الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        من الهجرة إلى المواطنة

        انتقال هـجرة المسلمين نحو الغرب إلى مواطنة، وعلاقة هـذه المواطنة الجديدة بمشاعر الوطنية تجاه العالم الإسلامي، وعلاقتها بالهوية، وتداخل وضع المواطنتين، كل هـذه زوبعة من نماذج لأسئلة حساسة تمر بها تجربة توطين الهجرة الإسلامية في الغرب، وتطبع خطابها وخياراتها. هـناك إجماع لدى المحللين والدارسين حول تصاعد الخط البياني للمهاجرين المسلمين الحاصلين على الجنسيات الأوروأمريكية. ففي فرنسا مثلا حوالي 40 % من الجالية المغاربية يحصلون على الجنسية سنويا، في حين يفوق الذين هـم دون سن الرابع عشر من هـذه الجالية 40 %، وذلك يعني أن مستقبل المواطنة الفرنسية من أصول إسلامية واعد، رغم ما يمكن أن يوحي به تصاعد النـزعات العنصرية من ضعف الوجود الإسلامي وتراجع ميزان قواه.

        لقد تطورت هـجرة المسلمين إلى الغرب من هـجرة مؤقتة إلى هـجرة دائمة، ثم إلى مواطنة، ولا يمكن أن نعزو ذلك إلى إرادة ذاتية فحسب، فتهاوي نسبة النمو السكاني من الغربيين الأصليين دفعت نحو سياسة تسهيل عملية التوطين. كما لا يمكن أن تحجب معاينة هـذا الاتجاه التوطيني عمق الهواجس النفسية والفكرية التي تعتمل جوارح المسلمين بالغرب، والتي تدور في فلك السؤال عن التعايش [ ص: 140 ] بين هـويتي المواطنة الأصلية والغربية. فليس مبعث الحرج الذي أخر الكثيرين عن التوطين هـو خيال المجازر الدامية التي صمم لها الحضور الغربي الاستعماري ونفذها في ديار الإسلام فحسب، بل هـي مشكلة فكرية حضارية شاملة تتصل بمفهوم الانتماء والمواطنة والوطنية، التي ساهمت كثيرا في غياب تصور استراتيجي لتوطين الإسلام في الغرب.

        لقد واجه التصور الإسلامي المعاصر إشكالية المعادلة بين الانتماء لعالمية الإسلام والولاء المطلق له، وبين العصبية أو الحمية القومية التي نطلق عليها وطنية، بالمصطلح المعاصر. فحين عرف أبو الأعلى المودودي مهمة المسلمين المعاصرة بأنها «مهمة عالمية، خلاصتها العمل بكافة الطاقات الأخلاقية والذهنية والمادية لتنفيذ قانون الفكر والعمل، الذي أسنده الله إلى محمد عليه الصلاة والسلام » [1] ، كان لسيد قطب فهما إطلاقيا لها، فهدف الإسلام في تصوره «لم يكن تحقيق القومية العربية، ولا العدالة الاجتماعية، ولا سيادة الأخلاق، ولو كان الأمر كذلك لحققه الله في طرفة عين، ولكن الهدف هـو إقامة مجتمع الإسلام الذي تطبق فيه أحكام القرآن تطبيقا حرفيا، وأول هـذه الأحكام أن يكون الحكم نفسه لله» [2] . [ ص: 141 ]

        إن مثل هـذه المنطلقات المثالية في تصور الولاء لله ورسوله، التي تصادر في مدلولها ضمنا الولاء لعشيرة وأهل وموطن، إنما صنعت منهجا صداميا بين الانتساب للأمة والانتساب للوطن، أدخل تجربة الإصلاح الإسلامي المعاصر في معارك وهمية وجدل عقيم أخرجها من سنن التاريخ لفترات طويلة. فلقد فهمت المعركة الحضارية الإسلامية المعاصرة منذ فجرالنهضة فهما شموليا، إذ تحرير الأمة من تخلفها يقتضي تحرير أوطانها من هـيمنة المستعمر وقبضة تبعيته.

        غير أن تنامي مقولات القومية العربية بالمعنى الشعوبي، والقوميات "القطرية" و "الإقليمية"، وحتى العرقية الضيقة التي تعتمد في معظمها العلمانية الغربية مرجعية وإطارا للتفكير، والتي يفترض مصادمتها لثوابت الدين في وجوه مختلفة، كل ذلك أدخل مجالا متمددا في الفكر الإسلامي في جدل «العالمي» و «الوطني» ألهاه كثيرا عن إدراك تطور وتعقد مهمة التغيير الحضاري في أرجاء أوطاننا أمام تغول العالمية الفعلية للغرب. فمن قبيل المفارقة مواجهة عالمية التحكم الغربي بعالمية الأماني التي سادت الخطاب الإسلامي.

        إن بسط النفوذ العالمي للغرب هـو مرحلة متقدمة بعد مرحلة البناء الداخلي الوطني الذي رسخه من خلال إقامة أنظمته الديموقراطية وإنجاز تجاربه العلمية والتكنولوجية وتهيئة اقتصادياته [ ص: 142 ] المحلية للاضطلاع بدور دولي. لقد أدرك جمال الدين الأفغاني قيمة المعادلة الوطنية لمواجهة التغريب، «فلا جـامعة لقوم لا لسان لهم، ولا لسان لقوم لا آداب لهم، ولا عز لقوم لا تاريخ لهم، ولا تاريخ لقوم إذا لم يقم منهم أساطين تحمي وتحيي آثار تاريخها فتعمل عملهم، وتنسج على منوالهم. وهذا كله يتوقف على تعليم وطني، تكون بدايته الوطن، ووسطه الوطن، وغايته الوطن» [3] .

        إن الفهم الإسلامي للوطنية يقوم على رابطة روحية عميقة، عنوانها العقيدة، وفلسفتها الاستخلاف، فتطبيقاته سواء ضمن جغرافية الغرب أو جغرافية العالم الإسلامي تتنـزل ضمن مرجعية واحدة للجغرافية، وهي أن الأرض كلها لله. من هـذا المنطلق تحرر تيار «الوطنية الإسلامية» الذي ساد فكر النهضة من عقدة الخوف من الروابط القومية «فواجب أن يعمل الإنسان لوطنه، وأن يقدمه في العمل على سواه.. وواجب أن نعمل لإحياء الوحدة العربية وتأييدها ومناصرتها..باعتبارها الثانية في النهوض..وواجب أن نعمل للجامعة الإسلامية، باعتبارها السيادة للوطن الإسلامي العام..ولا تعارض بين هـذه الوحدات بهذا الاعتبار، كل منها يشد أزر الأخرى ويحقق الغاية منها» [4] . [ ص: 143 ]

        حين ( سئل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يا رسول الله: أمن العصبية أن يحب الرجل قومه؟، أجاب: لا، ولكن من العصبية أن ينصر الرجل قومه على الظلم ) [5] . فليست العصبية منبوذة بذاتها، وإنما هـي مشروطة بصلاحها وعدلها وخيريتها الإسلامية، بل وقد تصبح بهذه المعيارية من صفات الأفاضل الأخيار استنادا إلى الحديث الشريف: ( خيركم المدافع عن عشيرته ما لم يأثم ) [6] . إن ارتباط المسلم المهاجر بالمواطنة الغربية قد تحركه دوافع الغيرة على حقوق جماعته المسلمة، ولكنه لن يكون له وزن وتأثير ما لم يرتكز على البعد الإنساني للهوية الإسلامية: ( الناس بنو آدم، وآدم من تراب..... ) [7] .

        فخلفية رباط الأخوة الإنسانية هـي التي يجب أن تقود الرغبة في تقديم الأنموذج الإسلامي الرائد في أخلاق المواطنة، فهي خلفية الدعوة إلى الإسلام، دين الفطرة وخطاب التوحيد الذي أجمعت عليه دعوات الرسل: ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) (النحل:36) .

        إن رسالة مواطنة المسلم في الغرب هـي رسالة عالمية الإسلام وإنسانيته. ففي عقد المواطنة الذي يصله بالغرب صورة حية وعميقة [ ص: 144 ] لعالمية رسالة الإسلام، التي لا تؤمن بغير حدود الله وضوابطه في التعامل مع الحدود العرقية والثقافية والجغرافية المصطنعة، التي وضعها الإنسان.

        ولا تعارض بين أن يذود المسلم عن حرمات موطنه الأصلي ووطنه الجديد طالما في فعله نية في الصلاح وفكرة في الإصلاح الإنساني، تنبني على فهم حضاري إنساني للانتماء الوطني. إن حالة التمزق التي يمكن أن تعتري الهجرة الإسلامية في الغرب بين الالتزام بمشكلات العالم الإسلامي، والإسهام بالأنموذج الإسلامي، والنهوض والارتقاء بمكانة الإسلام في الحياة الغربية، يعود إلى خلل في تصور وحدة الانتماء لحضارة الإسلام.

        فالانتماء لدائرة الإسلام في لحظة تاريخية معينة، ليس هـو انتماء بسيطا وسطحيا لدائرة جمـاعة فرقية أو قومـية شعوبـية وعرقية، أو حتى جزء جغرافي من العالم اصطلح عليه الغرب بعالـم الإسلام أو العالم الإسلامي، إنما هـو انتماء لدائرة الأمة المركبة، أمة الرسالة، أي أمة المسلمين، وأمة الدعوة، أي باقي الإنسانية التي ندعوها إلى الإسلام، والتي نعتقد في سلامة فطرتها وجبلتها الإسلامية. فالهجرة هـي مرحلة ضرورية في الدعوة من أجل أن يتسع أفق أمة المسلمين نحو أمة الإسلام، أمة البشرية جمعاء. [ ص: 145 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية