واكتشاف مواطن الخلل، لأن الصعوبات والمحن، دليل الخلل في البناء الاجتماعي، ومن شروط الاستجابة التحدي. والله سبحانه وتعالى يقول: ( الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ) .[آل عمران:172]وبعد فلا شك أن الكتاب الذي نقدمه اليوم، للأخ الدكتور محمود محمد سفر، يمكن أن يعتبر إلى حد بعيد، خطابا أو دليلا للنهوض الحضاري، إن صح التعبير، لأن مؤلفه ـ فيما نحسب ـ يعيش هـم الأمة المسلمة العام، ويشعر [ ص: 18 ] بعمق الأزمة، ويحاول فتح النوافذ في النفق المظلم، لعل ذلك يوفر الجهود، ويبصر بالوجهة الصحيحة. ويمكن أن ندرك أهمية الموضوعات التي يعرض لها الأخ الدكتور محمود ويوليها هـمه واهتمامه إذا استعرضنا عناوين الكتب والدراسات التي قدمها للمكتبة الحضارية الإسلامية، ومن أهمها: الإقلاع الحضاري، إنتاجية مجتمع، الحضارة تحد، الإعلام موقف، (ثغرة في الطريق المسدود ـ بالمشاركة ) .
لقد آثر الموقع الفاعل والمؤثر على الرغم من المشقة التي تحيط بمثل هـذه القضايا والمشكلات، القائمة أصلا على النظر والتأمل، والمقارنة، والمقايسة، والمناقشة، والاستيعاب، في محاولة لما نسميه شمول الرؤية الإسلامية وتعديتها، لتستوعب أبعاد الزمن الثلاثة: الماضي، والحاضر، والمستقبل، إلى جانب القدرة على التبادل المعرفي، وهضم الإنتاج العالمي، والإفادة منه في ضوء دراية وفهم بعيدا عن التناول السهل الذي يقوم على مجرد الاغتراف، والنقل، والتكرار، والخطابيات التي باتت تثقل الذهن الإسلامي دون كبير فائدة، مما يسهم بتكريس الواقع ويحول دون أي أمل في النهوض.
ويأتي اعتزازنا بهذا الكتاب، لما يشكل من إضافة نوعية في إطار السلسلة، سوف يساهم إن شاء الله، برسم الطريق للخروج من أزمة التخلف الحضاري، على مستوى الأفراد والمؤسسات، والمعاهد والجامعات، بإحساس وإدراك متميزين يمكن أن يسمى (الفقه الحضاري ) .
ولا يفوتنا، بمناسبة هـذا اللون من النظر والدراسة أن نذكر بالأستاذ مالك بن نبي رحمه الله، الذي كان له فضل السبق والريادة، للمدرسة الحضارية الإسلامية الحديثة، لأننا نرى أنه لا بد لهذا المنهج من أن يؤصل في حياة المسلمين، ونرى أن المزيد من هـذه الدراسات يشكل علامة صحة وصحوة بحد ذاته.
ونعتقد أن الذهنية الإسلامية لم تأخذ بعد حقها المطلوب من منهج الأستاذ مالك، بسبب من النزعات الحزبية التعصبية التي حالت دون وصول منهجه إلى [ ص: 19 ] القاعدة الإسلامية العريضة، ولم تدرك المعالم الواضحة التي أقامها بين ما يمكن أن يسمى التفسير الحضاري لواقع المسلمين، وبين ما يمكن أن نسميه التسويغ الذي وقع به كثيرون.
وهذا لا يعني أننا ندعي العصمة للأستاذ مالك، ولا لغيره، فكما أن للريادة تألقها وإبداعها فإن لها أخطاءها ومنزلقاتها الخطيرة، ويبقى الخطأ من جبلة البشر، والمعصوم من عصمه الله.
وقد يستغرب بعض المهتمين بأمر الدعوة الإسلامية اليوم مثل هـذه الدراسات الإسلامية؛ لأنهم اعتادوا لونا من الكتابة والخطابة والإثارة، التي ترضي العواطف، وتحرك المشاعر أكثر مما تهدي العقل، وبالتالي فلا يعتبرون الكتاب إسلاميا ما لم يحمل بنبرات الوعظ، والإرشاد، والترغيب، والترهيب المباشر، أما ما وراء ذلك من البحث في وسائل إعمار الأرض، والقيام بأعباء أمانة الاستخلاف الإنساني فيبقى خارج اهتمامهم، وتقديرهم، وبذلك ينفصل الدين عن الحياة عمليا، وإن كنا نرفضه نظريا، والله نسأل أن يرزقنا الإخلاص في النية، والصواب في العمل، إنه على كل شيء قدير. [ ص: 20 ]