2- التعليم عند المسلمين:
اقترن ظهور الإسلام بالدعوة إلى التعليم منذ بداية التنـزيل، حيث «إن الرسالة لم تبدأ بالدعوة إلى إقامة الشعائر -بمعناها الخاص من صوم وصلاة وحج وزكاة- ولا بالحديث عن أركان الإسلام وأسـس بنائه، ولا ببيان نظام التعامل الاقتصادي، ولا بمرتكزات الحياة السياسية ومقوماتها، ولا ببيان القيم الأخلاقـية، ولا حتى ببيان أركان العقيدة، وإنما بدأ بمفتاح ذلك كله ومحور ذلك كله، بدأ بـ ( اقرأ ) [1] .
التعليم في عصر الرسول وأصحابه: كانت بداية التنـزيل هـي نفسها بداية التعليم؛ إذ من المتفق عليه بين العلماء أن أول الآيات نزولا [2]
قولـه تعالى: ( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) (العلق:1-5) .
ففي هـذه الآيات دعوة صريحة إلى القراءة وحث على التعلم، وفي ذلك كله تنبيه لطيف وتوجيه سديد لأهمية التعليم [ ص: 49 ] وتعظيم لأمره في الإسلام، إذ بدأ الوحي بالدعوة إلى القراءة باسم الله، وذكـر القلم لأهميته في الـعلم والتعليم، وأن الله بفضل منه وكرم علم
الإنسان ما لم يعلم. وعليه، وبناء على ذلك، فإن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم هـي بذاتها مسيرة التعليم الإسلامي وتجسيد له في عصر التنـزيل، وأما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فقد تصدى الصحابة رضي الله عنهم لمواصلة التعليم على شاكلة مسيرة التعليم النبوي، ولهذا التشـاكل كانا بمثابة عصـر واحد. فأما سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد جعلها الله سبحانه وتعالى أسوة حسنة وقـدوة للأنام جميعا كما ورد ذلك في قولـه تعالى:
( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ) (الأحزاب:21) .
ومعنى ذلك أن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم منذ البعثة حتى الوفاة كانت سيرة تعليمية لتبليغ مفردات الإسلام جميعها لمن كان حوله من المسلمين.
وقد أدرك الصحابة رضي الله عنهم هـذا المغزى العظيم من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فكانوا حريصين على ملازمته ليلا نهارا، بل إن بعضهم نذر نفسه لملازمة الرسول صلى الله عليه وسلم ملازمة دائمة مثل الصحابي الجليل أبي هـريرة رضي الله عنه .
وأما من لم يتمكن من ملازمة الرسول صلى الله عليه وسلم الوقت كله فقد اهتدى بنور الله لأمر مكنه من تعلم السيـرة النبويـة ومتابعة ما أنزل كله، وإن لم يلازمه ملازمة مستمرة، وذلك بأن يتخذ خليلا له يتناوبان على ملازمة الرسول صلى الله عليه وسلم والسماع منه والتعلم، حرصا على ألا يضيع شيء مما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغه للمؤمنين. [ ص: 50 ]
إن التعليم في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم كان تعليما منفتحا ومستمرا؛ وأعني بالمنفتح أنه كان تعليما للناس جميعا وليس تعليما نخبويا، فليس خاصا بجنس دون آخر ولا بفئة دون أخرى، فلم تكن هـناك حجب بين المعلم صلى الله عليه وسلم الرسول والمتعلم وهم صحابته الذين عاصروه ورضوا بالإسلام دينا. زد على ذلك أنه كان مستمرا حيث استغرق هـذا التعليم حياة الرسول صلى الله عليه وسلم منذ البعثة حتى وفاته، إذ الرسـول صلى الله عليه وسلم نفسـه حصر مهمته في التعليم كما ( قال: «إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلما ميسرا ) [3] . وهذا التبليغ يؤدى عن طريق عملية تعليمية يتلازم فيها القول والعمل معا.
ولقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتبليغ والبيان معا؛ فلم يستغن عن التبليغ بالبيان ولا بالبيان عن التبليغ. والسبب في ذلك أن التعليم بتبليغ ما أنزل إليه لا يجد نفعا إذا لم يتبين للمبلغ المراد منه، بل لا بد من بيان وتوضيح ما أمر بتبليغه.
إن الناظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته الشريفة يجد أنه صلى الله عليه وسلم كان حريصا على تعليم الناس، وكان يقصد من عملية التعليم هـذه هـداية الناس جميعا لدين الله، ولذا، فقد كان يعلم الناس دون ملل أو فتور، وفي حالتي الضعف والقوة؛ وكان تعليمه الناس على طريقتين:
أولهما: وهي الأكثر، أن يملي على حاضري مجلسه من القرآن والتربية الخلقية والمواعظ وأخبار الأنبياء السابقين. والثانية: جوابه عن [ ص: 51 ] أسئلة السائلين والمسترشدين وما يدور بينه وبين أصحابه من أطراف الحديث [4] . وقد بلغ من حرص النبي صلى الله عليه وسلم على العلم والتعليم أن جعل فداء الأسرى ببدر مقابل تعليم القراءة والكتابة لعشرة من أبناء المدينة [5] .
وأما إذا انتقلنا للكلام على التعليم في عصر الصحابة رضي الله عنهم فلا نكاد نجد فروقا كثيرة بين العصرين، إذ إن مسيرة التعليم كانت على نسق واحد من لدن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى عصر الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ، مع ملاحظة تطور ونمو أنماط التعليم تبعا لناموس تطور المجتمع الإسلامي ونموه. والسبب في ذلك راجع إلى كون الصحابة رضي الله عنهم تشربوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم والمتمثلة في التعلم ثم التعليم، وبذلك تمكنوا من نشر الدعوة الإسلامية وتبليغها لمن استطاعوا ملاقاته من بني البشر، وهذا الأمر «جعل الصحابة رضي الله عنهم حريصين على علم ما يصدر منه وربما تناوبوا لحضور مجلس النبي صلى الله عليه وسلم من علم القرآن ومعانيه وسنة رسـول الله صلى الله عليه وسلم ومواعـظه وأقضيته، وتصدى الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاة النبي لبث ذلك» [6] العلم بعد أن تعلموه وعملوا بما فيه.
لكن لما توسع الصحابة رضي الله عنهم في فتح البلدان، شرقا وغربا، ودخل في الإسلام أمم لا عهد لها باللغة العربية، لغة الخطاب الشرعي، كان من [ ص: 52 ] الواجب على هـذه الأمم تعلم قدر من العربية يمكنهم من قراءة القرآن الكريم في الصلاة، وفهم الخطاب الشرعي وما تضمنه من أمر ونهي. هـذا الأمر، جعل الأمم غير العربية التي دخلت في الإسلام تقبل إقبالا منقطع النظير على تعلم اللسان العربي رغبة منها واختيارا لا رهبة واضطرارا. ولذا، أصبح اللسان العربي يكتسب بطريق التعلم والتعليم بعد أن كان سليقة في المسلم العربي آنذاك، يتكلم فيعرب عما في نفسه، ويسمع الخطاب الشرعي فيفهم المراد منه.
وفي العصر الأموي حافظ التعليم على نفس النسق الذي تقدمه، وإن لم يقم بتطويره، إذ إن أبا عمر الكلبي ذكر المسجد الجامع بدمشق الذي بناه الأمويون وكثرة علمائه بقوله: «عهد المسجد الجامع، يعني بدمشق، وإن عند كل عمود شيخا وعليه الناس يكتبون العلم» [7] . ولذا، فنجد أن أبرز التابعين الذين تلقوا تعليمهم من الصحابة رضي الله عنهم إنما كانوا في العصر الأموي، إذ إن الحروب والفتن الداخلية مع مختلف الفرق السياسية والعقدية وكثرة الفتوحات والغزوات لم تمنع العلماء من التعليم ولا طلبة العلم من التعلم.
إلا أن العصر الأموي قد شهد نهضة لغوية وأدبية كان لها أثرها في حفظ اللغة وتدوينها وتعليمها، بل إن الخلفاء الأمويين أنفسهم حافظوا [ ص: 53 ] على «الصبغة والثقافة العربية، فنشـأوا أبناءهم بالبادية يتعلمون فيها الشعر والأدب واللغة، ويكتسبون الملكة والفطرة والطبع، ويعقدون المجالس الأدبية ويستدعون الرواة والأدباء والشعراء» [8] . وهكذا شجعت الدولة الأموية تعلم وتعليم وحفظ اللغة العربية وما تفرع عنها من أدب وشعر، ولذا فقد برز في هـذا العصر ثلة من الشعراء أبرزهم على الإطلاق جرير والفرزدق والأخطل .
أما في العصر العباسي، الذي يعد بحق العصر الذهبي للعلم والتعليم في تاريخنا الإسلامي، فقد ازدهرت الحياة العلمية ازدهارا كبيرا. وكان المجتمع الإسلامي آنذاك ملتقى لمختلف العلوم وشتى الفنون. ومجرد ذكر أنواع العلوم المعلومة لدى المسلمين في العصر العباسي خير شاهد على ازدهار المعارف وتطورها في هـذا العصر، فنجد العلوم الشرعية من تفسير وحديث وفقه وكلام وغيرها، وعلوم العربية وآدابها من نثر وشعر ونحو وغيرها، والعلوم الطبيعية من كيمياء وفيزياء، وعلوم الرياضيات، وعلم الطب والفلسفة وغيـرها من العلوم الأخرى التي اشـتغل بـها المسلمون في العصر العباسي، وكان لهم أثر كبير في تطويرها وتنقيحها ونشرها في المجتمع. [ ص: 54 ]
فهذا التطور العلمي والتعليمي والتراكم المعرفي الذي شهده العصر العباسي لم يحدث كيفما اتفق، بل كان وراءه الخلفاء العباسيون بما بذلوه من جهد في نشر العلم والتشجيع على التعليم.
وفضلا عن ذلك، فإن هـذا التطور العلمي لابد أن يقترن بنمو حركة التعليم ونشاطها، وحسبنا شاهدا على ما نقول كثرة مواضع التعليم ووفرتها في هـذا العصر، بل لقد استحدثت مواضع لم تكن موجودة في العصر الأموي ومن أهمها المدارس التي ظهرت في العصر العباسي بوصفها موضعا مهما للتعليم، وكتب لها القبول عند الناس فانتشرت انتشارا سريعا حتى إن كل مدينة بنيت فيها مدرسة. يضاف إلى ذلك، أن المدن الكبرى كان بها عدة مدارس.
إن الاهتمام بالكتب وجمعها وتكوين مكتبات زاخرة بمختلف المصنفات في شتى الموضوعات كان له أثر كبير في نمو الحركة العلمية وتطورها في العصر العباسي.
وعلى الجملة، فإن الحركة العلمية والنشاط التعليمي قد بلغ ذروته في هـذا العصر، بحيث لم يخل فرع من فروع العلم والمعرفة في زمنهم من علم يبحثون فيه توسيعا لمحتوياته وتطويرا لمضمونه وتصحيحا لأخطائه وإضافة لما لم يتعرض له المتقدمون. فطوروا العلوم التي نشأت في المجتمع الإسلامي من فقه وحديث وتفسير وكلام ولغة وأدب وغيرها، كما استفادوا من [ ص: 55 ] العلوم المنقولة إليهم من التراث الإنساني مثل التراث اليوناني والفارسي
وغيرهما. ولذا، فلا غرو أن يعد العصر العباسي العصر الذهبي للعلم والمسيرة التعليمية، ولذلك كثرت المؤلفات الحديثة حول معالم الحضارة العلمية في العصر العباسي، واهتم الباحثون في تاريخ العلم والعلوم عند المسلمين بهذا العصر، بل قد أفرد هـذا العصر من قبل بعضهم بتآليف ركز فيها أصحابها على الحياة العلمية والفكرية فيه، التي تعد بحق من أهم العناصر في هـذه الحضارة الإسلامية.
وفي المغرب الإسلامي، اعتنى المغاربة أول أمرهم بعلوم الشريعة وعلوم اللغة العربية لا يخلطون بها غيرها من العلوم. ولذلك نجد أن كتب المغاربة الأولى تدور موضوعاتها حول علوم الشريعة من فقه وتفسير وحديث، وكان لهم اعتناء بأمر التعليم منذ الفتح، حيث إن المساجد والكتاتيب التي تعـد أهم مواضـع التعليم عند المسـلمين انتشرت انتشارا سريعا.
وبمرور الزمن انتشرت كثير من العلوم وازدهرت في المشرق الإسلامي دون مغربه، فلما نما خبرها إلى أهل المغرب لم يكن أمامهم من طريق للحصول عليها إلا بالرحلة للمشرق والأخذ عن علمائه، ولذلك كثرت الرحلات من المغرب إلى المشرق، وقد دفعهم إلى ذلك حبهم للعلم وشغفهم على تحصيله. [ ص: 56 ]