الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
تجارب الأمم من قبلنا

إن تجارب الأمم الأخرى في هـذا المجال ميدان رحب، ندرسه ونمحصه، ونأخذ العبرة منه، لنحدد الطرق في هـدي تلك الدراسة، ولا نقول: بنقل تجارب غيرنا، لأننا نؤمن أن التقنية ما هـي إلا غرسة أو شتلة تغرس في أرض سبق حرثها، ينمو الزرع فيها برعاية أبنائها، وقد يكون من المناسب أن نستفيد من تلك التجارب، ولكن تبقى مسئولية الأبناء في تمهيد التربة والغرس والرعاية هـي الأساس.

الأمة اليابانية

وقد تكون أولى تلك التجارب وأهمها، هـي تجربة اليابان الرائدة، وهي [ ص: 85 ] اليوم في الصف الأول، بين الدول الصناعية، في الوقت الذي نجد فيه الهند والصين، تسعيان لإيقاف اتساع الفجوة، بينما تقف دول العالم الثالث، على حافة فجوة علمية وتقنية، بينها وبين دول العالم الصناعي، لم تستطع بعد من تغيير معدلها.

ماذا فعلت اليابان؟

تحضرني هـنا كلمات للأستاذ مالك بن نبي ـ رحمه الله ـ في كتابه " حديث في البناء الجديد " يقول فيها:

إن اليابان وقفت من الحضارة الغربية موقف التلميذ، ووقفنا منها موقف الزبون، إنها استوردت منها الأفكار بوجه خاص، ونحن استوردنا منها الأشياء بوجه خاص.

ومع ما في هـذا التشبيه من دقة في القول، فإن اليابان استوردت من الأفكار ما يتلاءم مع تربتها الاجتماعية وبخاصة الأفكار التي تثري التقنية، أي : أنها جردت الأفكار من أي مضمون اجتماعي أو ثقافي، واستخلصت منها ما يتلاءم مع تطورها، وتقنياتها، فلم تجر وراء نماذج تطبقها، ولم تستورد خبراء من الخارج، ليقوموا بالعمل عوضا عن أبنائها، ولكنها توسعت في الابتعاث للخارج، ليتفاعل أبناؤها مع الحضارة الغربية، ولينهلوا من العلوم الحديثة، وهم في ذلك في شغل شاغل للإجابة عن سؤال مهم هـو:

ما سبب تقدم تلك البلدان علينا؟

لقد تبنت اليابان أكبر حركة للترجمة، شملت جميع المعارف والعلوم، فكانت النتيجة انصهار الأفكار مع إمكانات الإنسان الياباني بتقاليده، وتراثه، وقيمه، في بوتقة واحدة، نقلت المجتمع الياباني إلى الصف الأول وبدون خسائر تذكر.

واليابان دولة فقيرة في مواردها الطبيعية، ولكنها غنية بالإنسان الياباني الملتزم، المشغول دائما بقضية وطنه. [ ص: 86 ]

لما سئل (دوكو) أبو الاقتصاد الياباني عن عبقرية الشعب الياباني كان من رأيه

[1] :

إن المصانع ليست إلا أسرة، إنها حياة العائلة الواحدة، بكل ما في كلمة العائلة من معنى ريفي قديم، فالمصنع عائلة مرتبطة تماما.

وعمال المصنع قد ولدوا ليموتوا في داخله. وإذا ترك الواحد منهم هـذا المصنع، فإنه لن يذهب مطلقا إلى مصنع منافس، وإذا حاول أحد عمال هـذه المصانع، أن يذهب إلى مصنع منافس، فان المصنع لا يقبله لأن العائلات أسرار، والعائلات اليابانية تتنافس، ولكنها لا تتصارع، إنما تتفوق على المصانع الأوروبية والأمريكية، من أجل رفاهية وعظم الشعب الياباني كله.

وقد يكون أعظم اكتشافات اليابان هـو الإنسان ذاته، إذ بهذا الإنسان، وعلى أرضها وقفت اليابان بإباء وشموخ، حتى بعد أن تعرضت لنكبة التدمير بالقنبلة الذرية في (هيروشيما) ، وتخطت العقبة، ولم تتوقف، وبدأت مرة أخرى تدرب شعبها، تطوره، وتعلمه.

ولا أدري لماذا تلح علي قصة المواطن الياباني، الذي استطاع أن يسهم إسهاما عظيما في نهضة بلده اليابان، التي كانت حتى نهاية القرن التاسع عشر أمة حائرة، تتلمس طريقها، حتى إنهم أرسلوا بعثة إلى مصر، في عهد الخديوي إسماعيل يبحثون عن أسباب تقدم مصر عليهم، وأتأمل اليوم في حالنا وفي حالهم، وأتلمس الإجابة في قصة هـذا الياباني الذي يمثل ظاهرة العمل، التي قفزت باليابان من دول العالم الثالث ، إلى دولة صناعية كبرى، ولله في خلقه شئون. [ ص: 87 ]

ورجل قصتنا اسمه " تاكيو أوساهيرا " ، وندعه هـو يحكي قصته كما رواها وليام هـارت ، ونقلها عنه الأستاذ حسين مؤنس ، في مقالة له نشرتها مجلة " أكتوبر " المصرية، بالعدد رقم 234 وتاريخ 14 يونيه 1981م

يقول أوساهيرا، وكان في هـذا الوقت مبعوثا من قبل حكومته للدراسة في جامعة هـامبورج بألمانيا :

لو أنني اتبعت نصائح أستاذي الألماني، الذي ذهبت لأدرس عليه، في جامعة هـامبورج، لما وصلت إلى شيء، كانت حكومتي قد أرسلتني لأدرس أصول الميكانيكا العلمية، كنت أحلم بأن أتعلم، كيف أصنع محركا صغيرا؟ كنت أعرف أن لكل صناعة وحدة أساسية أو ما يسمى " موديل " ، هـو أساس الصناعة كلها، فإذا عرفت كيف تصنعه، وضعت يدك على سر هـذه الصناعة كلها. وبدلا من أن يأخذني الأساتذة إلى معمل، أو مركز تدريب عملي، أخذوا يعطونني كتبا لأقرأها، وقرأت حتى عرفت نظريات الميكانيكا كلها، ولكنني ظللت أمام المحرك أيا كانت قوته، وكأنني أقف أمام لغز لا يحل، وفي ذات يوم، قرأت عن معرض محركات إيطالية الصنع، كان ذلك أول الشهر، وكان معي راتبي. وجدت في المعرض محركا، قوة حصانين، ثمنه يعادل مرتبي كله، فأخرجت الراتب ودفعته، وحملت المحرك، وكان ثقيلا جدا، وذهبت إلى حجرتي، ووضعته على المنضدة، وجعلت أنظر إليه، كأنني أنظر إلى تاج من الجواهر. وقلت لنفسي: هـذا هـو سر قوة أوروبا، لو استطعت أن أصنع محركا كهذا، لغيرت اتجاه تاريخ اليابان.

وطاف بذهني خاطر يقول: إن هـذا المحرك يتألف من قطع ذات أشكال وطبائع شتى، مغناطيس كحدوة حصان، وأسلاك، وأذرع دافعة، وعجلات، وتروس، وما إلى ذلك، لو أنني استطعت أن أفكك قطع هـذا المحرك، وأعيد تركيبها، بالطريقة نفسها التي ركبوها بها، ثم شغلته فاشتغل، أكون قد خطوت خطوة نحو سر " موديل " الصناعة الأوروبية.

وبحثت في رفوف الكتب التي عندي، حتى عثرت على الرسوم الخاصة [ ص: 88 ] بالمحركات، وأخذت ورقا كثيرا، وأتيت بصندوق أدوات العمل، ومضيت أعمل: رسمت منظر المحرك، بعد أن رفعت الغطاء الذي يحمي أجزاءه، ثم جعلت أفككه، قطعة قطعة، وكلما فككت قطعة، رسمتها على الورق بغاية الدقة، وأعطيتها رقما وشيئا فشيئا فككته كله، ثم أعدت تركيبه وشغلته فاشتغل، كاد قلبي يقف من الفرح، استغرقت العملية ثلاثة أيام، كنت آكل في اليوم وجبة واحدة، ولا أصيب من النوم إلا ما يمكنني من مواصلة العمل.

وحملت النبأ إلى رئيس بعثتنا فقال: حسنا ما فعلت، الآن لا بد أن أختبرك، سآتيك بمحرك متعطل، وعليك أن تفككه، وتكشف موضع الخطأ، وتصححه، وتجعل هـذا المحرك، العاطل يعمل، وكلفتني هـذه العملية عشرة أيام. عرفت أثناءها مواضع الخلل، فقد كانت ثلاث من قطع المحرك بالية متآكلة، صنعت غيرها بيدى، صنعتها بالمطرقة والمبرد ... إننى بوذي على مذهب " رن " ، ومذهبي هـذا يقدس العمل، فأنت تتعبد إذ تعمل، وما تعمله بعد ذلك من شيء نافع، يقربك من بوذا .

بعد ذلك قال رئيس البعثة ـ وكان بمثابة الكاهن يتولى قيادتي روحيا ـ قال: عليك الآن أن تصنع القطع بنفسك، ثم تركبها محركا، ولكي أستطيع أن أفعل ذلك، التحقت بمصانع صهر الحديد، وصهر النحاس، والألمنيوم، بدلا من أن أعد رسالة دكتوراه، كما أراد مني أساتذتي الألمان، تحولت إلى عامل ألبس بذلة زرقاء، وأقف صاغرا إلى جانب عامل صهر معادن، كنت أطيع أوامره كأنه سيد عظيم، حتى كنت أخدمه وقت الأكل، مع أنني من أسرة ساموراي، ولكنني كنت أخدم اليابان، وفي سبيل اليابان يهون كل شيء.

قضيت في هـذه الدراسات والتدريبات ثماني سنوات، كنت أعمل خلالها ما بين عشر وخمس عشرة ساعة في اليوم، بعد انتهاء يوم العمل، كنت آخذ نوبة حراسة، وخلال الليل كنت أراجع قواعد كل صناعة على الطبيعة. [ ص: 89 ]

وعلم " الميكادو " بأمري، فأرسل لي من ماله الخاص، خمسة آلاف جنيه إنجليزي ذهب، اشتريت بها أدوات مصنع محركات كاملة، وأدوات وآلات. وعندما أردت شحنها إلى اليابان ، كانت النقود قد فرغت فوضعت راتبي وكل ما ادخرته. وعندما وصلنا إلى " نجازاكي " قيل لي: إن " الميكادو " يريد أن يراني. قلت: لن أستحق مقابلته إلا بعد أن أنشئ مصنع محركات كاملا.

استغرق ذلك تسع سنوات. وفي يوم من الأيام حملت مع مساعدي عشرة محركات صنعت في اليابان، قطعة قطعة، حملناها إلى القصر، ووضعناها في قاعة خاصة، بنوها لنا قريبا منه، وأدرناها، ودخل " الميكادو " ، وانحنينا نحييه، وابتسم، وقال: هـذه أعذب موسيقى سمعتها في حياتي، صوت محركات يابانية خالصة.

هكذا ملكنا " الموديول " ، وهو سر قوة الغرب، نقلناه إلى اليابان، نقلنا قوة أوروبا إلى اليابان، ونقلنا اليابان إلى الغرب، ثم ذهبنا وصلينا في المعبد، وبعد ذلك نمت عشر ساعات كاملة لأول مرة في حياتي منذ خمس عشرة سنة.

انتهت قصة " تاكيو أوساهيرا " ، قصة مدهشة حقا أعظم ما فيها هـو هـذا الانتماء الكامل للوطن، والاستسلام المدهش لحاجته الحقيقية، والعشق الواضح، للعمل المنتج.

قد كانت حاجة الوطن إلى " موتور " ، أهم وأعظم من شهادة دكتوراه، يعود بها ليتبارى ويتفاخر.

وانظر كذلك إلى أمره، يعتذر عن مقابلة " الميكادو " ، قبل أن ينجز لأمته شيئا، لأنه اعتبر تلك المقابلة، شرفا عظيما لا يستحقه، من لا يقدم لأمته عملا منتجا، ومجهودا واضحا.

تلك هـي الروح الحقيقية لبداية انطلاق اليابان، لم تشغل أبناءها المسميات، أو المناصب، وإنما شغلتهم أهداف سامية للنهوض باليابان، [ ص: 90 ] وشغلتهم معرفة أسرار التقنية، وليس نقلها، ليس من الغريب إذن، أن ترسل اليابان إلى مصر، في عهد الخديوي إسماعيل بعثة لتدرس أسباب تقدم مصر عليها، ولتقف اليابان موقف التلميذ من مصر تتعلم وتستفيد، وكذلك كان موقف اليابان من الحضارة التقنية الغربية.

قد أكد هـذا الفهم " تاكيشى هـاياشي " في بحثه الممتع عن " الخلفية التاريخية لنقل التقنية، والتحولات، والتطورات في اليابان " ، وهو بحث قمت بترجمته إلى اللغة العربية بشيء من التصرف لا يخل بالمعنى، ويجد القارئ الترجمة كاملة من الفصل السادس من كتاب " إنتاجية مجتمع " [2] .

ومن الممكن أن نستخلص منه الحقائق التالية عن تجربة اليابان:

1- أدخلت اليابان العلوم والتقنية الغربية على مرحلتين.

الأولى عن طريق استيراد البضائع التامة الصنع، ولما لم تجد تلك الطريقة، انتقلت إلى مرحلة أخرى، حيث تم بذل الجهود لاستنبات التقنية، عن طريق إعادة إنتاجها، واستنساخها، وصرفت اليابان جهودها إلى تعلم طرق التشغيل، والإصلاح، والصيانة، للآلات المستوردة، حتى أصبحت تقوم بإنتاج آلات شبيهة بالآلات المستوردة، ولكنها تتلاءم مع احتياجاتها. ووصل الأمر في بعض الأحيان إلى تفكيك قطار كامل، تم تصنيعه في الولايات المتحدة، بعد تسلمه مباشرة، وصناعة آخر شبيها له.

2- سبقت التقنية الحربية مختلف التقنيات الأخرى، في دخولها إلى اليابان، وقد كان ذلك رد فعل للتدخل العسكري من القوى الأجنبية الذي ارتبط مباشرة بالتهديد الاقتصادي، وتحت هـذا التهديد، كانت صناعة [ ص: 91 ] المدافع، والسفن الحربية، أسبق الصناعات، بل إنها كانت القاعدة، التي انطلقت اليابان منها، برصيد واسع من الخبرة فيها، عندما أقامت عددا آخر من الصناعات، كما حدث في مصنع سك النقود، فقد كانت المعالجة الكيمائية للمعادن، والتي اكتسبت اليابان خبرة واسعة فيها، في مجال صناعة المدافع، أكبر مساعد في نجاح تلك الصناعة.

3- بدأت عمليات التصنيع الرئيسة في اليابان ، بالصناعات الثقيلة، كصناعة الحديد والصلب والآلات، وخطوط السكك الحديد، وهي في ذلك تختلف عن أوروبا التي بدأت بالصناعات الخفيفة بعد الثورة الصناعية، ولم تكن التجربة اليابانية سهلة، ولكن التصميم على الهدف، كان دافعا لهم على المواصلة، وقد حدث ذلك عند إقامة مصنع الحديد والصلب، فقد حاولت الاستعانة بأحد الخبراء الإنجليز، ولكن المصنع فشل، ثم عاودت الكرة مع الخبرة الألمانية، وفشلت مرة أخرى، حتى استطاع الخبراء اليابانيون حل المشكلة، واستفادت اليابان من ذلك درسا مهما، هـو أن مجرد نقل التقنية المتقدمة، وإعادة تطبيعها لا يؤديان إلى الهدف، كما أنها انتهت إلى محدودية فعالية الاستعانة بالخبراء الأجانب.

4- كان من أهم عوامل نجاح التجربة اليابانية، اكتشافها حقيقة إجراء التغيرات الملائمة للظروف العملية على التقنية المستوردة، لكي تتلاءم مع ظروفها المحلية. وعلى سبيل المثال؛ فإنها في صناعة الغزل والنسيج، اتخذت طابعا خاصا بها يتلاءم مع طبيعة السكان، والمادة الخام بها، برغم أنها استفادت من خبرة العديد من الدول في هـذا المجال.

تلك حقائق أمكن استخلاصها من البحث، ويهمنا أن ننقل عبارة قيمة أنهى بها البروفسور " هـاياشي " بحثه وهي:

من المهم للتنمية البشرية والاجتماعية ألا تطبق التقنية بسذاجة، ولكن ينبغي مواءمتها بعناية، ويمكن مواءمة التقنية إذا استخدمت لإنتاج بضائع مناسبة، وإذا أمكن لها أن تجد أسواقا مناسبة . [ ص: 92 ]

الأمم الأوروبية

وأوروبا ، ماذا فعلت في سبيل سموها التقني؟ إن دارسة تاريخها بعمق ودراية، يكشف عن حقيقة أساسية، هـي أن الثورة الصناعية التي قامت فيها، لم تكن سوى وليدة لاتجاهها نحو العلم التجريبي ، الذي صنعه العلماء المسلمون، ومن خلال المعابر العديدة، التي انتقلت عليها الحضارة الإسلامية. حدث ذلك في ذات الوقت تقريبا الذي طلق المسلمون فيه أنفسهم من العلم التجريبي.

لم يذهب المسلمون إلى أوروبا ليشعلوا الثورة الصناعية، ولكن أوروبا وقفت من الحضارة الإسلامية موقف التلميذ، تعلمت، وترجمت، واستوعبت، ثم أبدعت تقدما وحضارة، باسقة، أصبحت وكأنها غريبة عنا، برغم أنها نتاج تراثنا العلمي ولكننا أضعناه.

لقد أمضى الغرب زهاء أربعة قرون، ليبني قلاعه العلمية والتقنية، والقاريء الموضوعي لتاريخ الإنسانية، لا يملك إلا أن يعترف بأن أعمال العلماء العرب والمسلمين، تحتل أنصع صفحات التراث العلمي العالمي، فقد كانت تلك الأعمال الركيزة الأساسية التي قامت عليها الحضارة الغربية، إذ أن جذور شجرة الحضارة العلمية المعاصرة، تمتد إلى عصور السمو في الحضارة العربية الإسلامية، حين ازدانت تلك العصور بمئات من العلماء العرب والمسلمين، الذي تقرن مساهماتهم بأعاظم العلماء في كل عصر لقد كان لا بد من ظهور ( ابن الهيثم ) ، و ( البيرونى ) ، و ( ابن سيناء ) ، و ( الخوارزمي ) ، و ( الرازي ) ، و ( الزهراوي ) ، و ( الغافقي ) ، و ( ابن يونس ) ، و ( الصوفي ) ، و ( الكندي ) ، و ( ابن رشد ) ، و ( ابن زهر ) ، ومن إليهم، لكي يتسنى ظهور ( كبلر ) ، و ( كوبرنيق ) و ( نيوتن ) ، و ( دالتن ) ، و ( أنشتاين ) ، و ( ديكارت ) ، ومن إليهم. تلك حقيقة، نذكرها بكل فخر، ونشير إليها بكل اعتزاز، لنوقظ [ ص: 93 ] بها المشاعر، ونحفز بها الهمم، ونحيي بها النفوس.

نقول: قد أمضى الغرب أربعة قرون، ليبني حصونه العلمية، ويحقق منجزاته التقنية.. وكان لكل فرع من فروع العلم والتقنية مسيرة معينة، تتميز بفترات التكدس والاستيعاب، ثم فجائيات الإبداع. دعونا ندلل على ذلك الأمر، ونزيده توضيحا، بأن نضرب مثلا بفرع من فروع المعروفة، يعتبر العمود الفقري للتقنية المعاصرة، وهو علم ( الميكانيكا ) في عصر ما قبل العالم " كبلر " .

كان علم " الميكانيكا " عبارة عن مجموعة معلومات مكدسة، عن حركة النجوم والكواكب، لا يستبين الإنسان قوانينها، ثم جاء " كبلر " واستخرج منها قوانينه الثلاثة المشهورة، فاستغنت الإنسانية على يديه، عن هـذا الركام الضخم من المعلومات، واستبدلت به ثلاثة قوانين، لا تشغل أكثر من نصف صفحة، تهتم بمسار جسم، تحت تأثيره قوة جذب مركزية . وفي الفترة ما بعد " كبلر " ، كان علم الميكانيكا يزداد بطريقة تكدسية، معلومات متفرقة، عن أشياء لا يبدو واضحا ما يحكمها من قوانين، حتى جاء ( إسحق نيوتن ) ، فأحدث باكتشافه لقوانين الحركة الثلاثة فجائية إبداعية، كانت من بين الأسس العظيمة التي بنى الإنسان عليها حضارته العلمية والتقنية المعاصرة. عن قوانين (نيوتن ) الثلاثة لا تصف حركة الكواكب والأقمار في مساراتها فحسب، وإنما تصف ديناميكية التحرك لكل الأجسام، تحت تأثير أي نوع من القوى.

واستمر علم " الميكانيكا " بعد ذلك، في حالة تزايد تكديسي دونما طفرة، حتى جاء " أينشتاين " ، فعمم قوانين " نيوتن " ، في طفرة إبداعية أخرى، بحيث أصبحت قوانين " أينشتاين " قادرة على وصف حركة الأجسام الدقيقة، ذات السرعات العالية، التي تقترب من سرعة الضوء .

ومنذ أن نشر " أينشتاين " بحثه عن النظرية النسبية الخاصة، في عام 1905م، وحتى الآن، يتزايد علم الميكانيكا تزايدا تكديسيا، في انتظار [ ص: 94 ] طفرة إبداعية جديدة، تأخذ الإنسانية إلى مجالات أرحب من التقدم والسمو.

استخلاص العبرة

إذن فإن موقف اليابان وأوروبا يتلخص في أنهم سعوا إلى تكديس العلوم، والمعارف، والأشياء، بغرض البناء. أما الدول النامية في حركتها الحالية، فإنها تكدس العلوم، والمعارف، والأشياء، بغرض الاستهلاك، وعلى أحسن الفروض، بغرض المباهاة والتظاهر، دون مضمون، ودون بناء.

والعبرة التي يمكن استخلاصها بجلاء من ذلك هـي: أن الأمم في مدرسة الحضارة كالتلميذ في مدرسته. في العملية التعليمية يمر الطالب بثلاث مراحل رئيسة هـي:

مرحلة التكديس: وهي مرحلة التلقي للمعلومات، تتراكم لديه يوما بعد يوم، بصورة غير مرتبة، أو منتظمة، ومتعددة المجالات، تليها:

مرحلة أخرى، تتضح فيها الصورة في ذهن الطالب، ويتم ترتيب المعلومات بشكل أفضل حيث يبدأ في تكوين علاقات بينها، تساعده على الهضم أو الاستيعاب، ويمكن تسمية تلك المرحلة بمرحلة الاستيعاب، تليها

مرحلة الإبداع: حيث يستطيع الطالب أن يعطي فكرا جديد يختلف عما تلقاه، ولكنه ينبع من جوهره، ويرتكز عليه.

وهاكـم التفصيل:

التالي السابق


الخدمات العلمية