تقديم
بقلم عمر عبيد حسنة
الحمد لله الذي شرع الهجرة وجعلها مجاهدة وجهادا لتغيير الواقع، وتحقيق الهدف، وتجاوز حالة الضعف والركود، والاستنقاع الحضاري، والركون إلى الذين ظلموا، فهي وسيلة لمراغمة الأعداء والمتربصين بالخيـر وأهله، المتحكمين بالعباد والبلاد، وتفـويت أغـراضهم؛ كما جعلها سبيلا للخلاص من حالة الضعف والعطالة، واسترداد الفاعلية، لمعاودة الإقلاع من جديد،
فقال تعالى: ( الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ) (النساء:97) .
والصـلاة والسلام على الرسول المهاجر، الذي كانت هـجرته وما تحقق بها ولها من النتائج الإيجابية ومراغمة الأعداء أنموذجا يحتذى، الذي أذن لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة لكسر الحصار وتجاوز الضعف والتحكم من الكافرين.. واختيار الحبشة كمهجر أول جاء لعدة اعتبارات لا مجال لاستقصائها، لكن كان في مقدمتها أن فيها ملكا لا يظلم الناس عنده، قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه عندما طلب إليهم [ ص: 5 ] الهجرة إليها: ( إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه ) ، فكان من نتائجها -إلى جانب حماية بعض أجنة الإسلام الأولى- أن أسلم النجاشي ، ملك الحبشة، وفاضت عيناه من الدمع عندما سمع شيئا من القرآن، ونزل في إسلامه قرآن خالد مجرد عن حدود الزمان والمكان والإنسان، ما يزال يتلى ليؤكد في كل الأحوال المعاني الكبيرة والأهداف الممكنة، التي يمكن أن تتحقق من الهجرة في كل زمان ومكان، إضافة إلى ما فيها من السعة في الرزق والأمن ومراغمة العدو وتوفير إمكانية الانتصار عليه.
ولعل هـذا المعنى، أو هـذه المعاني جميعا، تجلت وتجسدت بكل أبعادها في هـجرة الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه إلى المدينة المنورة ، بعد ثلاثة عشر عاما من الصبر والتحمل والمعاناة والمقاطعة، بعد أن استعصت أرض مكة فـي تلك الظروف والأحوال، لأمر يريده الله، عن الاستجابة وقبول الخير العام، على الرغم من أنها تاريخيا مكان البيت الأول للتوحيد، الذي وضع للناس،
قال تعالى: ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ) (آل عمران:96-97) ، [ ص: 6 ] وقال: ( وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ) (الحج:26) ،
وموطن ومهجر أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام : ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ) (إبراهيم:37) .
ومع ذلك كانت الهجرة إلى المدينة، معقل يهود ومحل سيطرتهم وتحكمهم، فرجا ومخرجا، فمن ذا الذي كان يظن أن المهجر المدينة، وليس الموطن مكة، يمكن أن يكون مكان الانطلاق للدولة والأمة والمجتمع الإسلامي وحمل الخير إلى مكة نفسها والعالم، إضافة إلـى ما حصل بسبب الهجرة من سعة الرزق ونعمة الأمن وإرغام أنوف كفار مكة الذين آذوا المسلمين أذى شديدا.
لذلك اعتبرت الهجرة في بعض أحوالها وأزمانها جهادا، بل من أعلى أنواع الجهاد، واعتبر التقاعس عنها سقوطا في حالة التربص والانتظار والخذلان وفقدان الإرادة ومدعاة لسخط الله ومجلبة للعذاب،
قال تعالى: ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ) (التوبة:24) . [ ص: 7 ] والناظر في الهجرة بكل أبعادها الشرعية وتطبيقاتها العملية في عصر النبوة وخير القرون، يبصر أنها ليست ظاهرة سلبية هـروبية انسحابية انهزامية وتول عن الزحف وخروج من المعركة، وإنما هـي حركة إيجابية قاصدة، وخطة محكمة، وعمل محكوم بنية واضحة الأهداف، وهي أشبه ما تكون بتحرف لقتال، أو تحيز إلى فئة، للخروج من حالة الذل والعطالة، لاكتساب الفاعلية وتحقيق كسب أكبر للقضية الإسلامية.
من هـنا نقول: إن الأعمال تشرف بشرف مقاصدها، وإخلاص أهلها، وقدرتهم على تحقيق تلك المقاصد بصواب التخطيط لها، وإبصار تداعياتها، وتقدير عواقبها؛ لذلك ( قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ...فمن كانت هـجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكـحها فـهجرته إلـى ما هـاجر إليه ) (أخرجه البخاري ) ، وهو الحديث الذي تبدأ به معظم كتب العلم والثقافة عندنا.. فالنية، إلى جانب ما تحمله من ركيزة الإخلاص والتنقية والاستعداد والتطهر النفسي من كل الدوافع لغير الله، هـي إبصار كامل للحركة، وأهدافها، وتداعياتها، ومتطلباتها، وأهمية تصويب وسائلها لتحقق الهدف وتثبيت الأجر.
لذلك؛ فالمتأمل في أبعاد نية الرسول صلى الله عليه وسلم الهجرة إلى المدينة المنورة، وما سبقها من إعداد واستعداد، من بيعـة العقبة الأولـى والثانية، [ ص: 8 ] وما أعد لها من الوسائل والخطط والاحتياطات في كل جزئية من حركتها يكاد يتوهم وكأن الذي يتخذ كل هـذا التحوط ويستوفي كل هـذه الأسباب لا علاقة له بالسماء؛ والمتأمل فيما كان من التوكل على الله والاطمئنان لنصره والالتجاء إليه في أحلك الظروف يكاد يتوهم وكأن صاحبها لا صلة له بالأرض وتعاطي الأسباب؛ وهذا هـو الفهم الإسلامي السليم.
فالهجرة الإسلامية أنموذج للإيجابية والإحياء واسترداد الفاعلية والمجاهدة وحسن التعامل مع سنة التدافع البشري، وقبل ذلك وبعده إلغاء للثنائية التي كانت سببا في تمزيق الإنسان وتشطير شخصيته بين تعاطي الأسباب والتوكل على الله؛ ذلك أن تعاطي الأسباب في الرؤية الإسلامية من لوازم التوكل، والتوكل من لوازم تفعيل الأسباب وتجاوز حالات القلق واليأس ومحاولات الإحباط والتضييق لأرض الله الواسعة، والانحباس ضمن دوائر يزيدية محكمة، نرسمها بأيدينا وندعي بأن الشيطان حبسنا فيها، وما هـي في الحقيقة إلا من صنع الإنسان، وتسويغ وتبرير لحالة الذل والاستسلام والهوان.
وللهجرة والهجر بعد تربوي عظيم لو أمكن إدراكه واستخدامه ضمن سياقه، والتزم به ضمن المساحة المشروعة والمؤثرة، وهو توظيف الهجرة كعامل فاعل من عوامل الضبط الاجتماعي، وهجر [ ص: 9 ] أصحاب الفجور والمعاصي والمقصرين، لحملهم على العود إلى طريق الاستقامة والصلاح والفاعلية على أن يكون هـذا الهجر مدروسا وبالنسب المحددة.
ذلك أن هـجر أصحاب المعاصي من أقوى الأسباب العملية للضبط الاجتماعي.
ولعل التأمل في قصة الثلاثة الذين تخلفوا، من الصحابة رضي الله عنهم ، عن الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، والتي أنزل الله سبحانه وتعالى فيها قرآنا يتلى على الزمن،
فقال تعالى: ( وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم ) (التوبة: 118) ،
وما كان من تعامل المجتمع الإسلامي معهم، وهجرهم حتى من قبل زوجاتهم وأقاربهم، والتعرف إلى أسباب نزول الآية بدقة - فأسباب النـزول تشكل وسائل الإيضاح المعينة على كيفية تنـزيل النص على الواقع، وكل واقع مماثل، في كل زمان ومكان، كما تلقي الضوء على كيفية توظيف الهجرة بالأقدار المحددة والمشروعة- يمكن أن يحقق الكثير من الضبط الاجتماعي والعطاء التربوي لبناء السلوك البشري القويم بالنسبة لمن [ ص: 10 ] وقع في الخطأ والتقصير، كما يحقق العبرة والعظة والتقوى للمجتمع المسلم بشكل عام، أفرادا وجماعات.
وبعد:
فهذا كتاب الأمة التاسع والثمانون: « البعد الحضاري لهجرة الكفاءات» لمجموعة من الباحثين، في سلسلة «كتاب الأمة»، الذي يصدر عن مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة في إعادة تشكيل العقل المسلم في ضوء مرجعية معرفة الوحي، في الكتاب والسنة وتطبيقات مرحلة السيرة النبوية، التي تجلت فيها هـذه المعرفة ونضحت عطاءها في شعب الحياة جميعا، وتجسدت في حياة الناس، في الفكر والدعوة والحركة، كمرحلة اقتداء معصومة برعاية النبوة وتسديد وتأييد الوحي السماوي، إضافة إلى المقاربة مع ما تمتع به خير القرون من الخصائص والصفات المهمة في ترشيد المسلم المعاصر.
إن التحقق بامتلاك الأدوات المناسبة لاكتشاف مواطن الخلل التي أدت بالأمة المسلمة، والفرد المسلم قبل ذلك، إلى هـذا التراجع والتقهقر والتخلف على غاية من الأهمية، وهو شرط لا مندوحة عنه في محاولتنا الخروج من غرف وحالات الانتظار، وما تورثه من تواكل وذل وعجز وخذلان، إلى أرض الله الواسعة، وإعادة التقويم للإمكانات [ ص: 11 ] والاستطاعات، والتفكير بكيفيات توظيفها، والخروج بها إلى الموقع المجدي، وإحياء وإشاعة ثقافة السنن والقوانين التي تحكم حركة الحياة والأحياء، واكتشافها، وحسن التعامل معها، ومدافعة قدر بقدر.
إن عدم توفر الأدوات، بسبب غياب التخصصات العلمية بشعب المعرفة جميعا، أدى إلى الكثير من سوء التقدير للأمور وكيفية التعامل معها، ودفع إلى الكثير من الهياج والغوغائية ودفقات الحماس، أو ومضات الحماس، والتحرك الأعشى تحت رايات عمـية، التبس أمرها وقرئت بأبجديات مغلوطة، فكانت سببا في هـدر الإمكانات وبذل التضحيات الكبيرة فـي المعارك الخطأ، التي ما نزال نستدعى إليها لتصفية الحسابات بدمائنا، دون أن يكون لنا أي نصيب -إلا أن نحاسب على نوايانا- هـذا إضافة إلى ما يكون بعدها من التجريم والمطاردة والملاحقة وانكشاف المواقع؛ وقد يستوي في ذلك المهاجر من الوطن والمهاجر في الوطن.
وفي تقديرنا، أننا ما نزال نمارس الكثير من الهجرة الخطأ (بالمفهوم العام للهجرة) في حياتنا وحركتنا، وتوظيف إمكاناتنا، وتوجيه طاقتنا، سواء كان ذلك في الوطن، بالمفهوم الجغرافي، أو في الهجرة إلى خارج الوطن (والدنيا كلها وطن للمسلم) ، ومع ذلك نتطلع إلى نتائج الهجرة وثوابها. [ ص: 12 ]
إن التعرف على السنن التي تحكم الحياة والأحياء -بحيث تأتي الهجرة حركة منسلكة ضمن منظومتها- لا يمكن أن تتحقق ما لم تتم النفرة أو الهجرة لاستكمال شعب المعرفة جميعا وتوفير الاختصاصات العلمية والتجارب العملية التي تتطلبها الحياة؛ لأن هـذه الاختصاصات هـي بمثابة الحواس المتنوعة المطلوبة لتشكيل العقل المسلم المعاصر.
فكما أن الذوق واللمس والشم والسمع والبصر كلها حواس ونوافذ للعقل يطل منها على العالم الخارجي، ومصادر للمعرفة تمكن العقل من بناء القرار والتزام السلوك في الحركة وإبصار الأهداف والهجرة إليها، فكذلك الحال بالنسبة إلى الاختصاصات في شعب المعرفة المختلفة، وأهميتها بالنسبة للتعامل مع الحياة، والارتحال المبصر إلى أنشطتها، واستكمال وظائف المجتمع ومتطلباته، وإحياء فروض الكفاية، بعيدا عن الارتجال والارتحال الغلط، أو الهجرات العمـية التي تمارس في كثير من جوانب الحياة الإسلامية اليوم.
ولعل الأمر المفزع والمنذر بسوء النتائج والمزيد من التقهقر والتخلف، أن الكثير ممن أفنوا أعمارهم في تحصيل بعض تلك الاختصاصات العلمية والمعرفية وتأهلوا وهاجروا إليها ليكونوا في خدمة أمتهم ومجتمعاتهم الإسلامية في استيفاء وظائف المجتمع، وتحقيق الاكتفاء الذاتي، والحيلولة دون هـجرة (الآخر) إلينا لملء الفراغات، وما يحمله [ ص: 13 ] ذلك (الآخر) من التأثير الثقافي والفتن العقدية والسلوك المنحرف، إذا بهم يهجرون اختصاصاتهم، ويعجزون عن وضعها في خدمة عقيدتهم وأمتهم، وحسن توظيفها منابر فاعلة مؤثرة في المجتمع، يهجرونها إلى منابر الوعظ والإرشاد وصناعة المشيخة، ليكون الناس في خدمتهم، ويقدمون على أعمال لا يمتلكون أبسط أدواتها ولا مقوماتها.
وقد يدلل هـؤلاء بذلك على أن المجتمع المسلم هـو مجتمع فوضى واضطراب وعبث، وأن الإسلام محصور بمساحات جغرافية وثقافية محدودة، ولا مانع عند الكثير منهم أن يدعو من على أعلى المنابر أن الإسلام دين ودنيا، إيمان وعلم، أخلاق وتربية، شريعة وعقيدة، مسجد ومعمل، جامع وجامعة... وكأن هـذا الكلام أصبح مادة للخطب والاستهلاك الجماهيري وليس للتمثل والالتزام... وهكذا يشيع فينا القول السائر: «اقرأ تفرح، جرب تحزن»... ويستمر الخلل في الهجرات في مراحل التخلف، وفهم التخلف للنصوص، وكأن حديث الهجرة إنما جاء لغير المسلمين (!) فحديث الهجرة وغيره من الأحاديث والآيات لمن يفيد منها ويحسن التعامل معها، وليس تميمة تعلق على المنابر، وبعيدا عن واقع الأمة ومتطلباتها.
إن العجز عن فهم آفاق الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، والعجز عن تمثلها وتجسيدها في كل المواقع، وتقديم الأنموذج الذي يثير الاقتداء [ ص: 14 ] في جميع أنشطة الحياة وتخصصاتها، وامتلاك القدرة على توليد رؤى إسلامية متميزة في المجالات المتعددة، والاستمرار في محاصرة أنفسنا بالضخ الكلامي والتحشيد الحماسي والوعظ والخطب والإرشاد، بعيدا عن تنـزيل ذلك في ميادين الحياة المختلفة، لتتحول الحياة والتخصصات إلى حياة إسلامية متميزة تثير الاقتداء، بحيث ندعو الناس بسلوكنا وتصرفنا وتخصصنا، ونحسن جعل العمل والتخصص في خدمة الدعوة، فسوف ينتهي بنا إلى الخلل في معادلة الهجرة الشرعية.
إن الخلل في إدراك ثقافة الهجرة وفقهها -إن صح التعبير- سوف يؤدي إلى نوع من الحركة العبث بحيث تهاجر الطاقات إلى غير مواقعها ومواطنها، سواء في ذلك الهجرة في الوطن أو الهجرة إلى خارج الوطن؛ لأن ثقافة الهجرة وإدراك أبعادها ما تزال غير نضيجة في رؤيتنا للحياة، وإمكانية القدرة على التوليد والإنبات في كل الظروف والأحوال والمواقع.
فالهجرة في أبسط مفهوماتها هـي إخلاص القلب، وعزيمته على فعل مستقبلي، برؤية واضحة المعالم وفقه كامل للتداعيات: «...فمن كانت هـجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هـجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هـاجر إليه» (أخرجه البخاري) . [ ص: 15 ]
نعود إلى القول: إن الهجرة حركة إيجابية، وخطة استراتيجية، ورؤية مستقبلية، واختيار للموقع الفاعل، وتحول إلى الفعل المجدي، وتجاوز لحالات الحصار والعطالة والعقم؛ فهي حركة دعوية، وعمل جهادي قد يرقى إلى مستوى التضحية بالروابـط الأسرية أو القبلية أو الوطنية، ولو بشكل مؤقت؛ وهي تحرف لقتال، وتحيز إلى فئة، وليست هـروبا من المعركة وتول عن الزحف؛ لأن فيها مراغمة للأعداء، وتعال عن جميع الروابط القسرية، والارتقاء إلى الروابط الاختيارية، التي تتحقق بها إنسانية الإنسان وكرامته وانعتاقه من العبودية لغير الله.
والمسلم بشكل خاص لا يعاني من أزمة الاغتراب؛ لأنه يعتقد أن الأرض كلها لله، يورثها من يشاء من عباده،
وأن من السنن الماضية في هـذه الحياة ما ورد في قوله تعالى: ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) (الأنبياء:105) ،
فالوراثة الحضارية والأحقية في الأرض منوطة بامتلاك صفات وخصائص ومؤهلات الصلاح، إضافة إلى أن المسلم يحمل رسالة ذات خطاب عالمي، رسالته عالمية، وأن من مسئوليته إيصال هـذه الرسالة إلى أنحاء الأرض كافة، إيصالا للخير للعالمين،
استجابة لقوله تعالى: ( وما أرسلنـاك إلا رحمة للعـالمين ) (الأنبياء:107) . [ ص: 16 ]
فالهجرة هـي نوع من الامتداد بالرسالة الإسلامية بغية إيصالها للناس جميعا، استجابة لخبر الصادق الصدوق صلى الله عليه وسلم : لا تقوم الساعة حتى يصل الإسلام إلى كل بيت من حجر ووبر، بعز عزيز أو بذل ذليل: ( ليبلغن هـذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هـذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام وذلا يذل الله به الكفر ) . (أخرجه أحمد ) ، وأن هـذا الوصول سوف لا يتحقق إلا بعزمات البشر وفعلهم وانتقالهم صوب (الآخر) لإيصال الخير إليه.
يضاف إلى ذلك أن الهجرة هـي تعال عن الواقع، وتجاوز للظروف، وفك للقيد، وخروج على حالة الاستضعاف والذل، والاستضعاف الذي يمارسه الطغاة، لذلك اعتبر المستكين للذل، المستسلم للظلم، ظالما لنفسه، فاقدا للحيلة والفاعلية؛ لأن أرض الله واسعة، والهجرة هـي المخرج، لأنها تحول من العجز والتخاذل إلى الفاعلية والعطاء وحرية العقيدة والعبادة،
قال تعالى: ( يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون ) (العنكبوت:56) . [ ص: 17 ]
وهذه المعاني، التي أشرنا إلى بعضها، ليست نظرية أو مجردة عن الواقع، فالتاريخ، وهو المختبر الإنساني الحقيقي لفعل السنن الاجتماعية والتدليل على اطرادها، يشهد ويؤكد أن الهجرة حققت نشر الرسالة، وتحصيل القوة، ومراغمة الأعداء، والخلوص من حالة الركود والاستنقاع، والخروج من حالة الاستضعاف والضيم، وأن جيل الصحابة انطلق في الأرض بمختلف تضاريسها ومناخاتها لنشر الإسلام وإيصاله للناس، حتى أننا لنرى اليوم أن أكثر من أربعة أخماس العالم الإسلامي إنما تحقق له الإسـلام بوساطة الهجرات، بل إن بعـض المناطق فـي إفريقيا لم يستقر الإسلام فيها ويستمر فتحا، وإنما كان لا بد لاستقراره واستمراره من الهجرة والإقامة والتزاوج، وبذلك استقر واستمر، وما الواقع الإسلامي على خارطة العالم اليوم إلا مصداق ذلك.
وتبقى مرحلة السيرة، فترة معصومة في تاريخنا، تشكل مصدرا للتشريع والثقافة والخلود، الذي يعني التجرد عن حدود الزمان والمكان والإنسان، تبقى دليلا خالدا على أن الهجرة إلى المدينة، الأنموذج المحتذى، كانت إيذانا بقيام الدولة وتشكيل الأمة وبناء المجتمع، وكانت أعلى أنواع الجهاد، وأن الهجرة إلى الحبشة كانت [ ص: 18 ] عبرة وسببا في إيمان ملكها حتى فاضت عيناه من الدمع عندما سمـع ما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم لما عرف من الحق.. ويبقى ذلك قرآنا يتلى، وبصيرة للمسلم، وعبرة للحاضر والمستقبل معا.
وإذا كانت الهجرة جهادا، بل قد تكون -كما أسلفنا- من أعلى أنواع الجهاد، وأن القصور عنها خروج عن الطاعة ومدعاة لغضب الله ووعيده وإنزال عقابه: ( فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ) (التوبة:24) ،
وأنها معركة بكل معنى الكلمة، تقتضي امتلاك شوكتها، والتخطيط الكامل لها من التحرف لقتال، أو التحيز إلى فئة، وأن القعود عنها عند الحاجة إليها أشبه بالتولي يوم الزحف، فإن التفكير والتخطيط والاختيار والموازنة، واتخاذ الأسباب، ودراسة الظروف، وتقدير التداعيات، واختيار الزمان والمكان، وإبصار البعد المستقبلي كاملا، يعتبر من مقتضيات الهجرة؛ لأنها ليست حركة انتقال عشـوائي، وإنما هـي أمر شرعي تكليفي: ( ... فمن كانت هـجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هـاجر إليه ) (أخرجه البخاري ) .
وما حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة ونهيه عن الهجرة، والدعوة إلى البقاء أو التثبت فـي الأرض، والتحمل، والمجـاهدة، [ ص: 19 ] إلا دليلا على أن الهجرة بظروفها وأحكامها رؤية رسالية مبصرة، ( يقول صلى الله عليه وسلم : لا هـجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ) (أخرجه البخاري ) .. فكثيرة هـي الهجرات المعاصرة، التي جاءت في الزمان والمكان الخطأ، حيث تم ترك الأرض وإخلاؤها للعدو، فكانت من الكوارث؛ وكثيرة هـي الهجرات التي حققت الإنجاز والتجاوز لحالة الركود والاستضعاف وكانت سببا في السعة وإرغام العدو الذي كان يمارس الظلم:
( ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ) (النساء:100) .
من هـنا نقول: لا بد من إعادة النظر في أحكام الهجرة، أو بتعبير أدق: في فقه الهجرة، وطبيعة الظروف المحـيطة، وطبيعة الظـلم، كما لا بد من إعادة النظر فيما يسمى «الفقه السياسي التاريخي»، الذي كان يشكل نقطة الارتكاز للهجرة، بشكل خاص، وتقسيم العالم إلى دار كفر ودار إسلام ، كأمر جغرافي واقعي، وخطورة الاستمرار في حفظ الأحكام الفقهية ونقلها دون التبصر بمحالها وظروفها وشروط تنـزيلها، والذي من مقتضياته أن ترك دار الإسلام والهجرة إلى دار الكفر والعيش فيها لا يجوز (!) فأين دار الإسلام بكل شروطها المطلوبة لتحدد على أساسها دار الكفر؟ وأين [ ص: 20 ] العدل والحرية المتميزة وتطبيق الأحكام الشرعية في كثير من بلاد المسلمين لنطلق الأحكام بعدم جواز الهجرة؟
إن الإنسان المسلم كثيرا ما يتمتع بأقدار من الحرية والحق الإنساني والقدرة على تحصيل العلم والمعرفة، وتتاح له مجالات الحوار الفكري والدعوة إلى الله في ما يسمى (دار الكفر) بما لا يتمتع بـه في ما يسمونه (دار الإسلام) : ( إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم أحد عنده، فألحقوا ببلاده... ) . وهذا ليس حدثا تاريخيا انتهى في زمانه بل سنة هـجرة ممتدة، أو قانون هـجرة ممتد، خالد خلود الإسلام ورسالته، فقد يستطيع الإنسان أن يقول في الشارع أحيانا فيما يسمى دار الكفر ما لا يستطيع قول بعضه في بعض بلاد المسلمين اليوم.
لذلك نقول: لا بد من إعادة النظر في فقه الهجرة، والنظر في أبعاد الحالة من كل الوجوه.. ولو افترضنا أن هـذه الأحكام صماء جامدة فاقدة للحكمة والمرونة وشرائط التنـزيل، فكيف يصل الإسلام إلى (الآخر) ويستقر في تلك البلاد ويستمر عطاؤه؟ هـذا إضافة إلى أن الأمر في عصر القرية الإعلامية لم تعد تحكمه الجغرافيا، بكل معنى الكلمة، فلم يعد هـناك دار متمحضة للكفر وإنما أصبح الوجود الإسلامي قائما ومتميزا في أكثر بلدان الدنيا، وأصبح له مراكز ومؤسسات، ولم يعد طارئا أو عارضا وإنما مستقرا ومستمرا. [ ص: 21 ]
وهذه القضية تقتضي تفكيرا في كيفية التعامل مع الظروف والملابسات، واختيار وسائل الدعوة المناسبة (للآخر) الذي اعتبره بعض الفقهاء يمثل أمة الدعوة، بينما يمثل المسلمون أمة الإجابة، بعيدا عن التقسيمات الجغرافية الأرضية والتحول إلى الجغرافيا الثقافية، إن صح التعبير. وليس من قبيل التكرار أن نؤكد أن المسلم لا يعاني من عقدة الاغتراب؛ لأنه يعتقد أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، وأن وطن المسلم عقيدته، وجنسيته ثقافته، وهويته قيمه وأفكاره، وأن الإسلام ليس حكرا على أرض أو قوم أو لون أو جنس، وبذلك فإن المسلم الملتزم بقيم الإسلام وأخلاقه وتسامحه وإنسانيته لا يشكل استفزازا في مهجره، لونيا أو عنصريا أو قوميا، بل يمتلك الكثير من أدوات التواصل والانسجام والاندماج والوسائل المقنعة في دعوة (الآخر) ، الذي لا يلبث أن يصبح من أمة الإسلام ويساهم بمستلزمات أخوة الإيمان. من هـنا نقول: إن المسلمين في المهجر ليسـوا جسـما غريـبا أو جزرا منفصلة؛ لأن الكثير من أبناء البلاد الأصليين اعتنقوا الإسلام؛ ولأن الإسلام يمثل سقفا عالميا يظل الجميع، ومشتركا إنسانيا يستوعب عطاء الجميع، وليس عقيدة مقفلة متعصبة على [ ص: 22 ] جنس أو لون أو فئة أو طائفة أو قوم.. لذلك نجد الكثير من المقدمات الفكرية الخاطئة تؤدي إلى نتائج وأحكام خاطئة.
فالإسلام لا يقابل الغرب، ففي الغرب إسلام وفي الغربيين مسلمون، والإسلام لا يقابل الرجل الأبيض أو الأسود أو المرأة أو الأغنياء أو الفقراء، ففي الإسلام الأبيض والأسود والمرأة والرجل والغني والفقير، والإسلام ليس حكرا على المهاجرين من دون الآخرين، وإنما هـو مجتمع مفتوح للجميع.
من هـنا ندرك أهمية البعد الرسالي للهجرة، وندرك مدى إمكانية التكيف والقدرة على إجهاض النـزعات العنصرية المتطرفة والمغلقة ضد الإسلام والمسلمين، فالهجرة من أهم وسائل الدعوة والحركة والنصرة والعطاء وإيصال هـذا الدين إلى كل بيت حجر أو وبر ليعود أهله مسلمين، لذلك فالهجرة جهاد بلا شوكة، بل هـي من أعلى أنواع الجهاد، فإذا كانت ساحة الجهاد العسكري ميدان معركة محدودة بأرض وعدو وزمن، فإن ميدان الجهاد بالهجرة هـو الحياة بكل آفاقها وأمدائها.
والهجرة محكومـة بمصلحة الدعوة إلـى الله وحمل الخـير للعالم، فهي في مرحلة لا بد أن تعلو على جميع روابط النسب والأرض والعلاقات الاجتماعية واللذائذ الدنيوية وحظوظ النفس، [ ص: 23 ] وأن عدم الاستجابة لها محل لسخط الله وتهديده ووعيده،
قال تعالى: ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ) (التوبة:24) ،
لكنها في حالة أخرى، بعد الفتح ، منهي عنها، وممارستها مخالفة لأمر الله؛ لأن مصلحة الدعوة هـي في التثبت في الأرض والدفاع عنها وعدم إخلائها للعدو، وهي عندي أشبه بالمعركة ذات الشوكة التي يحكمها قوله تعالى:
( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ) (الأنفال:15-16) .
فأحكام الهجرة، كما أسلفنا، ليست جامدة مغلقة، وإنما هـي محكومة بالمصلحة الإسلامية، محكومة بعلتها، ومحكومة بتوافر الشروط لتنـزيلها على الواقع. لذلك فتعميم الأحكام على كل الحالات هـو نوع من العامية الذي يقود إلى عمى الألوان وعدم التمييز. فقد تكون فرضا مأمورا به، وقد تكون أمرا منهيا عنه، ويبقى السير في الأرض واستيعاب العالم وتجاربه وتاريخه وحاضره [ ص: 24 ] وفهم واقعه سبيلا لتحقيق عالمية الدعوة، وتوصيل الخير إلى جنبات الأرض، لذلك فالنظر لموضوع الهجرة من خلال البعد السلبي الذي يعني الهروب والانسحاب والانجذاب (للآخر) وجعل ثرواتنا وطاقتنا في خدمته وخدمة حضارته، هـو نظر كليل ساذج لظاهرة الهجرة، وخروج بها عن أبعادها ومقاصدها.
ونحن هـنا لا نقلل من خطورة الظواهر السلبية للهجرة والأسباب التي أدت إلى طرد الكفاءات من عالم المسلمين، من الاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي، وانعدام الحرية وتكافؤ الفرص، وتقديم أهل الثقة وطرد أهل الخبرة، والنـزف الكبير العشوائي وغير المخطط أو المبرمج، الذي ترتب على الهجرات إلى (الآخر) ، وكيف استطاع (الآخر) الإفادة منها، لكننا نقول: إن هـذه الهجرات، أو هـذا الرصيد من السواعد والكفاءات، أو الأدمغة والتخصصات العلمية، بقـدر ما يشكل ظواهر سلبية أفرزتها حالات التخلف والاستبداد السياسي في العالم الإسلامي بقدر ما يشكل رصيدا حضاريا، ومخزونا علميا تخصصيا، وإمكانا ثقافيا، وثقلا بشريا، ووزنا سياسيا، لو أعاد قراءة ذاته وأدرك رسالته الإنسانية وقدرتها على العطاء، واستلهم قيمه وتجربته التاريخية، لتحول إلى مواقع قوة وتأثير وعطاء لموطنه ولمهاجره على حد سواء. [ ص: 25 ]
وفي ضوء ذلك وبعض تداعياته:
أليس من الممكن اليوم اعتبار خروج بعض الأصوات الجديدة في أوروبا عامة لنصرة القضايا العربية والإسلامية العادلة، والتفهم الصحيح للمشكلة الفلسطينية والمقاومة المشروعة، هـي بعض بشائر معطيات الوجود العربي الإسلامي في الغرب؟
فالهجرة تبقى محكومة في نهاية المطاف بثقافة الإنسان وفاعليته واستشعاره بمسئوليته وتحقيق هـدفه، فالإنسان «الكل» هـو وسيلة استهلاك (للآخر) ، والإنسان «العدل» هـو وسيلة إنتاج قادرة على الإنبات في كل المواقع، سواء هـاجر من الوطن أو هـاجر داخل الوطن، ( والمهاجر من هـجر ما نهى الله عنه. )
إن هـذا الرصيد الثقافي والحضاري للمهاجرين، وما تحقق له من الانتشار بين أبناء المهجر أنفسهم، والاستقرار والاستمرار، مؤهل لتوهين عصا الظلم، منسأة الاستبداد، التي يتكئ عليها الطغاة، ومعالجة أزمة الحضارة بقيم الإسلام، دين الإنسان.. فالهجرة سعة وتحرر وتجاوز لحالة الضعف والذل، وسير في الأرض، واستيعاب للعالم والسنن الاجتماعية، والتعرف على كيفية توصيل الخير إلى الآخرين، ولعل من أبرز أهدافها أو نتائجها هـي مراغمة الأعداء [ ص: 26 ] المتربصين بالأمة وقيمها ونشر الخير في العالم، وإيقاف عمليات الإكراه والإجبار وإهدار كرامة الإنسان وإلغاء إنسانيته تحت شعار:
( والفتنة أشد من القتل ) (البقرة:191) ،
لأنه لا قيمة للإنسان بلا خيار.. فهل يكون المهاجر رسولا لهذه القيم؟
ونقول: إنه لمن المـؤسف حقا -ولعل هـذا من ثمرات التخلف أو القراءة المتخلفة للظواهر الاجتـماعية- أن لا نرى من الهجرة إلا الوجه السلبي، ونرصد ظواهرها، ونتألم لآثارها على بلادها، دون أن نبصر أسبابها الحقيقية، وأبعادها الإيجابية، ونتائجها الممكنة، ورسالتها الحضارية، ومردودها على بلدها ومهجرها، وكيفية تحويلها من نقمة عند من لا يرى إلا الوجه المظلم إلى نعمة، بما تمتلك من رصيد علمي ومعرفي وتخصصي وخبراتي، ذلك أن التحركات البشرية وموجات الهجرة من سنن الاجتماع.
إن فقه الهجرة وكيفية تنـزيل أحكامها على واقع الناس، والوعي بظروفها وتداعياتها، ووضوح البعد الرسالي للمهاجر في وطنه وفي بلد المهجر على سواء، ليس بالأمر الهين، وقرارها ليس بالأمر السهل. وقد أتينا على أنموذجين من السيرة، في الأول توعد ووعيد للمتخلفين عن الهجرة، واعتبار ذلك مدعاة لسخط الله وعذابه: ( تربصوا حتى يأتي الله بأمره ) (التوبة:24) ، [ ص: 27 ] لأن في الهجرة جهادا ونصرة وسعة ومراغمة للعدو، وفي الثاني نهي عن الهجرة، واعتبار البقاء والمجاهدة والبناء والمدافعة جهاد: ( فلا هـجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ) ، وفي كلا الأمرين كان التأكيد على النية، التي تمثل البعد الرسالي، واضحا وحائلا دون الحركة العشوائية أو ذات المنفعة القريبة.
ذلك أنه في كثير من الأحيان قد تكون الهجرة هـي نوع من الجذب والاستدعاء من (الآخر) ومحاولة لاحتياز جميع الخبرات والكفاءات في إطار النـزوع صوب التفوق والتحكم في لعبة الصراع الحضاري، وبذلك تفتح المجالات وتمنح العطاءات الكبيرة والحقوق الكثيرة، وتقتصر على اختيار المهاجرين من أصحاب المواهب والكفاءات والاختصاصات والشهادات العليا المتميزة وحرمان بلادهم منهم، التي أنفقت عليهم الملايين الكثيرة، لتبقى بلادهم متخلفة وفي إطار التسول والتلقي الحضاري والثقافي.
وقد تكون الإشكالية هـنا مركبة ومعقدة من بعض الوجوه، ذلك أن اليد التي تستدعي وتجذب وتتيح الفرص وتمنح الحرية والعطاء، وتراعي حقوق الإنسان في بلادها، هـي اليد نفسها التي تساهم بقيام أنظمة الاستبداد السياسي، التي تكرس التخلف بطبيعتها، وتخنق [ ص: 28 ] الحريات، وتعدم تكافؤ الفرص، وتهدر كرامة الإنسان، وتطارد الكفاءات، وتتوهم أنها تشكل خطورة على هـذا النوع من الأنظمة الشمولية الإرهابية، فلا يبقى مناص من الهجرة، سواء داخل الوطن أو من الوطن صوب (الآخر) .
وقد يكون من المفيد ونحن في إطار الحديث عن الخلل في هـذه المعادلة الحضارية وغياب البعد الرسالي للهجرات، أن نأتي على بعض الإحصاءات لنرى هـول النـزف وحجم الخسارة وسبب التخلف، والإمكان الحضاري والثقافي لهذه الكفاءات المهاجرة؛ فالعلماء والخبراء والكفاءات هـم خلاصة رحلة التفوق والمنافسة وممارسة الغلبة الحضارية وما يبذل فيها من الجهد والوقت والمال.
ففي عام 1228 كان المطلع على حالة الناس في أوربا يرى مشهدا غريبا، حيث شكل هـذا العام منعطفا تاريخيا إلى حد بعيد.
فقد حزم معظم علماء جامعة باريس أمتعتهم وغادروا إلى إنجلترا بلا رجعة، في هـجرة جماعية، وكان يقف وراء هـذه الهجرة الملك هـنري الثالث ملك إنجلترا، الذي أدرك في ذلك الوقت المبكر مكمن القوة الحقيقي.
لقد كان هـذا الملك هـو مركز الجذب المغناطيسي لهؤلاء العلماء الذين تربوا في باريس وأثمروا في أكسفورد ، وهكذا تاريخيا تمتص [ ص: 29 ] الدول الواعية والذكية الخبرات أينما كانت، وتجتذبها وتمنحها امتيازات خاصة.. والتي لم تستطع احتيازها وضمان هـجرتها إليها توظفها من مواقعها وأوطانها.
لقد فتحت أمريكا ، على سبيل المثال، بصدور قانون الهجرة عام 1965م، الأبواب بكل إمكاناتها لعناصر التفوق في العالم، الأمر الذي أدى إلى تضاعف قوتها العلمية والبحثية، ومن ثم قوتها الاقتصادية والعسكرية.. ولقد كان هـذا القانون الجديد للهجرة من أذكى القوانين، فقد استند إلى إكساب الجنسية على أساس المهارات وإتقانها بدلا من الجلود وألوانها (مجلة المعـرفة السعودية، مارس 2002م) ، ذلك أن المعلومة والمهارة هـي قوة المستقبل، هـي القوة المرنة والسلاح الأمضى في المعركة الحضارية.
لقد كشفت بعض الإحصاءات التي توفرت في السنوات الأخيرة أن عدد المصريين المهاجرين للخارج بلغوا 3 ملايين و418 ألفا. هـذا ما كشفه رئيس أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجي في مصر الدكتور علي حبيش ، واعتبر أن ذلك يمثل خسارة فادحة للاقتصاد، وأن 450 ألفا من بين هـؤلاء من حملة المؤهلات العلمية العالية كالماجستير والدكتوراه، حيث استقر معظم هـؤلاء في البلاد المتقدمة: الولايات المتحدة ، وإنكلترا ، وكندا ، وأستراليا ، رغم ما تتحمله الدولة [ ص: 30 ] من نفقات لبناء هـذه المؤهلات قد تصل إلى 100 ألف دولار على الفرد.. فمصر وحدها تخسر 50 مليار دولار بسبب هـجرة كفاءاتها (صحيفة الشرق الأوسط، 1 / 9/1994م) .
وأنموذج آخر من هـجرة الكفاءات:
«لقد بلغ الأمر خلال النصف الأول من السبعينيات في الولايات المتحـدة الأمريكية على سبيل المثال، أن الأطباء والجراحيـن القادمين من الدول النامية يمثلون 50%، والمهندسين 26%، وأن ثلاثا من دول الشمال، الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا ، تستأثر بـ75% من جملة التدفق في الكفاءات المهاجرة» (الشرق الأوسط، 1/8/1989م) .
وهناك دراسة أعدتها كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة تشير إلـى وجود 4102 عالم إسلامي في مختلف علوم المعرفة في مؤسسات ومراكز أبحاث غربية (جريدة الندوة السعودية، 25/2/1993م) .
ولعل قراءة الوجه المقابل للإشكالية قد يعلل بعض الأسباب:
فقد «أظهر تقرير نشر حديثا أن الدول العربية تنفق دولارا واحدا على الفرد في مجال البحث العلمي، بينما تنفق الولايات المتحدة 700 دولار لكل مواطن، والدول الأوربية حوالي 600 [ ص: 31 ] دولار.. وجاء في التقرير أن كل مليون عربي يقابلهم 318 باحثا علميا، بينما النسبة تصل في العالم الغربي إلى 4500 باحث لكل مليون شخص.. ويكشف التقرير أن 8% من مجموع القوة العاملة العربية هـاجرت، وأن 20% من مجموع الأطباء هـم الآن خارج المنطقة، وأن 25% من المهندسين يعملون في بلدان أجنبية، وأن 15% من خريجي الأقسام العلمية استسلموا للهجرة الدائمة، وأن 30% من الطلاب بقوا حيث هـم، وأن 27 ألف عربي يحملون درجة الدكتوراه غادروا بلدانهم إلى أوربا وأمريكا عام 1980، وأن هـذا الرقم وصل إلى 32 ألف عام 2000» (جريدة الوطن القطرية، 18/3/2002م) .
هذه الإحصاءات غير المستقصية تمثل رصيدا حضاريا وعلميا هـائلا لو أدركت البعد الرسالي للهجرة، والمهمة الحضارية للمهاجرين كطلائع في داخل (الآخر) .
وليس أقل خطرا وخسارة من ذلك ما يلاحظ من ممارسة الضغط والتضييق للتخلص من الخصوم واضطرارهم للهجرة، على مستوى السياسة والثقافة، وذلك بفتح منافذ الخروج، وقد يحدث ذلك بالتفاهم المشترك مع (الآخر) الذي يستقبل المهجرين.. لذلك فأمر الهجرة والنظر في تداعياتها وإبصار النتائج ووضوح الرسالة من الأمور المهمة، فعمليات الطرد والإخلاء والإغراء بالخروج خطط [ ص: 32 ] مدبرة، ليتمكن العدو من الاحتلال والاستيطان والتخلص من السكان الأصليين، تنتهي بالهجرة إلى نوع من الشتات والتقطيع في الأرض أمما:
( وقطعناهم في الأرض أمما ... ) (الأعراف:168) ،
ونوع من التيه والضياع بدون رؤية أو هـدف أو رسالة، وبذلك تتحول الهجرة إلى نوع من الخـروج من المعركة بشكل أو بآخر، وما الواقع في فلسطين وغيرها من بلاد المسلمين عنا ببعيد.
لذلك، فالتبسيط وإنزال الأحكام بدون وعي لكل هـذه الظروف قد يحدث كوارث سياسية وثقافية واجتماعية ويحول النعم إلى نقم.
ولعل من الهجرات الأخطر، تلك الهجرات الفاقدة للرسالة والثقافة، وهي الهجرة داخل الوطن، الهجرة إلى ثقافة وحضارة (الآخر) ، والافتتان بها، وممارسة العمالة الثقافية أو الخيانة الثقافية للتاريخ والحضارة والأمة، أو الهجرة إلى معاهده ومؤسساته الثقافية دون مرجعية ومعايير سليمة، وبذلك يصبح الإنسان غريبا في وطنه أو مسكونا بثقافة (الآخر) ومن المهاجرين إليها، ولو كان ساكنا في بلده، فليست العبرة بالمكان بقدر ما هـي بالإنسان.
وما يحمله عقد العولمة، أو حقبة العولمة، من (الإكراه) الثقافي والتنميط الاجتماعي والهجرة الحضارية القسرية، وما يترافق مع ذلك من [ ص: 33 ] الهجرات إلى (الآخر) ، يتطلب المزيد من الوعي الكامل لكيفية التعامل، وإبراز البعد الرسالي للهجرة في الوطن، والهجرة إلى خارج الوطن.
واليوم في حقبة العولمة وثورة المعلومات ، حيث أصبحت الكرة الأرضية قرية واحدة بما انتهت إليه التطورات الهائلة في وسائل الاتصال، حيث اختزل الزمان وطوي المكان وتقاربت المسافات، يمكن النظر إلى الطاقات المهاجرة من وجه مختلف، حيث أصبح الناس وكأنهم يعيشون في غرفة واحدة وليس في غرف متجاورة، وفكرة التكديس البشري أصبحت إلى حد بعيد نوعا من التخلف والبدائية، حيث يمكن الإفادة من الخبرات العلمية والبحثية من مواقعها وكأنها في الوطن، في كل المجالات، إضافة إلى ما تمتلك من مخزون ثقافي وتجربة حضارية وقيم إنسانية تمكنها أن تحسن اغتنام مواقعها، لتقديم نماذج تثير الاقتداء وتغري بالاعتناق لهذا الدين والعيش في رحاب رحماته، بعيدا عن التعصب والغلو والعنصرية، التي بدأت تجتاح العالم من خلال تجـديد النظرة إلى الأغـيار وتشييع فكرة العلو العرقـي أو الشعب المختار، هـذا إضافة إلى ما يمكن أن تعطيه لمواطنها الأصلية.
ونعود إلى القول: إنه بعد حقبة العولمة وثورة المعلومات وهذا التطور السريع في وسائل الاتصال، حيث أصبح الإنسان يرى العالم [ ص: 34 ] ويحاكيه من وراء مكتبه أو من بيته ودائرته ومختبره ومستشفاه، حتى من غرف العمليات الجراحية، لا بد من إعادة النظر والتقويم والمراجعة لظاهرة الهجرة وهذا الرصيد المهاجر من السواعد والأدمغة، الذي يعيش في إطار (الآخر) ، وإعادة التفكير في كيفية استرداد دوره الرسالي؛ لأن التكنولوجيا الحديثة قضت على أسباب وآثار الاغتراب، وأمكنها تحقيق الكثير من الارتكاز الحضاري والتواصل الثقافي وحمل الهم الوطني، لا أقول عن بعد، حيث لم يبق بعدا.
فإلى أي مدى يمكن الإفادة من هـذه الثروات، أو هـذا الرصيد المهاجر من الكفاءات، في الارتقاء بالواقع الإسلامي على المستويات جميعا، واعتبار تلك المواقع العلمية والعملية هـناك ميادين خبرة ودراية وتخصص تصب نواتجها في العالم الإسلامي، وتساهم بنهضته، وتحقق حضورا عمليا واستشاريا ومعلوماتيا في عالمها؟
فالسؤال المطروح اليوم: كيف نستفيد من هـذا الكفاءات ونوظفها من مواقعها؟
وكيف لها أن تمنحنا بعدا حواريا ثقافيا وحضاريا ووسائل دعوة بين الإسلام والمسلمين و (الآخر) ؟
وكيف يمكن من خلال التواصل والتثاقف أن تشكل طلائع متقدمة للأنموذج الإسلامي الذي يثير الاقتداء ويغري بالاتباع؟ [ ص: 35 ] وكيف يمكنها تصويب الصور المشوهة، واستلال الأحقاد التاريخية، والانتصار لقضايا الحق والعدل؟
إن المهاجرين هـم الجسر الحضاري ووسائل الاتصال أو طرق المواصلات لحمل الإسلام وتجسيده في واقع الحضارات والثقافات الأخرى بعيدا عن المواجهة والاستفزاز، حتى تكون الهجرة لله ورسوله، وتتحقق بالبعد الرسالي وتتحول من ظواهر نزيف سلبية إلى فعل إيجابي يحمل الخير لبلدها الأصلي، بلدها الأم، وموطنها المختار المهجر، وتضيف بعدا غائبا بأن الهجرة جهاد بلا شوكة سلاح، فهي ليست جهاد عضلة وساعد وإنما جهاد فكرة ومعرفة ومعلومة، التي سوف تشكل قوة المستقبل -كما أسلفنا- وأن مراغمة الأعداء ليست بالانتصار العضلي عليهم وإنما بمنافستهم في ميدان السبق العلمي والمعرفي والالتزام الخلقي والسلوكي، الذي يحمي مسيرة العلم من البغي والفساد والتسلط، تبصرا بالعواقب والمآلات البعيدة وليس بالنتائج القريبة التي قد يجول فيها الباطل جولة.
وبعد:
فهذا الكتاب يشكل محاولة جادة لإعادة طرح ظاهرة هـجرة الكفاءات وتداعياتها السلبية، على مستوى الذات، وما تشكله من [ ص: 36 ] خسارات مادية ونزيف يساهم في إنهاك مواطنها الأصلية وتكريس التراجع والتخلف فيها، في الوقت الذي تعتبر إحدى المكونات والمقومات المهمة في حضارة (الآخر) وتأهيله للغلبة الحضارية، الأمر الذي شكل هـما لكثير من المفكرين والباحثين الذين استشعروا الخطر وأدركوا النتائج.
وقد حاول الكتاب إعادة فتح ملف الهجرة، على كثرة ما كتب فيه وما قدم من معالجات ورؤى، لينظر إليها من وجه مختلف، أو من الوجه الآخر، الوجه الثقافي، أو ما ارتأينا أن يكون عنوانه: «البعد الحضاري لظاهرة الهجرة»، على اعتبار أن الهجرة ليست ظاهرة سلبية هـروبية انسحابية، وإن تضمنت بعض الهجرات شيئا من هـذا، وإنما هـي حركة إيجابية ذات أهداف رسالية ووسيلة دعوية متميزة لإلحاق الرحمة بالعالمين.
فالهجرة إلى المدينة هـي سبب ولادة الأمة والمجتمع والدولة، والهجرة إلى الحبشة كانت السبب في نقل الإسلام وإيمان ملكها، ومراغمة الأعداء، وإنهاء لحالة الذل والمحاصرة والاستضعاف والركود والاستنقاع
الحضاري.. والهجرات هـي التي نقلت القيم الإسلامية إلى العالم. [ ص: 37 ]
فالهجرة فعل حضاري له أبعاده ورسـالته وأحـكامه وشروطه، فقد تكون جهادا من أعلى أنواع الجهاد، والترفع عن الروابط القسرية، والقعود عنها مدعاة لوعيد الله، وقد تكون منهيا عنها إذا كانت تفريغا للموقع وسبيلا لاستيطان (الآخر) وامتداده: «فلا هـجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية».
والذي نريد أن نؤكده أن ما قدمناه في هـذا الكتاب من رؤى بصر أصحابها المهجر، وأدركوا الرسالة المنوطة بالمسلم بشكل عام، والمسلم المهاجر بشكل خاص، لا ندعي له، أو نزعم، أنه الرؤية الشاملة لجوانب الموضوع، وإنما هـي نوافذ تستدعي الاستمرار في فتح الملف والنظرات الاجتهادية الفكرية في أبعاده وتداعياته، وعلى الأخص في هـذا الوقت بالذات، حيث يتحول العالم إلى وطن واحد، تلغى فيه الحدود والسدود، وتختزل المسافات والأزمنة، وتفرض فيه الأنماط الثقافية والاقتصادية والاستهلاكية والاجتماعية للدول الأقوى، ويترافق مع ذلك استيقاظ النـزعات العنصرية الهمجية البدائية لما يسمى باليمين المتطرف، التي تنطلق من عقدة الشعب المختار، التي وزعت على العالم بأقدار ثقافية متعددة..
ولله الأمر من قبل ومن بعد. [ ص: 38 ]