الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        5- تفعيل البعد الرسالي لهجرة العقول المسلمة

        إذا كان في هـجرة العقول المسلمة إلى الغرب ذلك البعد الرسالي، وإذا كانت تلك العقول مؤهلة على النحو الذي وصفنا للقيام بدور رسالي، فهل هـي قائـمة فعلا بذلك الدور؟ وإذا لم تكن قائمة به فما السبيل إلى القيام به لتؤتي تلك الهجرة ثمرتها الإيجـابية، وتعوض ما خسرته الأمة من تميزها وريادتها بنـزوحها عنها، وذلك بما تؤديه من عمل بعيد المدى في التفاعل الحضاري المنتج بين ديار الإسلام وديار الغرب؟

        لا شك أن العقول الإسلامية المهاجرة إلى الغرب قامت وتقوم ببعض الأعمال الرسـالية منذ عقـدين أو ثلاثة من الزمن، وهو ما يتمثل بالأخص في ذلك النشاط الدعوي الإسلامي الذي لا يخلو منه بلد من البلاد الغربية، مهما يكن قويا أو ضعيفا، والذي تشارك فيه بعض العقول المهاجرة وإن لم تكن هـي المحرك الأساس فيه في بعض الأحوال.. كما يتمثل في بعض ما يقام من الحوار الثقافي والحضاري بين المسلمين وبين أهل الغرب، عبر بوادر فردية أو عن طريق مؤسسات ثقافية فكرية. [ ص: 64 ] ولكن ذلك كله لا يرقى إلى ما هـو دور رسالي مأمول من هـذه الهجرة للعقول الإسلامية، لا من حيث الحجم ولا من حيث الكيف، وهو ما يستلزم بذل جهود تفعيلية من أجل استنهاض تلك المؤهلات التي تتوفر عليها العقول المهاجرة، وتوجيهها نحو القيام بالدور الرسالي على النحو الذي وصفنا آنفا.

        ولعل من أهم وسائل التفعيل الذي يمكن أن يثمر الثمرة المرجوة ما يلي:

        أ- استكشاف العقول المهاجرة وحصرها

        إذا كانت العقول الإسلامية المهاجرة إلى الغرب معلومة في جملتها، وتتردد إحصائيات تقريبية في شأنها بين الحين والحين، فإن حقيقتها الكاملة غير محددة ولا معلومة، وهو ما يستلزم في سبيل تفعيل دورها الرسالي أن تعلم أولا بأكثر ما يمكن من وجوه العلم، وأن تتضح صورتها الجملية والتفصيلية؛ وذلك لينطلق العمل التفعيلي من منطلق معلوم، ويمارس نشاطه على أرض بينة المعالم، وهو ما يندرج ضمن القاعدة الأساسية التي تفرض في سبيل الجدوى أن يكون تفعيل أي مادة مبنيا على العلم بطبيعتها. [ ص: 65 ] ويمكن أن يقوم بهذا العمل الإحصائي الممهد للتفعيل رابطة عالمية تتأسس لهذا الغرض، فتجمع العقول المهاجرة في العالم الغربي، وتقيم لها فروعا في المراكز الكبرى من ذلك العالم، ثم تقوم بعمل إحصائي شامل لتلك العقول على وجوه عدة.

        ومن تلك الوجوه الإحصائية: حصر أعداد هـذه العقول بأكبر قدر ممكن، وحصر تنوعها في توزعها الجغرافي، وفي اختصاصاتها العلمية، وفي توجهاتها الثقافية، وفي مكانتها الريادية، وفي مقاماتها الوظيفية، وفي استعداداتها المختلفة للعطاء، ليقع الانتهاء من كل ذلك إلى صورة متكاملة عن العقول الإسلامية المهاجرة من حيث ذات الأفراد بأكبر قدر ممكن، ومن حيث الهيئة الجماعية التي تتكون من أولئك الأفراد، فإذا خارطة العقول المهاجرة التي ستكون مسرح الحركة التفعيلية لدورها الرسالي واضحة المسالك، بينة المواقع.

        ب- التوعية بالهدف الرسالي

        مهما يكن من وجود أعداد من العقول المهاجرة تتمثل دورها الرسالي من هـجرتها بمفهوم ما من المفاهيم، فإن الأكثر منها ليست على وعي كاف بهذا الدور، أو ليست على أي وعي به أصلا؛ فالذين هـاجروا إلى الغرب من أصحاب هـذه العقول كانت هـجرتهم [ ص: 66 ] لأسباب أخرى غير السبب الرسالي، وقد أخذت هـذه الأسباب معظمهم لتزج بهم في زحام مشاهد أخرى من مشاهد الحياة انشغلوا به فغفلوا عن المشهد الرسالي، وذلك ما يستدعي أن تقوم في أوساط هـذه العقول المهاجرة حركة توعية بالبعد الرسالي في هـجرتها ليكون ذلك أساسا للانطلاق في إحياء ذلك البعد وتفعيله.

        وقد يسهل هـذه التوعية الرسالية ما أشرنا إليه آنفا من بعد دعوي مستكن في ضمائر المسلمين عموما وفي ضمائر النخبة المثقفة منهم خصوصا؛ فالخلفية الثقافية للمسلم تحمل معاني التفاعل بين المسلمين وبين بني الإنسان عامة، في طرفي العطاء والأخذ لما هـو حق وخير، وهو ما ترسب في المخزون المرجعي للمسلم جراء تعاليم الدين وجراء مسيرة التاريخ، وخاصة فيما يتعلق بهما من أمر الهجرة وآدابها.

        فهذا الرصيد المخزون سواء كان مشعورا به أو غير مشعور، يمكن استثماره في حركة التوعية بالمهمة الرسالية للهجرة في أوساط العقول المهاجرة، إذ من الميسور أن يستدعى ذلك المخزون الثقافي، ويستنهض في سبيل إحداث وعي عام في تلك العقول بأن هـجرتها ينبغي أن تكون هـجرة هـادفة على غرار هـجرة الأنبياء والمصلحين التي كانت غايتها، التي لا تعلو عليها غاية، تبليغ الخير للناس مهما يكن في طريق تلك الغاية العليا من غايات مرحلية. [ ص: 67 ] ولعل من أهم ما يستنهض به هـذا المخزون الثقافي تعهد مفهوم الانتماء للأمة الإسلامية والولاء لها لدى العقول المهاجرة بالتجلية والتصحيح والتقوية، وذلك ليأخذ وضعه الحقيقي في المنظومة العقدية، حيث يحتل هـذا العنصر فيها موقعا أساسيا؛ فهذا المفهوم ربما اعترته بعض الغشاوات عند بعض تلك العقول، وذلك بسبب بعد الشقة بينها وبين أمتها، أو بسبب انخراط بعضها في الولاء الوطني للبلاد التي تقيم فيها.

        فتجلية هـذا المفهوم وتقويته، وإزالة ما يمكن أن يكون اعتراه من اضطراب جراء مزاحمة الولاء الوطني له، وتبيين الحدود بين الطرفين من شأنه كله أن يهيئ العقول المهاجرة للوعي العميق بالدور الرسالي الذي تقتضيه هـجرتها إلى بلاد الغرب كأساس من أسس التفعيل لذلك الدور.

        ج- البناء المؤسسي

        إن المهمة الرسالية للعقول المهاجرة، كما شرحناها آنفا، لا يمكن أن يقوم بها أفراد بصفاتهم الفردية؛ ذلك لأنها مهمة ذات طبيعة جماعية باعتبار أعبائها الثقيلة التي ينوء بها الأفراد، ولأنها من جهة أخرى تمارس على مسرح المنهج الغالب على الأعمال فيه هـو المنهج الجماعي، [ ص: 68 ] والتفاعل بالاستجابة يتم فيه على مقتضى ذلك المنهج الغالب، وذلك كله يقتضي أن يكون تفعيل المهمة الرسالية آخذا بعين الاعتبار هـذه الخاصية الجماعية في طبيعة المهمة وفي مسرح حركتها.

        ومن أظهر المقتضيات في هـذا الشأن العمل على بناء مؤسسات متعددة المظاهر ومختلفة الأنواع تتحمل القيام بهذه المهمة الرسالية، وذلك من مثل المراكز البحثية، والمنظمات العلمية، والجمعيات الدعوية، والمؤسسات التعليمية، وما شابهها من التشكيلات الجماعية ذات الطبيعة المؤسسية.

        فهذه التشكيلات المؤسسية ذات الطبيعة الجماعية تنخرط فيها العقول المهاجرة بحسب تخصصاتها واهتماماتها لتكون محضنا للحوار في العمل الرسالي بوجوهه المتعددة، وفيها تضبط الخطط والمشاريع في هـذا الشأن، ومنها ينطلق الأفراد في الممارسة العملية للمهمة الرسالية.

        إن هـذه المحاضن المؤسسية لمن شأنها أن تفعل الدور الرسالي للعقول المهاجرة؛ إذ هـي بالإضافة إلى كونها محضنا لتجميع الجهود وتوجيهها الوجهة الصحيحة، فهي تعتبر عاملا من عوامل التحشيد النفسي والإرادي للعزم على تحمل الرسالة الحضارية المنوطة بعهدة تلك العقول، كما تعتبر أيضا عاملا من عوامل الصيانة للولاء للأمة [ ص: 69 ] والانتماء إليها، إذ هـي صورة مصغرة منها، والولاء للجزء مرحلة ممهدة للولاء للكل.

        كما تكتسب هـذه المحاضن المؤسسية من المصداقية في عيون أهل الغرب وفي نفوسهم وعقولهم، وتكتسب من المكانة لديهم في مخاطبتهم والتعامل معهم ما لا تكتسبه العقول المهاجرة فرادى، وذلك من طبيعة ما بني عليه المجتمع الغربي من القواعد في التعامل، فينبغي أخذه بعين الاعتبار في تفعيل الدور الرسالي لهجرة العقول.

        د - التوجيه العملي

        إن ذلك المحتوى في الدور الرسالي للعقول المهاجرة، كما بيناه آنفا، وتلك المؤهلات التي تتوفر عليها للقيام بذلك الدور ليس من شأنها جميعا أن تثمر الثمرة المرجوة منها إذا ما وقع تفعيلها إلا إذا واكبها تفعيل للأساليب التي يقع بها القيام بذلك الدور في كل من اتجاهي الأخذ والعطاء؛ ذلك لأن أساليب التبليغ هـي من أكثر ما يجب فيها التفعيل لتطلبها التعهد بالتعديل والتغيير المستمرين تناسبا مع تغير أحوال المتلقين في طرائق تقبلهم للخطاب واقتناعهم به واستفادتهم منه.

        وقد كانت العقول المهاجرة، التي قامت ببعض من المهام الرسالية في مراحل سابقة، تعتمد في خطابها التبليغي لأهل الغرب على الأساليب [ ص: 70 ] ذاتها التي يمارس بها التبليغ في العالم الإسلامي، أو على ما هـو شبيه بها، وكانت أيضا تعتمد في خطابها للعالم الإسلامي بتجربتها في الهجرة على الخطاب الصوري الذي يكتفي بنقل مشاهد التجربة دون جهود توظيفية لها بما يناسب المخاطبين من المسلمين، وكل من هـذا وذاك قد لا يكون ملائما للدور الرسالي المطلوب من هـذه العقول في المرحلة المقبلة، وهو ما يستدعي تفعيلا جديدا يتمثل في توجيه المناشط الرسالية التي تقوم بها العقول المهاجرة توجيها عمليا.

        والمقصود بالتوجيه العملي لتلك المناشط أن يتحرى تبليغ المضمون الحضاري الإسلامي إلى الغرب، وكذلك المضمون الحضاري الغربي إلى المسلمين، منحى البيان العملي الذي يقدم ذلك المضمون في الاتجاهين بمواصفات واقعية مهيأة للقبول بحسب ما تقتضيه الحاجة الواقعية في كلا الطرفين، وبحسب ما تستجيب له البنية الثقافية العامة في مكوناتها الفعلية في كل منهما.

        إن أهل الغرب على وجه العموم بنيت ثقافتهم بناء عمليا واقعيا، وذلك جراء ما ترسخ فيهم من نزعة ذرائعية زرعتها فيهم الفلسفة النفعية، ورعاها ونماها حب المتعة المادية الذي طبع الحياة الغربية بصفة عامة.. فبتلك النـزعة أصبح أهل الغرب لا يتفاعلون على [ ص: 71 ] وجه العموم إلا مع الخطاب الذي يمس بصفة مباشرة حياتهم العملية، ويجعلهم ينتظرون من ورائه نفعا ناجزا يتمثل في حل لمشكلة من مشاكل حياتهم الفردية أو الاجتماعية، أو في سبب من أسباب الرفاه المادي، أو في مسـلك من مسالك الأمن النفسي أو الجماعي، وأما ما عدا ذلك مما طابعه نظري صوري بحت فإن التفاعل معه يكون محدودا في كمه من حيث عدد المتفاعلين، وفي كيفه من حيث درجة قبوله والاقتناع به.

        واعتبارا لهذه النـزعة العملية لدى أهل الغرب، فإن تفعيل الدور الرسالي للعقول المهاجرة إلى الغرب لا بد ليكون ناجعا أن يوجه الخطاب فيه هـذه الوجهة العملية ليواطئ عقولا تتقبله وتقتنع به، إذ يلبي مطلبها في تحقيق النفع العملي.

        ويمكن أن يكون ذلك التفعيل العملي سالكا أحد مسلكين:

        المسلك الأول أن يكون الخطاب الإسلامي سالكا مسلك الأنموذج العملي، بحيث تظهر القيم الإسلامية، فردية وأسرية واجتماعية، في الممارسة العملية للحياة على اختلاف وجوهها، وخاصة ما يتعلق منها بما فيه علاقة مباشرة بالمجتمع، إذ ذلك هـو الأظهر للعيان، والأقرب للملاحظة، وإن كان الشأن الشخصي أو الأسري ملحوظا هـو أيضا [ ص: 72 ] للناس، قائما لديهم مقام الشهادة المؤثرة في النفوس، فهذا الضرب من الخطاب العملي المجسم للقيم الإسلامية الجماعية والفردية يعتبر حجة بالغة التأثير في نفوس أهل الغرب وعقولهم، لما يرون فيها من حلول واقعية لبعض ما يعانون من المشاكل النفسية والأسرية الاجتماعية، فتسري إليهم القيم الدينية من خلالها، ويكون ذلك تـهيئة لقـبول ما بعدها من الحقائق الإيمانية العليا.

        المسلك الثاني أن يكون ذلك الخطاب سالكا مسلك التهيئة العملية في بيانه للناس وشرحه لهم وتبليغه إليهم، على معنى أن ترتبط في ذلك الخطاب كل قيمة نظرية ببيان مغازيها العملية، وآثارها النفعية في الحياة مهما كانت درجتها من التجريد النظري، وأن تبين الطرق والأساليب العملية التي يمكن بها أن تأخذ تلك القيم طريقها للتطبيق الواقعي المنتج لتلك المنفعة العملية، دون أن يكتفى في التبليغ بالبيان النظري، المجرد الذي قد يبقى في الأذهان ذات الثقافة العملية عصيا عن الفهم، أو غير مثير للاهتمام، فلا تتحرك العقول لتقبله واستيعابه والتكيف به جراء تلك الثقافة العملية.

        وكما يكون هـذا التفعيل في الدور الرسالي للعقول المهاجرة، بأسلوبيه، صالحا في طرف العطاء من طرفي ذلك الدور، كما بينا، فإنه يكون صالحا في طرف الانتفاع منه أيضا. [ ص: 73 ] فحينما تعمد تلك العقول إلى نقل بعض القيم الحضارية والحقائق العلمية والتكنولوجية من البلاد الغربية إلى البلاد الإسلامية، فإن ذلك قد لا يكون فاعلا إلا إذا وقعت صياغته صياغة عملية متمثلة في إقامة نماذج عملية تجسم تلك القيم كالمؤسسات البحثية، والمنشآت الإدارية، والمشاريع الصناعية، التي تقوم جميعا على قيم الدقة والنظام والكفاءة الإدارية والمداولة الشورية وما إليها من القيم، ومتمثلة أيضا في تقديم بيانات وشروح لمكتسبات أهل الغرب من التحضر موجهة توجيها عمليا نفعيا بما يتلاءم مع الواقع الإسلامي ثقافيا واجتماعيا لتثمر فيه المنفعة العملية، إذ نقل تلك المكتسبات على الوجه الذي هـي عليه في الغرب قد لا تحصل به منفعة في العالم الإسلامي، لاختلاف في المناخ بين الطرفين يفضي إلى اختلاف في أسلوب الانتفاع بينهما، فإذا لم يؤخذ ذلك بعين الاعتبار كان سببا في تعطيل قسم مهم من الدور الرسالي للعقول المهاجرة. [ ص: 74 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية