الفجوة التقنية- نحن والعالم المتطور
إنه من المفيد أن تتكون لدينا قناعة ذاتية، بأن الفجوة العلمية والتقنية، بيننا وبين الدول الصناعية، تزداد ولا تنقص، وتتسع ولا [ ص: 82 ] تقل، برغم الظاهر من مؤشرات تدل على الاستعداد للتقدم العلمي، في مجالات عديدة، أبرزها تعدد الجامعات، وتنوع مجالات الأبحاث، وازدياد أعداد الملتحقين، وبالتالي المتخرجين من الجامعات، والمعاهد العليا. والقناعة تلك يجب أن تهدف إلى إعطائنا دفعات قوية للعمل الجاد، دون أن توقعنا في شرك المتشائمين، الذين يظنون أن معدل اتساع الفجوة يتناسب مع حجمه، أي أنها تزداد بقانون أسي، لأن هـذا يؤثر على الحالة النفسية في مواجهتنا للتحدي الحضاري التقني.
وإذا كان الذين ينظرون للعلاقات الدولية بمنظار أسود، يعتقدون أن هـذه الفجوة تزداد اتساعا، بفعل فاعل من الدول الصناعية ، فإن الذين يؤمنون بالاعتماد على الذات ـ ونحن منهم ـ يشعرون أن الفجوة تزداد اتساعا لأسباب ذاتية محضة، ربما ساعدتها أسباب دولية، ذلك أن مشكلة التغيير العلمي والتقني، لا يمكن حلها أصلا إلا بجهود ذاتية، تستأنس بخبرة الذين سبقونا في هـذا المضمار. وعلى الذين يظنون أن الذي يملك التقنية سوف يمنحها للذين لا يملكونها، لقاء مال أو طاقة تباع، أن يدركوا الحقيقة المجردة، وهي أن التقنية لا تمنح لأمة غير آخذة بأسبابها، ولكنها تستنبت بذورا فتنمو في أمة قد أعدت لها أرضا، وتموت تحت السطح في أمة أهملت رعايتها: وتلك الحقيقة لا تعني تشكيكا في عطاء الدول الصناعية بقدر إقرارها لواقع معاصر ملموس.
- آن لنا أن نعترف: بأن أرباب التقنية الحديثة لن يسمحوا بتعليم دقائقها لآخرين.
- آن لنا أن نعي جيدا: أنه لن يمكننا الحصول على دقائق التقنية المعاصرة، حتى ولو دفعنا من أجلها المال الوفير.
- آن لنا أن نصدق أن طريقنا إلى التقنية الحديثة، لا بد أن يمر بمراحل علمية تشبه التطور الزمني في بلاد الغرب.
- آن لنا أن نؤمن، بأن ما يسمى بنقل التقنية من دولة متقدمة إلى دولة [ ص: 83 ] متأخرة، هـو فرية كبرى، صدقتها شعوب العالم الثالث وظنت معها أن التقنية سلعة تبيعها لها الأمم المتقدمة بقدر من المال.
- آن لنا أن نعتقد أن التقنية لا تنقل، ولكنها تستنبت بالجهد والمجاهدة، وتستوعب بالصبر والمثابرة، وتنمو بالعزيمة والإصرار، وقد آن الأوان لمن يعيش في وهم نقل التقنية أن يستيقظ على الحقيقة.
دعونا نزيد هـذا الأمر إيضاحا فنضرب مثلا بصناعة السيارات، المعروف أننا لا يمكن أن نصنع سيارة، من غير أن نتعلم كيف نصنع ترسا، من تروس نقل الحركة. صحيح أن الكتب العلمية، تمتلئ بالمعلومات النظرية، والنظريات العلمية عن كيفية صناعة ترس، ولكن لا بد أن يجيء المهندس، ليحول هـذه المعلومات إلى روتين، يقوم الفني بتبسيطه للعامل ليصنعه، وقد ينشأ عن ذلك مشاكل في التصنيع، فيرفعها المهندس لمجموعة التطوير إلى حلول علمية، لمادة الترس، ومعالجتها الحرارية، وطريقة تصنيعها، ويترجم المهندس ذلك كله في خطوات واضحة للفني، ليتولى الأخير تنفيذها بعد ذلك مع العمال.
إننا نصنع تروسا في بعض بلادنا العربية، ولكن الشكوى الدائمة منها هـي: أن المعاملة الحرارية لسطوحها رديئة جدا، إذا ما قورنت بالتروس الأوروبية، أي: أن هـناك دقائق في الصناعة الأوروبية، لا يمكن أن نحصل عليها، إلا إذا وفقنا إليها، عن طريق العلم والتجربة، فأوروبا لن تمنحنا السر التقني، للتركيبة المعدنية لمادة الترس، التي جعلته متفوقا، مهما أغدقنا عليها من المال.
إن عمليات التدريب، والتعليم، والتصنيع، عمليات ذاتية، تنمو ببطء أولا، ثم تصل بعد ذلك معها إلى نمو أسي، مما يجعل المراقب لهذه العمليات في أولها، يظن أن معدل التغيير الأولي البطيء، لن يغلق هـذه الفجوة أبدا، في حين لوجدت الأمة إلى أن تصل إلى تغيير المعدل، لوجدت [ ص: 84 ] نفسها تتقدم بسرعة باهرة، من شأنها أن تغلق هـذه الفجوة، في زمن قصير.
ويمكن لنا أن نضرب الأمثال بأمريكا ، التي لحقت بأوروبا في فترة قصيرة، عندما أكدت عزمها على التطور بتخطيط متقن، وعمل متصل، وإمكانات هـائلة، واليوم تلهث شعوب أوروبا وراء التقنية الأمريكية، وتقترب منها، ولا تكاد تلحقها. ويمكن أن نقول ذلك على التقنية الأمريكية تجاه بعض التقنيات اليابانية، ولك أن تتعجب، ولك أن تندهش.
وإذا كنا ما زلنا في أول الطريق، ومازال معدل تغير الفجوة العلمية والتقنية بطيئا، والفجوة تزداد مع الأيام، فعلينا أن ندرك، أن ذلك ليس لتقهقرنا، بل للتقدم السريع الذي يحرزه العالم الصناعي، وذلك كله مفهوم في ظل ما قدمناه، لأننا نؤمن أننا سوف نصل يوما ما إلى نقطة التحول إلى المعدل الأسرع وحينئذ تبدأ الفجوة في الانغلاق.
ولكن علينا أن نتعرف على تجارب الأمم من قبلنا لنتعلم منها، كيف استطاعت أن تتقدم علميا، وتقنيا وتضيق الفجوة العلمية والتقنية، والتي تفصلنا عن عالم الغد.