الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        في هـجرة العقول الإسلامية يسود الخطاب الإسلامي في تقييم الهجرة عامة وهجرة العقول الإسلامية خاصة نزعة رثائية، تحوم حول فكرة ضياع هـذه الطاقات عن خدمة المسلمين، والتساؤل عن تدارك هـذه الخسارة من خلال مد الجسور بينها وبين العالم الإسلامي. وهو خطاب يحمل الهجرة محملا ضعيفا ولا ينظر إلى أبعادها الحضارية، فضلا عن كونه لا يستند إلى مرجعية إسلامية واضحة في تحديد مفهوم الانتساب للأمة الإسلامية، الذي يتجاوز حسب منطوق هـذا الخطاب، الحدود التي وضعها الفكر السياسي الغربي لمصطلح العالم الإسلامي الجغراسياسي .

        إن عالم الإسلام لا تضيقه الحدود المصطنعة، فـ ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) (البقرة: 115) ،

        و ( جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ) (حديث قدسي) .

        ومقتضى التكليف الإنساني هـو عمارة الأرض كلها، شهادة على الناس وخلافة لله. وأمة الإسلام هـي أمة دين الفطرة، أي أمة الإنسانية جمعاء. ومن ثم كانت خيريتها مشروطة بخروجها للناس [ ص: 133 ] ودعوتها فيهم، قال تعالى: ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) (آل عمران:110) .

        فهي أمة خارجة، أي تحمل الخصائص الإنسانية الجامعة، وليست أمة قومية محدودة جغرافيا وسياسيا، ولا حتى فكريا، بالمعنى المتداول في الفكر الغربي. إن رابطة الأمة في المرجعية الإسلامية هـي العقيدة، إيمانا بعلوية القيم الإلهية وبمسـئولية الإنسان الكونية، فهي رابطـة واعـية لا تخشى الذوبان أو التصدع، ولا تلجأ إلى التحوط بنصرة العامل القومي والمصلحي.

        إن مأزق الغرب في الاعتراف بالهويات الجماعية مرجعه حدود رابطته الضيقة وغير الواعية. فهي تقوم على الانتساب إلى الأرض ونظم تحقيق المصلحة التي تعبر عنها المؤسسات والقوانين والأعراف. من هـنا كان تقسيمه للعالم ولخارطة الحلفاء والأعداء، وعلى هـذه الخلفية الفلسفية ظهرت مصطلحات الدولة القومية، ودولة القانون، إلى بروز دولة العولمة التي لا تترجم عن مشروع عالمي منفتح بل تكرس خضوع رابطة الدولة لرغبات السوق. فهي دولة الانفتاح على السوق لا على الشعوب.

        إن المعادلة الصعبة في تضمين الهجرة الإسلامية أصولها وفلسفتها المتميزة هـي في تحويل هـجرة السوق التي صممها الغرب الحديث إلى هـجرة الرسالة المستنبطة من التصور الإسلامي لمستلزمات الرابطة [ ص: 134 ] الإنسانية، وفي الانتقال من هـجرة/تهجير الفقر والظلم إلى هـجرة الإرادة والدعوة، دون أن يمس هـذا التحول من مشروعية الهجرة الحديثة ويفضي إلى قطيعة مع الغرب وثقافته، أو يجنح بالتصور الإسلامي إلى عالم المثل الذي لا قابلية له بالتحقق.

        إن تحرير السؤال عن كيفية استفادة العالم الإسلامي من عقوله المهاجرة، من خلفيات ضيق الانتماء لهذا العالم وهيمنته، إلى سعة الانتساب لأمة الدعوة والرسالة، يقود إلى الوعي بأن ديار الغرب بالمفهوم الجغراسياسي هـي نقطة مركزية في توجيه مستقبل للنهوض لأمة الإسلام، بالنظر إلى احتكارها لأدوات التحكم، وبالنظر كذلك لتنامي الوجود الإسلامي، كما وكيفا، في هـذه الديار.

        لقد نجح الغرب في استقطاب الطاقات الفكرية للعالم كله. فهو يشرف بعلومه ومناهجه ومؤسساته على تكوين وتأطير وتوجيه أغلب طاقات دول الجنوب، داخل فضاء البلدان الأكثر تصنيعا. فحوالي90% من العقول المهاجرة في العالم تختار الغرب وجهة للاستقرار.

        وتمثل هـجرة العقول الإسلامية أضخم هـجرة متأتية من دول الجنوب. فعلى صعيد العالم، تأتي هـجرة الطلبة من المغرب في المرتبة الثانية بعد الصين ، وفي فرنسا مثلا يشكل الطلبة المهاجرون من أصل بلدان المغرب العربي أكثر من نصف مجموع الطلبة الأجانب. [ ص: 135 ] وتستوعب مؤسسات الغرب البحثية حوالي70% من الباحثين ذوي الأصول الجنوبية، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانفراد كتلة الغرب الليبرالي بالموارد البشرية النوعية في العالم [1] .

        وضمن اقتسام مناطق النفوذ، تتجه أمريكا إلى استيعاب الطلبة والباحثين القادمين من آسيا والشرق الأوسط، في حين تواجه فرنسا بدرجة أكبر خصوصيات القادمين من العالم العربي وخاصة بلدان المغرب العربي وسوريا ولبنان، وتكاد تنفرد ألمانيا بالتعامل مع العقول الإسلامية التركية إضافة إلى مناطق عديدة من أوروبا الشرقية.

        وقد يتوقع أن يكون في المستقبل أغلب الباحثين الفيزيائيين والمهندسين المستقرين في ديار الغرب من أصل مناطق الجنوب، على الرغم من أنه مع دخول أوروبا تجربة وحدتها الاقتصادية والنقدية، وفتح حدودها الجمركية بينها، بدأ الاهتمام يتجه نحو تشجيع تبادل الخبرات بينها، ومعادلة الشهادات والتنسيق في المقررات بين جامعاتها ومؤسساتها التعليمية العليا.

        قد تحمل العقول الإسلامية المهاجرة معها خلفية حضارية شاملة ولكنها تتكبد ثقل مسئوليتين، الأولى تجاه أوطانها الأصلية وتجاه [ ص: 136 ] مستقبل نهضة أمتها الإسلامية، والثانية تجاه الوجود الإسلامي في الغرب. تضاف إلى ذلك عوائق الاندماج في المؤسسات الغربية، التي تعود في معظمها إلى إرادة هـذه المؤسسات في فرض مشروطية من جنس ثقافي تصادم بها الهوية الإسلامية، وربما تصادر بعض تجلياتها التي يمكن أن تربك مبادئ العلمانية الغربية من مثل أداء الصلاة وارتداء الحجاب وصوم رمضان. إن توزع معركة المثقف المسلم في الغرب بين هـذه الجبهات الثلاث: تخلف عالم الإسلام، وهامشية الوجود الإسلامي في الغرب، والضغوطات التي يواجهها من قبل مؤسسات الغرب، يفرض عليه عدم التوقف عند امتلاك الخلفية الإسلامية فحسب، فهي تستلزم مشروعا حضاريا شاملا ورؤية استراتيجية عميقة لأولويات النهوض الحضاري للأمة، ولدور الوجود الإسلامي في هـذا النهوض، وإسهام المثقف فيه.

        ولعل نمو سرعة وسائل الاتصال ودقتها، مع زمن العولمة المعلوماتية سيمهد السبيل أكثر أمام العقول الإسلامية المهاجرة للقيام بدور الناقل الوسيط لأوطانها، ولفرض توجهات حقوقية وتنموية أكثر قسطا ونجاعة في العالم الإسلامي. كما سيسمح لها باتساع أفق أكبر في الاستفادة من التجربة الغربية وفي تعميق منهج المقارنة في تصور مدارس الغرب ومحصولاته. [ ص: 137 ]

        إن وزن أمة ما إنما يقاس بصفاء عقيدتها، وعمق عقلانيتها، وشمول مشروعها في الوجود. وإن المخزون البشري العلمي هـو منطلق التجلي الحضاري لهذا الوزن، فمن غير الوعي بقيمة دوره الريادي لن يتحقق للهجرة تقدم نوعي.

        إن وتيرة جفاء مستمرة تحكم علاقة نخبة الوجود الإسلامي في الغرب بقاعدته، شبيهة بصورة الفراق والتوتر السلبي الذي يقود مجمل علاقة هـذه النخبة بأنظمة أوطانها الأصلية وأنساقها. ولئن بدا لنا الميل إلى تفسير ذلك بضعف في الوعي العام بأهمية الاستفادة من العقول المهاجرة وضعف في وعي هـذه النخبة بجدوى الإفادة من معارفها وتجربتها، فإن المستفيد الوحيد من هـذه العلاقة المرضية هـو الغرب ومؤسساته التغريبية التي من مهامها الأساسية ملاحقة ضعف حس الانتماء للهوية لدى العقول المهاجرة الإسلامية، قصد التأثير على إرادتها في الانخراط في قضايا الأمة وعلى مناهج تفكيرها وتصورها للقيمة.

        إن المسئولية كبيرة في تحويل الزخم الهائل من الطاقات العلمية والفكرية الإسلامية في الغرب إلى مؤسسات متخصصة، بالمعنى الجديد للتخصص المتعدد المقاربات، وفي إيجاد المؤسسات البحثية الوسيطة لخدمة المؤسسات التنموية الإسلامية العامة، سواء داخل ديار الغرب أو في أوطاننا الإسلامية الأصلية. [ ص: 138 ]

        لقد تطورت رؤية الغرب لدور المثقف، من موقع الفيلسوف المنظر من وحي صورة فلاسفة الأنوار، والعالم المخبري من وحي نماذج النهضة العلمية والتقنية مثل « باستور » و « اينشتاين »، إلى المثقف العضوي «لغرامشي» من خلال دور جماعات الضغط ومراكز التفكير (ThinK TanKs) . ولعلها المفارقة أن يتواصل السؤال داخل المجتمع الإسلامي حول مشروعية دور المثقف، ونحن ننتمي لأمة العلم، عقيدة وتاريخا، وكان لنا شأن كبير في ترسيخ تقاليد السفر والترحال العلمي بين شعوب العالم، بكل أديانه وطوائفه، في ظل القرون الطويلة من إشراقة نهضة المسلمين على العالم.

        لقد اعتاد الخطاب الإسلامي مناشدة نهضة عامة المسلمين، دون الالتفات الكبير إلى خاصتهم، على اعتبار أنها المعنية بريادة هـذه النهضة والأكثر تأهلا لها، ولكن هـذا الفهم هـو عكس منطق الأشياء؛ لأن مشكلات تشتت طاقات الأمة تعود بالأساس إلى طبيعة عقولها المفكرة، التي يفترض أن تقود تربية الأجيال وتغيير نمط التفكير ونسق الحياة الباليين. إن الوعي بخطورة وحساسية العقول الإسلامية المهاجرة في ترشيد الساحة الفكرية الإسلامية، هـو بداية إسهام حضاري فعلي للمفكر المسلم في معركة التغيير. [ ص: 139 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية