الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
دوائر المحنة

من هـذا نخلص تحديدا إلى أن محنة الإنسان المسلم مع حضارة عصره تتركز في دوائر ثلاث متصلة، هـي في تقديرنا:

أولا: الانبهار بحضارة العصر لدرجة الغشاوة ، واللهث خلفها حتى الإعياء وكل هـذا دفع به إلى التقليد والمحاكاة ليجد نفسه في نهاية المطاف منقادا طواعية إلى الرضوخ لسلطان تلك الحضارة فيصبح تابعا لها. تأمر فيطيع.

ولكن إلى متى سنظل ـ نحن المسلمين ـ هـكذا عالة عليها، مبهورين بها، مشدودين إليها؟ إلى متى سنظل هـكذا مستخدمين لمنتجاتها، ومستهلكين لبضائعها؟ إلى متى سنظل هـكذا أسواقا لمظاهرها، ومستودعا لما تقذفنا به من أشيائها وتطرحه في أسواقنا من منتجاتها؟ أسئلة حرجة آن لنا أن نوجهها لأنفسنا بصدق وإصرار، حتى يمكننا أن نبحث عن الإجابات المحددة [ ص: 46 ] والواضحة لها.

لا بأس إن ينبهر الإنسان بالجديد عليه، ولا تثريب أن يندهش بالغريب عنه، فتلك جبلة الإنسان أينما كان، فالانبهار بالحضارة الغربية المعاصرة صورة واقعة وحقيقة لا تنكر من شعوب العالم النامي .

ولا عيب في هـذا بذاته، إنما العيب في نظرنا أن يسيطر الانبهار على الفرد والأمة، فتغشى الأبصار، ولا ترى إلا بمنظور تلك الحضارة، وتتوقف العقول، فلا تفكر، إلا اعتمادا على عقول تلك الحضارة، فيسقط التبصر، ويمحى التفكير، وتلهث الأنفاس خلف " عالم الأشياء " في الحضارة الغربية، ولا تهدأ حتى تنال بغيتها منه، دون أن تسهم في صنعه أو تشارك في إنتاجه.

إن الحق كل الحق أن نعترف بأن هـناك فجوة ملحوظة ـ يخشى اتساعها مع الزمن ـ بين تراث الأمة الإسلامية وتاريخها المجيد يوم قادت العالم إلى النور، وبين ما تعيشه من واقع متخلف، وأمية حضارية تعتبر امتدادا لأميتها الأبجدية، في الوقت الذي تنفجر فيه المعرفة والعلم، ويحلق فيه إنسان العصر في آفاق رحبة من الإبداع والابتكار.

إننا بهذا الاعتراف ننتصر لأنفسنا على أنفسنا، ونقر: بأن البناء الحضاري، ومظاهر التقدم ما هـي إلا محصلة تفاعل الأمة والمجتمع مع البيئة بجميع ما فيها من قيم ومبادئ، وسنن وقوى، وموارد مادية وبشرية، مثلما أن رسوخ البناء الحضاري ما هـو إلا تعبير أصيل عن قيم الأمة، وتجسيد حي لكيانها العقدي والنفسي، والفكري، والسلوكي، وبقاء الحضارات وديمومتها رهن دائما بوجود هـذه القيم، وديمومة تلك المبادئ تلك المبادئ.

ثانيا: الإفراط في التغني بالماضي التليد كرد فعل غير مباشر لذلك الانبهار

مما يقود المسلم المعاصر ـ في عمومه ـ إلى الاتكاء على مخدة التراث فيروح في سبات عميق، لا يحس بما حوله ومن حوله، من متغيرات، وما يحيط به من تحديات، وعندما يستيقظ ـ إذا شاءت إرادة الله له أن يستيقظ والثقة بالله كبيرة ـ [ ص: 47 ] سوف نجده مندهشا للتطورات التي أخذت بعناق مجتمعه، وأحاطت به من كل جانب، ولأن تلك التطورات حدثت أثناء فترة نومه، فإذا لم يستطع أن يستوعبها يبدأ في مقاومتها، والقدح فيها، بدلا من أن يحتويها، وينقيها عن شوائبها، ولأن الزمن كفيل بحل الكثير من المشكلات تكون النتيجة في غير صالحه، لأن الزمن دائم الحركة كنهر متدفق لا ينتظر المنكفئين، ولا يهتم بالحائرين، ولا يتوقف من أجل الحالمين.

وبقدر اعتزازنا وفخرنا بتراث أمتنا وتاريخها المجيد، إلا أنه لا يضفي التغني به علينا هـالة من شرف، ولا نوعا من تقدم، ولا شيئا من حضارة طالما بقينا نعيش على أطلاله، ونتخذه تكأة نجلس عليها في ساحات الفخر البالي، والحماس المهترئ ومواقع التراخي، والاستسلام لأحلام الماضي، واليأس المريح.

دعونا نعترف بشجاعة وصدق أننا ـ نحن المسلمين ـ لا نملك اليوم حضارة تحمل سماتنا، وتعبر عن هـويتنا، ولكننا نعيش في ظلال حضارة أقامها الأجداد، متمثلة في التراث العريق الذي ورثناه، ولم نبذل الجهد الكافي، ولا الجدية المطلوبة حتى الآن لإحيائه وتقديمه لأمتنا بأسلوب العصر، ليكون أحد مصادر طاقتها ووقود مسيرتها نحو مبتغاها من التطور والتقدم والنهضة.

توقفنا عند نهاية المسيرة لتراثنا، بينما عكف الغرب في فترة انحطاط المسلمين ـ التي صاحبت ذلك التوقف ـ على علومهم ونهل من معارفهم، وأسس على بذورها وبأنفاسها قلاعه الحضارية الشامخة، التي ما فتئ يرفع من ناطحاتها، ويعلي من سوامقها من خلال كشوفه ومخترعاته، في مجالات العلوم والتقنية، والمؤسسات والنظم التي غمرت العالم كله، من مشرقه إلى مغربه، بمنتجاتها السريعة إلى الحد الذي يثير ـ عن جدارة ـ الانبهار والإعجاب بأصحاب هـذه الحضارة. هـذا هـو الوجه الإيجابي لها، والذي يشكل في ذاته تحديا رهيبا يزيد في عمق الفجوة الحضارية بيننا وبينه، يجب أن نسعى جاهدين لعبورها.

أما الوجه الآخر لها فإنه سلبي وقبيح يتمثل في أن أصحاب الحضارة الغربية [ ص: 48 ] يتوسعون دائما في منتجاتهم، ولم لا فقد قامت حضارتهم على الغزو والتوسع، وفتح الأسواق لمنتجاتهم، إنهم ينتجون كل يوم جديدا، ويصنعون كل يوم سلاحا يدعوهم إلى بيع القديم، يشعلون من أجله حروبا في العالم، إن لم تشتعل بنفسها، وإن خمدت زادوها نارا وأججوها. هـذا الاستعمار الجديد القوي لم تكفه الفجوة الحضارية بيننا وبينه، بل يحاول أن يجهض كل مشاريع التنمية الإنتاجية في بلداننا، ومن هـنا تعين علينا ـ ونحن في حال لا نحسد عليه، بين مطارق التسارع الحضاري من جانب، ومحاولات الإجهاض لتوجهاتنا من جانب آخر ـ تعين علينا أن نقف موقفا صريحا، وصامدا، ومضاعف الجهود من الحضارة الغربية، وما تمثله.

إننا لا نستطيع أن نعيش بعزله عن عالم اليوم، بكل ما فيه من حضارة وتقدم، وبجميع ما فيه من إنجازات هـائلة، عمقت الفجوة الحضارية بيننا وبينه، وواقع هـذه الفجوة إنما يفرض علينا تحديات لا مناص منها، ولا مفر عنها، إذا كنا فعلا على المستوى اللائق من الإحساس بها، وإذا كنا فعلا جادين في رغبتنا في تضييق هـذه الفجوة، وفي تجاوز هـذا التخلف التقني القاتل.

ثالثا: خمول العقل المسلم وغيابه عن مجريات الأحداث

إن ما أصاب العقل المسلم من ركود وخمول، بل وغياب تام، عن مجريات الأحداث في المجتمعات المسلمة، ترتب عليه خروجه من دوائر التحدي، والاكتفاء بالمشاهدة، فأسقط بذلك عن نفسه المسلمة واجب التكليف، الذي فرضه الله على الإنسان لعمارة الأرض عندما استخلفه فيها. إذ أن ما نلحظه بوضوح في مسيرة مجتمعاتنا اليوم أنها تعيش بالحد الأدنى من التفكير والتنظيم، وأن أفرادها ـ في مجموعهم ـ يتعايشون مع واقعهم بشيء من اللامبالاة، وبقدر من عدم الاهتمام، إلى جانب الأنانية الفردية، التي عادة ما تقود الشخص إلى التمسك بما يملك من فكر، أو رأي، أو خبرة، أو حتى متاع الدنيا، ويحرص على الاكتفاء بأدنى ما يستطيع من المشاركة في إنتاجية مجتمعه. [ ص: 49 ]

وإن من العدل والإنصاف أن لا يعمم مثل هـذا القول على كافة أبناء الأمة الإسلامية، بل إن من الواجب الإشادة بفئات من أبناء أمتنا في مختلف أقطارها آمنت بصدق وعملت بجد، وجاهدت بعزم، وأعطت بسخاء فجاء الإيمان والعمل، والجهاد والعطاء، على قدر ما وقر في القلوب والأفئدة من صدق، وجد، وعزم وسخاء.

والذي يعنينا تشخيصه وتحديده بدرجة أساسية هـنا هـو الخمول، والركود، والكسل الذي أصاب المجتمعات الإسلامية في مجموعها، فغدت تابعة بعد ان كانت متبوعة، وأصبح العقل البشري فيها لا يتفاعل مع الحياة من حوله.

- فلا عاد يهتم ببحثه، وإن اهتم ففي أضيق الحدود.

- ولا المفكر عاد يدلي بفكره، وإن فعل فبكلمات وتعابير غامضة.

فما الذي أخرج العقل المسلم من دائرة الاهتمام بأمته واعتقله في دائرة الاهتمام بالذات، وجعله يتصف باللامبالاة؟ هـل هـو قصور الإمكانات الذي نسمع بعضهم يتحدث عنها؟ أو هـو انعدام حرية التفكير التي تقيده عن الحركة؟ أو هـما معا؟ أو أن هـناك أسبابا أخرى؟!

أسئلة نتركها بلا إجابة، لأنها تحتاج إلى دراسة موضوعية، تظهر الحقائق، وتحدد الأسباب، لكن الذي لا نتركه، بل ونؤكده هـو أن غياب المسلم من على مسرح الأحداث جعله يعيش المحنة بكل أبعادها، وصدق أبو الاقتصاد الياباني (دوكو )

[1]

عندما عبر عن دور العقل فيما تشهده الإنسانية من تطور وتقدم بقوله: إن هـذه التطورات الهائلة تدل على عظمة العقل الإنساني، وأن [ ص: 50 ] المصدر الحقيقي لكل شيء، هـو هـذا الجهاز الأعجوبة الذي على كتفيك. إنه المخ الإنساني وإلى هـذا المخ الإنسان يجب ان نتجه بأفكارنا، فإذا عرفنا المخ الإنساني، وهو المصدر الذي لا ينفد للإبداع، فكل شيء بعد ذلك هـين تماما، وهذه هـي البداية لكل عمل عظيم، أو مجتمع يريد أن يكون عظيما.

ويؤكد " دوكو " على أهمية العقل الإنساني، وعظمة خالقه في كلمات قليلة ولكنها بليغة فيقول: [2]

عندما يولد الطفل يكون مخه مكونا من عشرة آلاف خلية، هـذه الخلايا منفصلة بعضها عن بعض، ولكن هـذه الخلايا لا تستطيع أن تعمل وحدها، لا بد أن تتشابك وأن تتماسك، بل إن هـذه الخلايا تشبه الأيدي عندما تتداخل أصابعها، وتشبه الكباري التي تربط الشواطئ.

والعلاقات المتشابكة، والترابط بين الخلايا، يشبه بالضبط الأسس الأولى لبناء أي مصنع، الآلات الحديدية، والقواعد الخرسانية، ولكن بعد ذلك يجب ان ننتقل من وضع الأساس الضروري إلى التشغيل، وكيفية استخدام الآلات وتطورها بعد ذلك، ولا يمكن أن نصل الى نتائج رائعة إذا كانت العقول الالكترونية رديئة.

التالي السابق


الخدمات العلمية