الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        4- مؤهلات العقول المهاجرة للدور الرسالي

        إن العقول الإسلامية المهاجرة إلى الغرب تتوفر على مؤهلات كثيرة للقيام في هـجرتها بالدور الرسالي الذي شرحنا محتواه، سواء في طرف العطاء أو في طرف الأخذ، وهو ما يمكنها من القيام بذلك الدور على وجه فاعل لو قدرت تلك المؤهلات التقدير الصحيح ثم استثمرت الاستثمار الأمثل ضمن خطة متكاملة واعية. وتبدو تلك المؤهلات في مؤهلات ذاتية تتعلق بإمكانيات تلك العقول وقدراتها، وفي مؤهلات موضوعية تتعلق بالوضع الذي هـي عليه، والمناخ الثقافي والاجتماعي العام الذي تعيش فيه.

        أ- المؤهلات الذاتية

        لا شك أن العقول الإسلامية المهاجرة هـي من صفوة عقول الأمة في قدراتها الذاتية: ذكاء وقدرة على التحصيل والاستيعاب والتحليل، فأغلب تلك العقول ذهبت إلى الغرب ضمن بعثات علمية يتخير فيها الأفضل فالأفضل من الخريجين، وكثير منها هـاجر به طموحه إلى الأعلى في سلم العلم، وهو ما يكون ناشئا في الغالب عن استشعار لقدرات التحصيل المعرفي، وقد يكون هـو بدوره منميا لتلك القدرات إلى أعلى المستويات، وبذلك يتوفر في تلك العقول شرط [ ص: 57 ] أساس هـو الكفاءة العقلية للقيام بالأدوار المهمة مثل هـذا الدور الرسالي الذي نحن بصدد الحديث عنه.

        وقد تعززت في العقول المهاجرة تلك القدرات الذاتية بالمحصول العلمي الذي تحققت به خلال ممارستها العلمية في بلاد الغرب، إذ هـي عقول في أغلبها ممارسة للعلم النظري أو التطبيقي، بالغة فيه درجات عالية، كما يتبين من حصول بعضها على أعلى الجوائز العالمية، وذلك ما يعتبر رصيدا مهما في مؤهلاتها الذاتية، حيث تفتح الحصيلة العلمية للعقل آفاقا بعيدة في النظر، وتنقله من ضيق الذاتية، شخصية وعرقية وإقليمية، إلى رحابة الإنسانية في أبعادها المختلفة، إذ العلم على اختلاف فروعه هـو إنتاج متراكم للإنسانية، فالتحقق به يفتح الأبواب على أفق الإنسانية، ويكون معوانا على السعي في الحوار والتفاعل الإيجابي، نفعا وانتفاعا، وهو ما يقتضيه الدور الرسالي، كما تقدم بيانه.

        ومن المؤهـلات الذاتية لهذه العقول الإسلامية المهاجرة أيضا: ما توفرت عليه من اطلاع واسع على الأوضاع الواقعية للعالم الغربي، في أبعاده الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فهي بالإضافة إلى قدراتها العقلية ومحصولها العلمي الممكنة من الاستنتاج النظري [ ص: 58 ] تمارس العيش في تلك الأوضاع، وتقف على مكوناتها الظاهرة والخفية، وهو ما يمكنها من فهم أعمق للواقع الغربي بفهم أسبابه وعوامله وخلفياته، إضافة إلى فهم ظواهره وأحداثه، وذلك أمر مهم في التعامل معه تعامل حوار فاعل مثمر.. ومن أهم المؤهلات الرسالية في أية علاقة دعوية فهم الواقع مناط الدعوة، الفهم الصحيح العميق.

        ويضاف إلى تلك المؤهلات الذاتية ما تتوفر عليه العقول المهاجرة من تحقق بالثقافة الإسلامية، إن لم يكن على مستوى الالتزام الفعلي فعلى مستوى الوجود بالقوة، إذ هـي عقول نشأت في أغلبها في بيئات إسلامية تشربت منها القيم العامة التي تقوم عليها تلك الثقافة، فهي إن لم تكن ملتزمة بالفعل بثقافة أمتها فإنها تحمل استعدادا للالتزام بها. وإذا ما أضيف ذلك التحقق بالثقافة الإسلامية، فعـلا أو استعدادا، إلى الفهم العميق للواقع الثقافي الغربي حصل من هـذا التحقق المزدوج مؤهل مهم للوساطة الحوارية بين الطرفين، مما يفضي إلى قدرة على القيام بالدور الرسالي الذي نحن بصدد بحثه.

        بمجموع هـذه المؤهلات الذاتية للعقول المهاجرة، ما كان منها فطريا وما كان مكتسبا بالسعي أو مكتسبا بالمناخ المعيش، يمكن أن تتمكن هـذه العقول من القيام بدور رسالي في هـجرتها إلى البلاد [ ص: 59 ] الغربية، إذ هـي بتلك المؤهلات تكون منطوية على قابلية كبيرة للوعي بذلك الدور، وهو أولى المراحل اللازمة فيه، كما تكون بها قادرة على المضي في إنجازه حينما تستثار تلك المؤهلات وتوظف التوظيف الأمثل لأجل ذلك الإنجـاز، خاصة وأن تلك المؤهلات الذاتية تجد لها تعزيزا في مؤهلات أخرى موضوعية من واقع المناخ الحضاري الذي تعيش فيه العقول المهاجرة.

        ب- المؤهلات الموضوعية

        بالإضافة إلى تلك المؤهلات الذاتية المتحققة في العقول الإسلامية المهاجرة للقيام بدورها الرسالي، فإنها تتوفر أيضا على مؤهلات للقيام بهذا الدور من حيث البيئة الغربية التي هـي مسرح وجودها ونشاطها.. فهذه البيئة بالرغم من كونها بيئة مغايرة في جذورها الفلسفية وفي تشكيلها الثقافي للرسالة الإسلامية إلى حد التعارض في كثير من العناصر، إلا أنها تنطوي على جملة مهمة من المعطيات المؤهلة لدور رسالي تقوم به العقول الإسلامية المهاجرة، وذلك سواء بالنظر إلى المناخ الروحي النفسي الذي يسود تلك البيئة، أو بالنظر إلى الوسائل المتاحة للحوار والتبليغ.

        فالمجتمع الغربي يعاني معاناة مضنية من الإرهاق المادي جراء المذاهب الفلسفية المادية التي صاغت حياته فأفضت به إلى فقر روحي [ ص: 60 ] مدقع، ظهر في مستوى المشاعر الفردية وفي مستوى العلاقات الأسرية والاجتماعية على حد سواء، وأفضى إلى جملة من المشاكل النفسية والاجتماعية من مثل الاكتئاب والإجرام والمخدرات والاضطراب الأسري.

        وبما أن هـذا الوضع نشأ من خلل في الفلسفة التي بنيت عليها الحياة، إذ هـي فلسفة تعتدي على الفطرة الإنسانية ذات البعدين المادي والروحي، بإفراطها في الأول وإجحافها في حق الثاني، فقد ظهرت بوادر كثيرة فردية وجماعية تعبر عن الرفض لهذا الاعتداء على الفطرة الإنسانية المزدوجة، وباتت تطلب تعديل الميزان بالبحث عن مذاهب ذات بعد روحي تجد فيها النفوس تحقيق أشواقها الروحية، وهو ما بدا في انتماء الكثيرين من أهل الغرب إلى أديان ونحل شرقية روحانية، وسقوط أخرى في ضروب من التهويمات والأساطير ذات الطابع الروحي، فما ذلك إلا تعبير عن الحاجة إلى مذهب جديد يحقق الفطرة التي تعرضت إلى الإجحاف.

        ولو عرض الإسلام في هـذا المناخ المتعطش للروحانية عرضا رشيدا لكان رسالة تتلقاها نفوس أهل الغرب المرهقة بالمادة لما تجد فيه من توازن تشبع فيه أشواق الروح وتلبى مطالب الجسم، إذ هـي مؤهلة بحكم الوضع الذي آلت إليه لتلقي تلك الرسالة. [ ص: 61 ] وبما أن أهل الغرب بصفة عامة قد قامت حياتهم على احترام العلم والعلماء، واحتل التميز والريادة والمتميزون والرواد في سلم قيمهم درجات عالية، فإن ذلك سيحدد موقفهم النفسي والفكري من العقول الإسلامية المهاجرة، وقد اتصفت في أكثرها بالتميز والجدية والريادة، لتحتل هـذه العقول في نفوسهم وعقولهم مكانة عالية من الاحترام والتقدير لتميزها وريادتها.

        وحينما يمارس أصحاب هـذه العقول مهمة رسالية بما يبلغون من قيم حضارية، تبليغا قوليا أو فعليا، وبما يرغبون فيه من الفوائد العلمية لتمثلها أو تبليغها لمن وراءهم من أهل أوطانهم الأصلية، فإن ذلك يقوم مقام الاقتران الشرطي مع ما وقر في النفوس من الاحترام والتقدير، فتنفتح تلك النفوس للتفاعل الإيجابي، وتستعد للاستجابة بتقبل الرسالة في اتجاهي العطاء والأخذ، وهو ما يعتبر مؤهلا موضوعيا من المؤهلات الرسالية للعقول المهاجرة.

        ويضاف إلى ذلك من المؤهلات الموضوعية ما تتوفر عليه الحياة في الغرب من المناخات الميسرة للتواصل، ومن الوسائل المساعدة عليه. فالحرية التي هـي شرط أساس من شروط التبليغ قائمة السوق في تلك الديار بأقدار كبيرة، وهو ما يمكن من استحداث مختلف [ ص: 62 ] القنوات التنظيمية والإجرائية للاتصال بمختلف فصائل الناس، والتحاور معهم في مختلف الشئون، وتبليغ الرسالة إليهم.. والوسائل التقنية الميسرة للاتصال، والمقربة للمسافات، والعابرة للحواجز، هـي أيضا سوقها قائمة، مما يمكن من التعريف الواسع بما يراد التعريف به من القيم الثقافية والحضارية الإسلامية.. كما يمكن أيضا من يسر الحصول على المستجدات من العلوم والمخترعات، وتبليغها في الإبان، ليستفيد منها العالم الإسلامي الاستفادة المثلى.

        وبإضافة هـذه المؤهلات إلى بعضها، الذاتية منها والموضوعية، يتبين أن العقول الإسلامية المهاجرة إلى الغرب تتوفر على قدر من المؤهلات للتبليغ الرسالي لا تتوفر على كثير من عناصره العقول الإسلامية التي تعيش داخل العالم الإسلامي، وهو ما يقوي من واجب الالتفات إلى هـذه العقول، وتوجيهها إلى أن تقوم بدورها الرسالي الذي هـيأها القدر لتقوم به، وهيأ شروطه ومستلزماته، لتتحول تلك الصورة السلبية لهجرة هـذه العقول، باعتبارها نزيفا من رصيد الأمة لصالح غيرها، فيرى منها أيضا وجه آخر إيجابي، بل هـو على قدر كبير من الإيجابية، وليقع العمل على تشخيص ذلك الوجه وتوضيحه، ثم على تفعيله ليصير نفعه واقعا ملموسا، وليأخذ طريقه في الإثمار. [ ص: 63 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية