2- هـجرة العقول المسلمة بين السلب والإيجاب
منذ بعض العقود تكثفت هـجرة أعداد كبيرة من العلماء والمفكرين المسلمين من بلادهم بالمشرق إلى أوروبا وأمريكا حتى أصبح عددهم اليوم يقدر بعشرات الآلآف إن لم يكن بالمئات، ومنهم من بلغ في الريادة العلمية الدرجة الأولى من بين علماء العالم ومفكريه، وهم يساهمون إسهاما فاعلا في تقدم الحركة الحضارية في جميع وجوهها. وبقطع النظر عن الأسباب التي أدت إلى تفشي هـذه الظاهرة وتناميها بمرور الزمن، والتي ليس هـذا محل بحثها، فإنها ظاهرة ذات تأثير بالغ على كل من طرفي البلاد، المهاجر منها والمهاجر إليها، على حد سواء، إلا أنه تأثير يختلف في طبيعته بعض الاختلاف بين الطرفين. [ ص: 43 ] أما بالنسبة إلى البلاد المهاجر إليها، فإن هـذه العقول المهاجرة تعتبر رصيدا إضافيا في مجال الريادة العلمية والفكرية، تساهم إسهاما فاعلا في التقدم الصناعي والتكنولوجي، وتسرع من حركة التنمية الشاملة فيها، وهو أمر مشهود به من قبل أهل تلك البلاد أنفسهم، كما يدل عليه حصول بعض العلماء المسلمين المهاجرين على جائزة نوبل ، وهي الشهادة العالمية العليا على الريادة والعطاء في المناشط العلمية على اختلافها.
وأما بالنسبة إلى البلاد المهاجر منها، فإن تأثير هـجرة العقول يبدو في طرفه القريب تأثيرا سلبيا عليها، إذ هـجرة العقول منها يعتبر نقصانا من رصيدها الذي به تتحرك نحو نهضتها، وذلك بما ينقص بتلك الهجرة من إمكانيات الابتكارات والكشوف العلمية والفكرية التي من شأنها أن تطور الحياة وتنميها، وإن كان بعض الباحثين يشكك في أن يكون لتلك العقول المهاجرة تأثير إيجابي فـي البلاد التي هـاجرت منها فيما لو بقيت فيها، إذ هـي حينئذ سيكون مآلها الانكماش والعطالة كالعقول التي لم تهاجر، وذلك بحسبان أن المناخ العام في تلك البلاد غير مساعد على الانطلاق في سبيل الريادة والابتـكار والعطاء، وهو ما كان أحد أسباب هـجرتها إلى بلاد يتوفر فيها ذلك المناخ. [ ص: 44 ] ولكن قد نظفر بنتائج أخرى لظاهرة هـجرة العقول الإسلامية مخالفة للنتائج الآنفة البيان لو وسعنا زاوية النظر إليها، بحيث تتجاوز في التقدير حدود الربح والخسارة، بميزان التنمية المادية، لتمتد إلى مساحات تشمل مستقبل الدعوة الإسلامية فيما يمكن أن يكون لها من انتشار بتلك الهجرة في ديار الغرب من شـأنه أن يثمر من النـتائج ما يعود بنفع حضاري عام، مادي ومعنوي، لكل من طرفي الهجرة، المهاجر منه والمهاجر إليه، على حد سواء، ونحن نعني هـنا ما أشرنا إليه آنفا من البعد الرسالي في هـجرة العقول الإسلامية إلى بلاد الغرب.
إن العقول الإسلامية المهاجرة إلى الغرب هـي من صميم الأمة فيما ترسب في مخزونها الثقافي من بعد رسالي ظل ثابتا فيه مهما أتت عليه من أحوال النشاط والخفوت، بل إن هـذه العقول بما هـي من صفوة الأمة في قدراتها العقلية وفي درجاتها العلمية وفي مستوياتها الفكرية لعل ذلك البعد الرسالي المترسب في ثقافتها يكون أقوى عندها منه عند غيرها من سائر أفراد الأمة وجماعاتها، وهي قوة ربما ظهرت عند بعضهم في حال نشاط فاعل، وربما كانت عند بعضهم الآخر في حال كمون، لكنها لا تلبث عند الأكثرين منهم أن تنهض إلى حال النشاط إذا توفرت لها العوامل المناسبة. [ ص: 45 ] وإذا ما استنهض هـذا البعد الرسالي في العقول الإسلامية المهاجرة ليصبح نشيطا فاعلا فإنه سيمتد بالدعوة الإسلامية بما تتضمنه من قيم إيمانية وخلقية واجتماعية إلى بلاد المهجر الغربي، وستتكون من ذلك حركة تفاعل حضارية بالغة الأهمية تتلاقح فيها تلك القيم الإسلامية ذات البعد الإنساني بما يتوفر عليه الغرب من كسوب العلوم الكونية والأنظمة الإدارية، وتكون تلك العقول المهاجرة واسطة تبليغ إيجابي تنقل الحسنات من كل طرف إلى الآخر، فإذا التقدم المادي بالبلاد الغربية يتعزز بالقيم الإسلامية في أبعادها الإنسانية، وإذا بتلك القيم عند المسلمين تتعزز بكسوب الغرب من العلم الكوني وأنظمة الإدارة، وإذا بذلك كله يفضي إلى مدخل مهم من مداخل التلاقح الحضاري الذي يبلغ فيه خير الإسلام إلى الناس، ويستفيد فيه المسلمون مما عند هـؤلاء الناس.
يتبين إذن أن ظاهرة هـجرة العقول المسلمة إلى الغرب هـي ظاهرة تنطوي من مكونات الخير والمنفعة للأمة الإسلامية وللإنسانية عامة على ما يمكن أن يذهب بما قدر فيها من الوجوه السلبية، مما أشرنا إليه آنفا، وذلك حينما ينظر إليها من زاوية أرحب تجعل البعد الرسالي وما ينجر عنه من تفاعل حضاري مثمر المحور الأساس في التقدير، والمحور الأساس في معالجة هـذه الظاهرة وتوجيهها. [ ص: 46 ] وحينما يكون النظر إلى هـجرة العقول المسلمة على النحو الذي وصفنا فإن ما يثور اليوم في محافل الحجاج في هـذه القضية من لجاجة تنحو في تيارها العام منحى تشاؤميا، جراء الاقتصار في تقدير الظاهرة على جوانبها السلبية، يمكن أن ينعدل بما يتجه إليه البحث فيها من تقدير شامل تكون تلك الجوانب عنصرا من عناصره فحسب، وتكون الجوانب الإيجابية متمحورة على البعد الرسالي فيها، العنصر الأكبر في ذلك التقدير، فيحظى بمزيد من البحث والتحليل والتوجيه، وذلك ما يستلزم بالأخص البحث العميق في ثلاثة من جوانب ذلك العنصر: محتوى البعد الرسالي في ظاهرة هـجرة العقول المسلمة، والمؤهلات الرسالية في ذلك البعد، وسبل استنهاضه ودفعه للفاعلية والعطاء.