الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        في فلسفة الهجرة القرآنية والتاريخية

        لم ترد الهجرة في الاستعمال القرآني بمعان سلبية إلا فيما كان يحملها محمل اجتناب الباطل ونبذ الفرقة، أو كان ينسبها إلى جحود الكفار ونكرانهم للقرآن، وذلك في موضع واحد فقط في قوله: ( وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ) (الفرقان:30) ،

        فالهجرة هـي خروج في سبيل الله وسعي لتحقيق رسالته في وحدة العبودية ورفعة قيم الدين. من هـنا يصبح المهاجر مرادفا للمجاهد، والمعنى العكسي للقاعد والمتخاذل في أداء الرسالة، تصديقا لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم : ( تضمن الله لمن خـرج في سبيـله لا يخـرجه إلا جهادا في سبيلي وإيمانا بي وتصديقا برسلي، فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة.. والذي نفس محمد بيده ما من كلم -أي جرح- يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم، لونه لون دم وريحه مسك ) [1] .

        إن وصل الهجرة بالجهاد يتنـزل ضمن فلسفة الإسلام لمسئولية الإنسان الكونية في الشهادة على الناس جميعا وحمل أمانة القيمة [ ص: 118 ] وخلافة النبوة في الأرض. فالهجرة أصل في تحقيق غائية وجود الإنسان وتنـزيل الدين. وقد يهاجر المرء مستضعفا، ولكن لا يهاجر ضعيفا؛ لأن قرار الهجرة من سنن الله العظيمة التي تشترط قوة في الإرادة وثباتا في المبدأ. لقد مثلت الهجرة دائما نقطة تحول في تاريخ البشرية، ولحظة حاسمة في رقي الحضارات أو سقوطها.

        فهجرة الأنبياء كانت السبيل لنشر رسالتهم وإنقاذ أتباعها من قهر المتجبرين، وتأسيس قوائمها على أسس من العمران الآمن، بمثل ما آلت إليه هـجرة سيدنا إبراهيم عليه السلام مع زوجته هـاجر وابنه إسماعيل من بناء مجتمع مكة ، الذي أصبح له شأن كبير في تاريخ الإسلام لاحقا، أو هـجرة العصبة من مستضعفي المسلمين الأوائل بمكة القهرية للحبشة ، التي قادت إلى كسب أول نصرة خارجية رسمية لرسالة الإسلام، أو كذلك هـجرة المسلمين من مكة إلى المدينة ، التي أرخت لأول دولة ومجتمع إسلاميين، ولأصول العلاقات ضمنهما.

        وليست أشكال الفتح الإسلامي المتعددة، التي رسخت انتشار الإسلام في أرجاء الأرض كلها سوى نمط من الهجرة الإسلامية، التي اقتضتها بداية نشر الدعوة ومرجعية الخاتمية لرسالتها ولزوم العموم في نشرها، حتى لا تنحصر في قومية وإثنية معينة.

        لقد كان الخطاب الإسلامي يفيض دوافع وحوافز في اتجاه تعلم [ ص: 119 ] لغات الشعوب والاستفادة من علومها وحكمتها وتجربتها، ولد ذلك أنماطا من الهجرة الثقافية والفكرية ساهمت في تأسيس المدارس الإسلامية في الفلسفة والكلام والتربية والعمران والطب والرياضيات وغيرها، وجعلت من هـذا التاريخ منارة للبشرية على مدار الأزمنة التي تلته، وخاصة منذ أن دخل الإفرنج في الاستفادة من معارف المسلمين، من العصر الوسيط نحو عصر الأنوار وإلى زماننا المعاصر.

        إن اكتشاف الرجل الأوروبي لأمريكا ، وقبلها اكتشافه لعلوم وفلسفات وفنون العالم الإسلامي في الفترة الوسيطة، شكل بداية الهيمنة الغربية على مقدرات العالم. فالمجتمع الأمريكي المعاصر هـو أنموذج حي للهجرة، لا يأبه كثيرا بالأصول بقدر ما يقوم الانتماء إليه على أساس الإنتاج. إنه انتصار لهجرة الأوروبيين الأولى، وإن كانت المنافسة السياسية والاقتصادية، هـي التي تطبع العلاقة اليوم بين الأمريكيين والأوروبيين ضمن رغبة « الرجل الأبيض» في تقاسم النفوذ على العالم.

        ولئن رافق تهجير السود نحو أوروبا، وخاصة أمريكا ، جميع أشكال الاستعباد والقهر، إلا أنه تحول إلى هـجرة إيجابية بعد كفاح طويل ومستمر من أجل إلغاء قوانين العبودية وفرض مبدأ المساواة العرقي، والنجاح في الارتقاء بصورة الرجل الأسود من القابلية للعبودية إلى القدرة الكاملة على الإنتاج الحر والمنافسة. [ ص: 120 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية