الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          4- الاعتناء بالبحث العلمي

          تقدم الكلام في المطالب السابقة على أهم الأمور التي تساهم في تنمية التعليم في مختلف المجتمعات الإسلامية، ونتعرض في هـذا المطلب الأخير إلى البحث العلمي، وأن الاهتمام بأمره يعد أمرا ضروريا للرقي بالعلم وتطويره، للخلاص من التراجع الحضاري الذي تعيشه الأمة الإسلامية. ومن الأمور التي دعتني للحديث عن هـذا الأمر هـو أن كثيرا من الجامعات في العالم الإسلامي عارية من وجود مركز للبحوث والدراسات، ومعنى ذلك فقدان عنصر مهم في الدراسات الجامعية وهو التشجيع على القيام ببحوث ودراسات نافعة في مختلف التخصصات العلمية وشتى ميادين المعرفة. ثم إن عدم وجود مراكز للبحوث والدراسات في كثير من الجامعات يغرس في وعي المتعلمين أنه لا فائدة من البحث العلمي ما دام أولو الأمر ليس لهم أي اهتمام به، وذلك على الرغم من أن مثل هـذا الاستنتاج قد يكون خاطئا، وأن من الممكن أن يكون عدم وجود مركز للبحوث في الجامعات ليس سببه إهمال أمر البحث العلمي، وإنما سببه الحقـيقي العجز المالي، حيث إن الميزانية المالية المخـصصة لتلك الجامعة لا تمكنها من إنشاء مركز للبحوث.

          وأيـا ما كان الأمر، فإن على المؤسسات التعليمية أن تجعل للبحث العلمي أولوية وعناية خاصة، إذ لا يمكن التغلب على التخلف العلمي وقهره دون أن تولي أهمية قصوى للبحث والدراسات العلمية. زد على ذلك، أن العالم الإسلامي إذا كان يريد إرادة جادة وعزيمة قوية لإحداث [ ص: 146 ] تنمية مستقلة، فإن الاشتغال بالبحث العلمي خليق بأن يهيئ للأمة طاقات وكفاءات تجعلها تعتمد على ذاتها، لأن «التعليم والبحث العلمي من الأعمدة الأساسية للتنمية المستقلة في الوطن العربي، ودونهما لا يمكن أن يكتب لها النجاح، لأن التعليم والبحث العلمي مرتبطان بالإنسان، الذي هـو وسيلة لتحقيق التنمية المستقلة وأيضا غايتها» [1] ، ولاسيما أني أومأت سابقا إلى أن مفهوم التنمية في المنظور الإسلامي لا يتحقق إلا إذا كانت هـناك استقلالية واعتماد على الذات، بعيدا عن التبعية والاعتماد على الآخرين في تنمية العالم الإسلامي.

          وبناء على ذلك، فإن المؤسسات التعليمية ومراكز الدراسات والبحوث في العالم الإسلامي يجب عليها أن تضاعف من جهودها تجاه البحث العلمي، تشجيعا وتمويلا واستقطابا لنـزيف الأدمغة والكفاءات الإسلامية التي يتعرض لها العالم الإسلامي يوما بعد يوم. فإذا قامت المؤسسات التعليمية في مختلف بلدان العالم الإسلامي بهذا الواجب البالغ في الأهمية غاية ليس بعدها غاية، فإنها ستحقق نهضة علمية واستقلالية في التنمية، ولنفرد لكل من التشجيع على البحث العلمي والتمويل واستقطاب الكفاءات المهاجرة جملا يسيرة فيها بيان للطريقة المثلى للاعتناء بالبحث العلمي. [ ص: 147 ]

          أ - التشجيع على البحث العلمي نظرا لأهمية البحث العلمي في النهضة العلمية وتنميتها نجد أن الدول المتقدمـة تـهتم به اهتماما بالغا، مما يدعو إلى الحيرة والتعجب من التكاليف الباهظة التي تنفق في هـذا الميدان. لكن يزول هـذا التعجب وتذهب هـذه الحـيرة إذا أحطنا علما بما يقوم به البحث العلمي من نشاط وفاعلية وفوائد داخل المجتمع مقابل تكاليفه، فنجد أن التكاليف لا تساوي شيئا إذا ما تم مقابلتها بما أحدثه من تطور وتنمية، وأن نفعه يتعدى الباحث للمجتمع ككل. وقد أدركت الدول الغربية هـذه الحقـيقة المهمة، بـحيث «نـجد أن كل دولة تسعى بكل ما في وسعها لكي تقوم بالاستثمار الكثيف والفعال في أنشطة البحث والتطوير التجريبي. ولا مفر للدول التي تفشل في ذلك من أن تتوقع التخلف عن ركب التقدم» [2] ، بل إن دول العالـم الإسـلامي قد وقعت في هـذا «التوقع»، فتخـلفت نظرا لتخـلف البحث العلمي وقلة الإنتاج والإبداع.

          إن البحث العلمي في عالمنا المعاصر قد أصبح مختلفا عن البحث العلمي قديما، إذ كان يمكن إجراء بحث علمي بقلم وورقة، وتتم عملية البحث في عقل وذهن الباحث في الغالب. وأما اليوم فقد اختلف الأمر من حيث حجم الإنفاق المالي على البحث العلمي، والدليل على ذلك [ ص: 148 ]

          وجود مؤسسات وهيئات ضخمة مهمتها الإشراف على البحث العلمي وتقديم المساعدة والدعم المادي للباحثين، ولاسيما إذا كان البحث العلمي في مجال التقنيات أو الطبيعيات نظرا لما يحتاجه الباحث في هـذه الميادين من أجهزة وأدوات ومختبرات وغيرها.

          إن الدول الغربية تنفق إنفاقا سخيا على البحث العلمي إلا أننا نجد في مقابل ذلك قلة الإنفاق وضعفه في أقطار العالم الإسلامي، وعدمها أحيانا بالنسبة لبعضها. ومما يصور لنا هـذه المأساة أن «الإنفاق العالمي على البحث العلمي والتطوير تجاوز 10 بلايين دولارا منذ عام 1974م، وقد جمع وأنفق أقل من 3% من جملة هـذا المبلغ في الدول النامية» [3] كلها، فلا شك أن نصيب العالم الإسلامي أقل من ذلك بكثير. ولذا، فإن النتيجة التي نصل إليها متأسفين أن المؤسسات التعليمية قد حققت عجزا فادحا، ولاسيما في المستوى الجامعي بالنسـبة لقلة الإنتاج كما ونوعا، مما حال بين هـذه المؤسسات وبين تحقيق أهدافها، إذ إن البحث العلمي يشكو ضعفا في التمويل في بعض بلدان العالم الإسلامي وعدمه في بعضها الآخر، باستثناء عدد قليل من الأقطار التي تشجع عليه، ماديا ومعنويا. وهذا العجز المالي المؤسسي تسبب في عدم توفر الظروف الملائمة للعلماء والباحثين، ناهيك عن أن مثل هـذا العجز يؤدي بالباحث الجاد إلى أن يبحث له عن مكان آخر أو مؤسسة تعليمية أخرى أو مراكز بحوث [ ص: 149 ]

          خارج العالم الإسلامي. ومن ثم، فقد شكل هـذا الأمر أحد عوامل هـجرة الكفاءات أيضا، وقد يتواصل هـذا الأمر ويشهد استمرارا مستديما إذا لم توفر المؤسسات التعليمية في العالم الإسلامي ومراكز البحوث الحد الأدنى لعملية البحث والمساهمات العلمية لأبنائها ممن يشتغلون بالبحث العلمي.

          والحاصل أن أبسط نظرة فيما تبذله الدول الغربية من الجهد الكبير والمال الجم لتشجيع الباحثين والدارسين على الإنتاج في مختلف الميادين العلمية تكفي لإقناعنا بأن أمامنا طريقا طويلة جدا لابد من أن نسلكها قبل أن نبلغ ما بلغته الدول الغربية من الحث على البحث العلمي والتشجيع عليه. وهذه المشكلة أحدثت قصورا معيبا في حركتنا العلمية وتنميتها، مما أدى إلى تخلف علمي وتراجع حضاري، ناهيك عما تجلبه من سخرية واستهزاء من قبل المناوئين الذي يتربصون بنا الدوائر في كل وقت وحين. ولذا، فلابد من إصلاح هـذا الأمر إن كنا نريد الإصلاح حقيقة ونبتغي شهودا حضاريا غير متوهم، وإن كنا نريد أن نـنصح للعلم والتعليم في العالم الإسلامي ونقوم بترقيته وتنميته، وإن كنا نريد أن ننصح للباحثين والمتعلمين، فنخرجهم من الخمود والجمود إلى النشاط والإنتاج، لأن هـذا التقصير المخزي راجع إلى الإهمال من قبل المؤسسات العلمية ومراكز البحوث والدراسات للتشجيع على البحث العلمي في أغلب الأقطار الإسلامية.

          وعليه، فمن الأهمية بمكان أن تعتني المؤسسات التعليمية ومراكز البحوث في العالم الإسلامي بتشجيع البحث العلمي، ولكن قبل ذلك لا بد [ ص: 150 ] أن تحظى هـذه المؤسسات بالدعم المالي من قبل الدولة حتى تستطيع القيام بهذا الأمر الجلل. وأما التشجيع على البحث العلمي فضروب متعددة؛ منها تنظيم المسابقات في مختلف الميادين العلمية، وبمثل هـذا التنظيم نلفت أنظار الطلاب إلى أهمية البحث العلمي، فضلا عن شحذ أذهان المتعلمين للإنتاج العلمي. يضاف إلى ذلك مـنح جـوائز للمتفوقين في الدراسة والبحث لتكون عونا لهم وتشجيعا على الاستمرار في الإنتاج العلمي.

          وقد يكون التشجيع تارة بطباعة ونشر ما يقومون به من أبحاث ودراسات، إذ إن كثيرا من الباحثين في العالم الإسلامي على الرغم من أنهم لا يتلقون تشجيعا ماديا من قبل مراكز الدراسـات والبحوث، فإنهم لا يتلقون كذلك تشجيعا معنويا أيضا، وهو أهم بكثير من التشجيع المادي، بحيث تقوم دور النشر والطباعة بالتأسف والاعتذار عن عدم النشر، وإذا فتشت عن جرثومة الامتناع تجدها سببا ماديا تجاريا، حيث إن أصـحاب هـذه الدور يظنون ظنا أن ذلك الكتاب أو تلك الدراسـة لا تجد لها قراء، ولا يمكن تسويقها، بمعنى أنه لا يستطيع أن يبيع تلك الطبعة فليس هـناك ربح مادي من ورائها، ولكن مثل هـذا التصرف الأحمق يؤدي في الغالب إلى خسارة علمية كبيرة. وهكذا تخمد أنفاس كثير من الأبحاث بسبب هـذا التوجس الذي يصدق حينا ويكذب أحيانا.

          ولذا، فإن مراكز البحوث قد تساعد مساعدة عظيمة في إزالة هـذه المشكلة، وذلك بتشجيع الباحثين ولو بنشر ما يكتبون وإذاعته بين الناس، وفي ذلك تشجيع أيما تشجيع على البحث العلمي والإنتاج المعرفي. [ ص: 151 ]

          زد على ذلك، فإن من المؤسسات التعليمية المهمة مؤسسات البحث العلمي ومراكز الدراسات العليا، إذ إن للدول المتحضرة اعتناء شديدا بالبحث العلمي والدراسات التي يقوم بها أهل الاختصاص في مختلف العلوم والمعارف. ومما يدل على هـذا الاعتناء الشديد إنشاء العديد من مراكز البحث العلمي والمؤسسات المشرفة عليه، بحيث لا يخلو فرع من فروع العلم أو فن من فنون المعرفة من وجود مركز للبحوث تابع له، ليكون في خدمة من أراد أن يشتغل بأمر البحث ويمد له العون والمساعدة لتحصيل غايته وتحقيق رغبته.

          وبالمقابل، فإن الملاحظ أن خريج الجامعات في العالم الإسلامي، ولاسيما من الدراسات الجامعية العليا، بعد أن يفرغ من كتابة رسالة الماجستير أو أطروحة الدكتوراه، يتوقف عند هـذا الحد في التأليف والإنتاج العلمي، وليس ذلك بسبب عجزه عن القيام بأبحاث ودراسات جادة في تخصصه، ولكن بسبب عدم وجود مراكز للبحوث تشرف على هـذه العملية، وتقوم بالتمويل المادي، تشجيعا للبحث العلمي. فلو تتبعت كثيرا من خريجي الدراسات العليا في العالم الإسلامي لا تجد لهم إنتاجا علميا، إلا لبعض الأفراد القـلائل، وحتى هـؤلاء تجد إنتاجهم نزرا نظرا للتقصير المعيب من قبل المؤسسات العلمية من عدم بذل جهد لتأسيس مؤسسات للأبحاث العلمية، وحتى مراكز البحث القائمة تشكو إهمالا [ ص: 152 ] وقلة تمويل، لذلك أصبح من المحقق عند خريجي الجامعات في العالم الإسلامي أن الإنتاج العلمي والتفرغ للبحث صناعة لا تقوت صاحبها ولا تقيم أوده، ولا تكسبه كرامة واحتراما في الغالب، فإذا طلبت إلى العلماء أن يتفرغوا للبحث والإنتاج العلمي فقد طلبت إليهم أن يتفرغوا للبؤس والجوع، فضلا عن عدم الاحترام، ولذا فإنه لزاما على من يدبرون أمر التعليم في العالم الإسلامي أن يهتموا بتمويل البحث العلمي.

          ب - تمويل البحث العلمي إنه لمن السـخف أن نقـارن بين التمويل المالي للبحوث والدراسات في العالم الإسلامي والعالم الغربي، فالبون شاسع والفرق هـائل ولا وجه للمقـارنة. ولعل من الأفضـل لنا أن ندع المقارنة إلا إذا أردنا أن نقـف على حقـيقة هـذا الفرق الهائل، ونأخذ هـذا الأمر - تمويل البحث العلمي- مأخذ الجد، بحيث نتغلب على مشكلة التمـويل، لأن كثيرا من دول العالم الإسلامي لها مال وفير، لكن المشكلة في كيفية اسـتخدامه فيما ينبـغي أن يسـتخدم فيه واستعماله استعمالا حكيما، بدلا من تبذيره في أمور لا تنفع أو قليلة النفع. ولا أريد أن أطيل الكلام على أهمية وخطورة التمويل على البحث العلمي فقد تقدمت الإشـارة إلى ذلك في عدة مواضـع من هـذه الدراسة، ولكن أريد أن أشير إلى مصـدر واحـد يكون خيـر ممول لمراكز البحوث والدراسات في العالم الإسلامي. [ ص: 153 ]

          وهذا المصدر المهم يتمثل في الأوقاف، إذ قد تم استخدامها من قبل المسلمين الأوائل في سبيل نشر العلم والتعليم. وعليه، فالملاحظ في تاريخ النهضة العلمية في العصور الإسلامية الأولى أنه كان من أهم أسبابها توفر الأوقاف الخاصة بالعلم والتعليم، حيث سعى الخلفاء والأمراء الذين بنوا المساجد وشيدوا المدارس أن يجعلوا لها وقفا يسير أمورها المالية، من حيث النفقة على شراء الكتب ورواتب المعلمين والنفقة على الطلبة المحتاجين وغير ذلك مما تحتاجه المدارس لأداء مهمتها التعليمية والتربوية. ولذا، فقد اضطلعت الأوقاف بدور مهم جدا في تمويل الحركة العلمية والنشاط التعليمي في التاريخ الإسلامي.

          وعلى الجملة، فإن مراكز البحوث والدراسات تجد في الأوقاف والتبرعات الخيرية ما يقويها على القيام بمهمتها من حيث التشجيع على البحث العلمي ماديا ومعنويا.

          ج - استقطاب الكفاءات (الأدمغة) المهاجرة إن من الأمور المهمة جدا في عملية تطوير البحث العلمي والاعتناء به أمر استقطاب الكفاءات التي نبذت العالم الإسلامي ظهريا، حيث إنها تمـثل أزمة زادت التعليم في العالم الإسلامي تأزما والمشكلات تراكما. والمقصود بهجرة الكفاءات هـنا: العلماء من أبناء العالم الإسلامي، المشتغلون بمجالات المعرفة والعلوم المتنوعة، الذين حققوا كفاءة وقدرة ومهارة في مختلف التخصصات العلمية، ثم تركهم لمجتمعاتهم الإسلامية للعمل في المجتمعات الغربية. [ ص: 154 ]

          وبالإضافة إلى ذلك، فإنه يدخل في هـجرة الكفاءات واستنـزاف الأدمغة الإسلامية من ذهب في بعثة علمية، ثم بعد التخرج يفضل البقاء هـناك على الرجوع إلى العالم الإسـلامي. ولكن يستثنى من هـذا المصطلح - هـجرة الكفاءات الإسلامية- في حال ما إذا كانت هـذه الهجرة من بلد إلى آخر داخل العالم الإسـلامي، إذ إن مصلحة العالم الإسلامي واحدة، أو هـكذا يجب أن تكون، فضلا عن أنها لا تشكل خطورة على المؤسسات التعليمية، إذا لم تكن الفوارق في هـذه الهجرات كبيرة [4] .

          وبناء على ذلك، فإن هـذه الظاهرة التي اتخذت شكلا جماعيا تعد من المشكلات العصيبة التي تعاني منها الأمة الإسلامية اليوم، حيث يقع استنـزاف علمائها من ذوي الكفاءات العالية، والنوعيات الممتازة من الخرجين، سواء داخل العالم الإسلامي أو خارجه. ومما زاد هـذه المشكلة إعضالا أن العالم الإسلامي يشكو من قلة الطاقات وندرة الكـفاءات، وحتى في حـال توفرها في بعض البلدان الإسلامية، فإنها لم تحقق للأمة اكتفاءها الذاتي، مما اضطرها إلى استيراد كفاءات وخبراء في الميادين التي لم تحقق فيها اكتفاء ذاتيا. ثم إن هـذه الكفاءات المستوردة في مجال معين [ ص: 155 ]

          من التخصصات كالطب والهندسة وغيرهما، هـي نفسها تمثل أغلبية في نسبة المهاجرين من المسلمين، كما هـو بين من خلال الجدول الآتي، وذلك بالنسبة للمهاجرين إلى الولايات المتحدة فحسب: أعداد العلماء والمهندسين والأطباء المهاجرين

          إلى الولايات المتحدة في أواخر الستينيات من القرن العشرين [5]

          السنة الميلادية مهاجرون (علماء ومهندسون) مهاجرون (أطباء) 30 يونيو 1967 - 30 يونيو1968م 12.973 3.000 30 يونيو 1968 - 30 يونيو 1969م 10.225 2.757 30 يونيو 1969 - 30 يونيو 1970 م 13.337 3.155

          إذن، فليس بمستغرب أن تكون هـجرة الكفاءات أو هـجرة الأدمغة من العالم الإسلامي قد شكلت ألوانا من الخسائر قد تراكم بعضها فوق بعض؛ فمن جانب قد فقد العالم الإسلامي جزءا مهما من كفاءاته وقدراته ومهاراته، ومن جانب آخر قد استورد بدلا عنهم كفاءات أجنبية غربية غريبة عنهم، عقديا وفكريا وثقافيا، ومن جانب ثالث أن هـذه الكفاءات والخبرات المستوردة تكلفهم من المال أضعافا مضاعفة، كانوا في غنى عنها. [ ص: 156 ] فيما لو وظفوا كفاءاتهم المحلية واحتفظوا بها، أو بعبارة أدق حافظوا عليها. يضاف إلى ذلك أمر آخر على غاية من الخطورة متمثلا في أن وجود الخبرات والكفاءات المستوردة وتوفرها في العالم الإسلامي، مع ما يخصون به من احترام من قبل المسئولين، وما يتمتعون به من حرية في التصرفات، سبب قوي لإدخال عناصر غريبة عن الثقافة الإسلامية والمعتقدات الدينية للعالم الإسلامي، مما يحدث ضررا أكبر من النفع المنتظر منهم.

          فإذا تبين عظم خطر هـجرة الكفاءات على العالم الإسلامي، فإن هـذه الظاهرة لا تحدث من فراغ أو بدون سبب، بل هـناك العديد من الأسباب، منها أسباب اقتصادية، واجتماعية، وسياسية وغيرها [6] . ولكن الذي يعنينا في هـذه المقام الأسباب الأكاديمية التعليمية، إذ إن المهاجرين من ذوي الكفاءات إنما هـم خريجو التعليم في العالم الإسلامي في مرحلة من مراحله، يستثنى من ذلك من ولد في الغرب من المسلمين وباشر تعليمه هـناك. ولذا، فإن المؤسسات التعليمية في العالم الإسلامي تتحمل جزءا كبيرا من مسئولية هـذه الظاهرة التي تشكل خطورة كبيرة على التعليم في العالم الإسلامي، حاضره ومستقبله. ويتجلى سبب العجز في كون المؤسسات التعليمية في العالم الإسلامي لم تستطع الحفاظ على هـذه الكفاءات بطريق أو بأخرى، مما أدى إلى عجزها عن تنمية التعليم وتوفير الكفاءات للعالم الإسلامي، لأنها فقدت خريجيها فلم تسـتفد منهم أكاديميا في التعليم، [ ص: 157 ]

          ولا تقنيا، ولا مهنيا. ومما زاد في مضاعفة هـذا العجز المؤسساتي أن هـؤلاء المهاجرين من ذوي الكفاءات والمهارات العالية يصعب تعويضهم، وإن توفر ذلك فيكون في المدى البعيد مما يزيد العجز عجزا.

          ناهيك عن أن التعليم نفسه قد يكون سببا لهجرة كثير من المتعلمين، نظرا لتخلف التعليم في العالم الإسلامي، وما يؤدي إليه من نتائج هـزيلة، سواء في التكوين العلمي الأكاديمي، أو في الإنتاج. وعليه، فمن يرغب في تكوين أكاديمي أرقى وتعليم أحسن، فلا يجد أمامه من سبيل لتحقيق هـذه الرغبة التعليمية سوى الهجرة إلى الجامعات الغربية. ثم إن الطالب إذا تخرج، وأصبح من ذوي الشهادات، تمر بذاكرته التجربة التعليمية المريرة في العالم الإسلامي وما فيها من تخلف، فضلا عن عدم تشجيع البحث العلمي، وغياب الاحترام، وسوء المعاملة، مقابل ما تتحلى به الجامعات الغربية من رقي، وتشجيع على البحث العلمي وتمويله، وما يحظى به المتعلمون والخريجون من الاحترام وحسن المعاملة. فلا شك أن العاقل إذا قام بهذه المقابلة بين حالين، أحدهما تعيس والآخر بـهيج، فيختار التي أبهج على التي أتعس، ومن ثم فيفضل البقاء في بلاد الغرب على الرجوع إلى العالم الإسلامي. [7] [ ص: 158 ]

          ثم إن هـذه الهجرة إذا تواصلت بصفة مكثفة سيكون لها خطر مستقبلي على المؤسسات التعليمية، بحيث يصبح أفراد العالم الإسلامي حريصون على تعليم أبنائهم في الجامعات الغربية لتحقيق حصيلة علمية أفضل، وحياة أحسن، فضلا عن ابتعادهم عما يجره إليهم التعليم في العالم الإسلامي من متاعب ومصاعب، بل إن هـذا الخطر المستقبلي بدأت تظهر بوادره، إذ «قد لا يكون مسـتغربا في عـالمنا اليوم أن الأمر تجاوز هـجرة العقول والسـواعد معا إلى هـجـرة الأجنة قبل الولادة. وعليه، فلعل من أعز الأمـاني أن تلد الأمـهات أجنتها في أروبا أو أمـريكا لاكتساب الجنسية» [8] . [ ص: 159 ]

          هـناك والاستقرار، وضمان مستقبل أولادهم، الأمر الذي يجعلنا نتوقع عجزا تعليميا أكبر مما نحن فيه، إن لم تعمل المؤسسات التعليمية والسلط السياسية في العالم الإسلامي على الحد من هـذه الهجرة وتقليلها.

          والحاصل أن هـجرة العلماء والباحثين والخبراء قد اتخذت أبعادا مفزعة في السنوات الأخيرة إلى درجة تكاد أن تفرغ المنطقة الإسلامية من أخصب ثروة تملكها. لقد شملت الهجرة نخبة النخبة التي أنفقت المجتمعات الإسلامية أموالا طائلة على تكوينها أملا بأن تساهم يوما في نهضته الحضارية والعلمية. ولكن كلما وصل أكاديمي أو عالم إلى مرحلة النضج وبدأ يتهيأ للعطاء هـاجر إلى مركز بحوث أو جامعة غربية لتقطف الثمرة من دون أن تكون قد أنفقت عليها دينارا أو درهما، وذلك ينذر بتدهور التعليم في العالم الإسلامي، بل وربما خرابه.

          إذن، فلاشك أن العالم الإسلامي يتعرض لعملية نزيف بشري على غاية من الخطورة متمثلة في هـجرة الأدمغة والكفاءات إلى العالم الغربي. ولذا، فإذا لم تعمل الأمة الإسلامية على الحد من هـذا النـزيف وإيقافه فإن تواصله واسـتمراره خليق بأن يعطل عملـية التنمية العلمية تعطيلا لا تتخلص منه إلا بإيقاف هـذا النـزيف. ومن ثم، فيكون للمؤسسات العلمية ومراكز البحث في العالم الإسلامي شأن كبير وأثر فعال في الحد من هـجرة الكفاءات والتقليل منها بحيث لا تشكل ظاهرة جماعية يترتب [ ص: 160 ]

          عنها إحداث خلل في المجتمعات الإسلامية ينتج عنه عجز المؤسسات التعليمية عن تحقيق أهدافها المرجوة، من حيث إحداث تنمية علمية ونهضة حضارية. ولا يتم هـذا الأمر إلا بمعرفة الأسباب الكامنة وراء هـجرة العلماء من العالم الإسلامي تجاه العلم الغربي، والعمل المكثف من أجل القضاء على هـذه الأسباب، حتى يتسنى لنا إيقاف هـذا النـزيف العلمي الهائل والعودة به إلى موطنه الأصلي عزيزا مكرما [9] .

          ولذا، فمن الأهمية بمكان أن تستقطب المؤسسات التعليمية ومراكز البحوث في العالم الإسلامي هـؤلاء المهاجرين إلى العالم الغربي، وتعمل على إعادتهم إلى العالم الإسـلامي، بحيث تبذل جهدا من أجل توفيـر ما يرغبهم في العودة، وتجعل من يفكر في الهجرة يحجم عن ذلك، لأن «عدم توفر الظروف الملائمة للعلماء والباحثين، وحرمانهم من الامتيازات التي تقدمها مؤسسات التعليم ومراكز البحوث في العالم الآخر، وهذا بالتالي يعطي للباحث عذرا في قلة الإنتاجية أو عدمها أحيانا، ويدفع

          بالعالم الجاد والنشيط أن يبحث له عن مكان آخر أو مؤسسة تعليمية أخرى أو مراكز بحوث خارج الوطن العربي، ويبقى هـذا الجانب قائما [ ص: 161 ]

          لدى مؤسسات التعليم العالي العربية ومراكز البحوث العربية ما لم تحقق مؤسسات التعليم العالي ومراكز البحوث قدرا وحدا أدنى يوفر فرصة العطاء للباحث العربي» [10] .

          وعليه، فإن الملاحظ أن كثيرا من المهاجرين يتمتعون بكفاءات عالية ومهارات راقية، ولذا فهم خليقون بأن تبذل الأمة الإسلامية ما في وسعها من أجل الاستفادة منهم في العالم الإسلامي، ولاسيما إذا أخذنا بعين الاعتبار أن أغلب هـؤلاء المهاجرين من ذوي الكفاءات في تخصصات مهمة وضرورية للأمة الإسلامية مثل الهندسة والطب وغيرهما، مما يكلف العالم الإسلامي رواتب باهظة من أجل جلب متخصصين في هـذه العلوم من العالم الغربي. والحاصل أنه لو قامت مؤسسات التعليم ومراكز البحوث والدراسات في العالم الإسلامي بدراسة شاملة للدوافع وراء الهجرة، وحصرها حصرا دقيقا لتمكنت بعدها ولو تدريجيا من استقطاب كثير منهم، حيث إن بعضهم قد يكون سبب هـجرتهم أسباب سياسية، بل يعد أهم الدوافع للتخلي عن العالم الإسلامي، وقد يكون بعضهم الآخر يشعر أنه لا يجد احتراما وتقديرا في العالم الإسلامي مقابل ما يحظى به من تقدير واحترام وإعجاب في الجامعات الغربية، وغير ذلك من [ ص: 162 ]

          الأسباب الكامنة وراء هـجرة العلماء من العالم الإسلامي التي يمكن معالجتها وتفاديها إذا أحسنا التصرف معها.

          إذن، فمثل هـذه الأمور وما شاكلها، بإمكان المؤسسات التعليمية ومراكز البحوث أن تقوم بتوفير المناخ المناسب للمهاجرين من حيث الاحترام والتقدير والحرية والتشجيع على الرجوع والقيام بأبحاثهم ودراساتهم وأهمية تعليمهم في أي قطر من أقطار العالم الإسلامي سواء أكان قطره الأصلي أم غيره، فكلها تمثل الأمة الإسلامية ككل. وزيادة على ذلك، فإن الاعتناء بالبحـث العلمي من حيث التشـجيع عليه وتمويله، كما سبق بيانه، عامل مهم جدا من عوامل استقطاب الأدمغة المهاجرة، لأن معظمهم يشتغلون بالبحث العلمي وإنجاز الدراسات القيمة، مما تعتني به الجامعات الغربية وتموله تمويلا لا يتصوره باحث في العالم الإسلامي، وإذا بلغ مسامعه عده ضربا من الـمحال أو حسبه ضربا من أساطير الأولين.

          وعلى الجملة، فالقصد من هـذا الكلام المتقدم أن تهتم البلدان الإسلامـية بمؤسسات البحث العلمي ومراكز الدراسات، إنشاء وتمويلا وتشجيعا، إذ إنه ليس من المعقول أن يكلف ثـلة من العلماء بأن يفرغوا للبحث والتأليف ولا يوفر لهم ما يقوتهم وعيالهم، وحتى إذا لم يكن باحثا

          متفرغا، وكانت له رغبة في انجاز بحوث علمية فلتمد له يد المساعدة ماديا ومعنويا، وبدون ذلك فأنت تطلب المستحيل. [ ص: 163 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية