إذا كان هـدف الأديان الأسمى هـو بذل المجهود للوصول إلى الكمال الأخلاقي، على مستوى الفرد والمجتمع، وذلك بتحقيق التقدم في مجالات الفكر والخير والعدل والمحبة والجمال، فإن التقنية لا بد أن تهدف أيضا إلى الوصول بالنوع الإنساني للكمال في كل ما يؤدي به للسعادة البشرية. ومن المهم التأكيد هـنا على قدرة العلوم الفذة في استشراف الآفاق المستقبلية واستبصار ما ينبغي أن يكون؛ كما وأن لها القدرة على كشف عقم وقصور الظروف المعرفية وضرورة تجاوزها بعد أن استنفدت مقتضياتها، ولكن بشرط الأخذ في الحسبان السلامة النفسية والجسدية للفرد [1] . وهنا نصل إلى نتيجة حتمية ألا وهي أن المعنى الجوهري للتقنية لا بد أن يكون إنسانيا وأخلاقيا، وذا طبيعة ثقافية عالية وعميقة تمتد لتصل إلى كل ما حولنا من معنويات إضافة إلى الماديات. ومن ثم يتوجب على خبير التقنية أن يضع نفسه في خدمة القيم العليا، والعمل على خلق القيم الجديدة الملائمة للعصر، بحيث يصل إلى نظرة راقية في الحياة يمكن أن تنشأ منها حضارة عادلة وشاملة.
لقد بدأت العلوم كإنجازات شخصية أو معارف فردية، ومع تواتر التقدم العلمي ازداد العلم إمعانا في طابعه الجماعي التعاوني، خاصة مع ارتفاع تكاليف البحث العلمي وتعقد آلياته وضخامة برامجه؛ واليوم لا بد من [ ص: 50 ] إضافة التخطيط التحذيري المبرمج للبحث والتطبيق العلمي حتى تؤتي التقنية ثمارها غير السامة. وقد وجب علينا التساؤل عن الهدف الحقيقي للبحث العلمي؟ حيث إنه من الواضح تحول معظم العلوم إلى تجارة مادية منظمة تمولها الجامعات والمؤسسات والشركات الكبرى؛ كما تحول هـدف العالم من الأمانة العلمية ومن الاكتشاف المخلص للظاهرة إلى السيطرة التامة، ثم إلى التغيير والتبديل في طبيعتها حتى تكون طائعة منضوية تحت كنف العالم وإمرته، حيث يزج بها في دوامة العنف والمادة. هـكذا سادت ظاهرة السيطرة والاحتكار العلمي، وبات لكل دولة مستودع من الأسرار العلمية والتقنية التي تخدم التسلح أكثر من خدمة البشرية، بل ربما أصبح التنافس شديدا اليوم لاكتشاف أحدث سلاح للقضاء على البشرية وبأقصى سرعة ممكنة حتى يمكن استخدامه في الحروب [2] .
ومن الواضح أن العلم قد أصبح اليوم صنيعـة وفعالية يتحكم الفرد بأدق ذراتها، والخوف كل الخوف أن يتحـول ذلك إلى مغامرة غـير إنسانية لا تعرف نهايتها. ولا بد من التأكيد في هـذا السياق بأن أنظمة العلم الأساسية جديرة بالإعجاب خاصة ما يتعلق منها بأنظمة الوظائف الدقيقة للخلايا وكشف مدى ترابطها وتعاونـها؛ كذلك كشف لنا العلم عن أنظمة غاية في الإبهار من ناحية الترتيب والجمال، وعلى العالم الحق أن [ ص: 51 ] يحرص على كشف ما يجعلها أكثر في الروعة والإعجاز لكن دون تبديل لخصائصها الطبيعية [3] .
كل العوامل السابقة خلقت ما يسمى اليوم بعلم العلم (Scientology) الذي يضم كل فروع الدراسات التي تؤدي إلى الإحاطة بظاهرة العلم، ومن أهمها تاريخ العلوم، وسيكولوجيا البحث والإبداع العلمي، وقيم البحث، وقيم المجتمع العلمي الكائنة وما ينبغي أن تكون؛ ثم كيفية توثيق علاقة العلم بالأطر الأيديولوجية وبالأنظمة الاقتصادية والسياسية العادلة. كذلك الاهتمام بالمؤسسات العلمية والأسس التخطيطية لنشأتها وتحديد أهدافها والأساليب المثلى لإدارتها من ناحية التوظيف الأمثل لنظم المعلومات وشبكة الاتصالات العالمية؛ كما يضم هـذا العلم علاقة العلوم المختلفة بالتنظيمات والمتطلبات الاجتماعية، وقضية الثقافة العلمية، والاهتمام الخاص بمناهج وأساليب تدريس العلوم وإعداد العالم، وسائر أبعاد تنمية المناخ المهيأ للعطاء العلمي النقي.
من خلال هـذا النظام، يمكن أن تحقق الحضارة أهدافها الخيرة وقد تصبح العلوم في خدمة أولئك الذين من أجلهم وبهم خطت العلوم خطواتها الأولى. لقد تجاوز العالم اليوم مرحلة الافتتان بالعلم، وما تريده البشرية اليوم هـو ترويض العلم لحل المشكلة البيئية الضخمة، التي تشمل استنفاد الموارد وتراكم النفايات والتعاظم المتوالي لأسلحة الدمار الشامل، التي تستنفد معظم [ ص: 52 ] موارد الدخل القومي دون مردود إيجابي؛ وقد تخترع الدول العظمى نظاما من العقوبات الصارمة لقهر الشعوب يعتمد على التطبيقات العلمية؛ وربما تم بالفعل تسويق ملابس وأحزمة بها أقراص من اليورانيوم تسبب العقم والسرطان لشعوب معينة! كذلك قد يتم استغلال السلاح البيولوجي كالجينات الوراثية والفيروسات وغيرها في القضاء على بعض الشعوب!
لأول مرة في تاريخ الحضارة البشرية يتوصل الإنسان إلى قمة التحضر والتخلف في آن واحد، والعجيب أنه قد تمكن من معرفة الأسباب الحقيقية التي تؤدي إلى التخلف، وبالرغم من ذلك فهو لا يزال متمسكا بها! وكلما أمعنت البشرية في تقدمها كلما تفشت بها الأمراض الجسدية والعاهات النفسية والانحرافات الخلقية! ومما يزيد الطين بلة أن التطور الإنساني الأخلاقي قد حدث ببطء شديد، أما التقنية فإنها تتطور كما يشابه انتشار النار في الهشيم، وهاهي اليوم تسابق طاقة الفرد وقدرته على التعامل معها [4] ! ترى هـل ستقوى هـيمنة الآلة؟ أم سوف يتم التحرر منها ومن استعباد حضارة الاستهلاك المتفشية بيننا ومن أغراضها الجاذبة لحواسنا والمتسلطة على الفكر والوقت والمال والجهد؟ أو هـل سيكون العجز عن مواجهة هـذا التهديد بداية لحلول نهاية حضارتنا؟ إذ عادة ما يبدأ الانحدار بعد الوصول للقمة مباشرة، يقول الشاعر:
إذا تم شيء بدا نقصه ترقب زوالا إذا قيل تم
[ ص: 53 ] ولنا الحق في أن نتساءل: ما حجم الفوائد التي حققتها التقنيات في المجالات الإنسانية؟ وهل يمكن مقارنتها بتلك التي تسبب الدمار والخراب والعلل والأمراض؟ لا يزال العنف هـو المسيطر على الموقف؛ وتقدر المنظمات الدولية عدد الأشخاص الذين يقتلون في العالم في كل ساعة نتيجة نزاع مسلح بخمس وستون فردا! وخلال القرن العشرين قتل نحو 195 مليون شخص بصورة مباشرة أو غير مباشرة (نصفهم من المدنيين ) نتيجة حروب غير عادلة! كما أن أكثر من 5% من المسنين و3% من الأطفال في العالم قد وقعوا ضحايا أعمال العنف والقسوة غير المبررة.إن التطور التقني يمضي بنا في هـذا الاتجاه المخيف، وللأسف الشديد؛ أيها الإنسان المتحضر قد تكون ذا مظهر راق ونفس أنانية جشعة! وقد يكون الحيوان الأعجم أكثر منك إيثارا وحنانا ورحمة! فأين التحضر والمدنية؟
يقول تعالى: ( إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ) (الكهف:7-8) ،
ويقول تعالى: ( حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا ) (يونس:24) . [ ص: 54 ]